رأي آخر في جريمة!!
بقلم : ميسون شقير ... 23.10.2020
يقول جورج برنارد شو "يستفزونك ليخرجوا أسوأ ما فيك، ثم يقولون لك هذا أنت، لا يا عزيزي، هذا ليس أنا، هذا ما تريده أنت". نعم هذا ما يريده مجتمع يخضع لدكتاتوريات سياسية، واجتماعية ذكورية، حولته إلى مجتمع جاهل مليء بالعقد النفسية والتربوية والقانونية، مجتمع لا يزال يربي المرأة فيه على أنها ضلع قاصر، وكائن ضعيف ومستضعف، يفتقر للحكمة وللوعي وللحقوق القانونية التي تحقق له المساواة بالكرامة، كما يفتقر إلى الشعور بأن العاطفة التي يملكها وفعل الأمومة الذي يقدر عليه هو مثار غنى له ومثار إعطائه مزيدا من الحقوق، وليس عكس ذلك تماما.
لا شك أن تلك المرأة العراقية التي رمت في النهر قلبها مع طفليها، تلك الأم الطفلة التي تملأ صورتها وسائل التواصل الاجتماعي، وصلت إلى حالة نفسية وعقلية غير صحيّة وغير متوازنة، وهو الأمر الذي جعل غريزة الأمومة وعمقها في داخل كل أنثى، يتهاويان أمام الحالة والإصابة النفسية والعقلية التي تعيشها. ولا شك أيضا أن فعلا كهذا ترفضه كل الأعراف، وترفضه قوانين الطبيعة نفسها، مثلما رفضته كل الحضارات والعبادات والأديان، لأنه يشكل صفعةً على وجه الإنسانية جمعاء.
وفي المقابل، علينا قبل أن نعرف أولا أن هذه المرأة قد قتلت مع طفليها البريئين، روحها بشكل كامل، أولا لأن فعل الانتقام يدمّر نفسه بنفسه، كما قال كونفوشيوس: "قبل الشروع في رحلة انتقام، احفر قبرين". وكما قال المهاتما غاندي: "مبدأ العين بالعين يجعل كل العالم أعمى". ثانيا، لأن الأم بعد أن تفقد أطفالها، ومهما كان السبب، تتحول إلى شبح يسير على الأرض، إلى كائن بلا ملامح ولا روح، فكيف حين تقتل هي، ومهما كان السبب، أطفالها، فإنها ستتحول، بالمطلق، إلى جثة متعفنة متحرّكة تتمنى فقط لو أن الأرض انشقت وبلعتها قبل لحظة قتلهما.
يقول شكسبير: "إذا وخزتنا، فستجد أننا لا ننزف؟ إذا داعبتنا فستجد أننا لا نضحك؟ إذا سمّمتنا، فستجد أننا لا نموت؟ وإذا آذيتنا، فلن ننتقم؟"، قاصداً من كلامه أن الانتقام أمر طبيعي يمكن التنبؤ به مثل شروق الشمس. وتقول روبن غاينز لانزي، أستاذة السلوك الصحي في جامعة آلاباما، لصحيفة نيويورك تايمز: "كل شيء يبدأ من طبيعتنا، لأن البشر كائناتٌ تسعى إلى الحماية، بخاصة عند الشعور بالتهديد، وأكبر تهديد للروح هو تعرضها للظلم الشديد وعجزها عن تحقيق العدالة وعن معاقبة الظالم، وحينها تعاقب نفسها، لأنها عاجزة وتصبح مستعدة لأي شيء". لذا، وقبل أن نستمر في جلدنا المفرط لهذه الأم، وهو ما يستحقه عملها، بحد ذاته، يجب أن نحاول، ولو مرة، النظر جيدا في مرايانا غير السحرية، متفهمين أن الرغبة في الانتقام عند التعرّض لظلم حقيقي هي شعور إنساني، لا ينفصل عن الرغبة في الحب، وعن الشعور بالألم، متعمقين بمدى الأذى الإنساني الذي قد تعانيه أم تقتل أطفالها، فقط لكي تجعل زوجها يعيش القهر والحزن والعجز الذي عاشته هي.
ربما يجب أن نسأل أنفسنا: من أين نبع هذا الإحساس العميق بالظلم والعجز الذي جعل من هذه المرأة تعض نفسها وتأكل قلبها وترمي بطفليها إلى النهر؟ حينها ربما نعود إلى طريقة تربيتنا جميعا، وإلى إحساس الذنب الذي يلازم كل أنثى ولدت في هذا الشرق المحكوم عليه بالخيبات، وإلى الغلط والتخلخل النفسي والتربوي الذي يترافق مع الإحساس بالذنب، واللجوء إلى الكذب والحيل والغطرسة التي ترافق الشخصية المدانة دائما.
وربما نفهم أيضا أن قوانيننا المبنية على ظروف مجتمع يعود إلى 1500 عام تجعل المرأة حاملة بين يديها حجارة الإحساس باليأس وبالعجز المتمثلة بتزويج الفتاة قبل أن تبلغ سن الرشد الفكري، وقبل تخرّجها من جامعة أو معهد، يضمن لها استقلاليتها المادية، والحصول على مرجع ثقافي يعلي بداخلها قيم الإنسانية، ويخفف من ثقافة الانتقام، ويزيد من قدرتها على حضانة طفلين في عاميهما الثاني والثالث، بعد انفصالها عن زوجها، والمتمثلة بقوانين لا تزال تحرم الأم من حضانة أطفالها الكاملة وغير المشروطة، وتضعها دائما في خانة القاصر، ناقصة العقل والدين.
عميق، ومظلم وقهري هو سعي الإنسان للانتقام الذي يعتبر عاطفة معقدة إلى درجة أن العلم وجد صعوبة في شرحها، لذا ربما علينا الآن، بقدر ما ندين ما قامت به تلط الأم، أن نسعى، مع كل المنظمات الحقوقية والمدنية والمسؤولين عن تنظيم علم النفس الاجتماعي، من أجل تغيير قوانيننا وعاداتنا ومفاهيمنا التي عفا عليها العالم، ومن أجل بناء العدالة الاجتماعية الحقيقية من خلال بناء الإنسان القوي والواثق بنفسه وبالقانون، الإنسان الساعي وراء الخبرة والتعليم، لتحقيق ذاته، ووعيه ووجوده، لعلنا نكتشف فيما بعد عيوبنا ونقوم بتحسينها بينما نتقدم في طريقة التفكير والتصرّف، ولعلنا نتخلص من مأساة الانتقام العنيف الذي يعد فعلا قاهرا معقدًا وجزءا من الاستثمار البشري السلبي، الذي يتسبب دائما في فقدان الإنسان لبراءته.
لعلنا بعد هذه الجريمة الصادمة، نحلل بعمق، مثلما ندين بعمق، التصرف الغريب، كي لا نقتل، جميعنا، وبأيدينا، أغلى ما نملك، ولا نتحول مثل هذه الأم إلى أشباح تتقن فقط جلد الجاني والضحية.
**المصدر : العربي الجديد
www.deyaralnagab.com
|