نساء غزة يبعن زينتهن للبقاء!!
بقلم : بهاء طباسي ... 22.07.2025
غزة –خرجت أم سامي القاضي من سوق القيسارية بخطى بطيئة، تحمل في يدها كيسًا بلاستيكيًا صغيرًا يحتوي على المال القليل الذي حصلت عليه بعد أن باعت آخر ما تبقى من مصاغ بناتها وزوجات أولادها. كانت الشمس تميل إلى الغروب، وملامح الحزن تغلف وجهها المتجهم، كأنها غادرت السوق وهي تجر خلفها ظلًا مثقلًا بالخذلان.
توقفت للحظة عند مدخل السوق، ونظرت خلفها نظرة طويلة حزينة، كأنها تُلقي نظرة وداع على زمنٍ مضى، أو على ما تبقى من كرامة امرأة قاومت كثيرًا قبل أن تُجبرها الحرب على التنازل عن أثمن ما تملك.
لم تتحدث كثيرًا في البداية، لكن حين لامس الحديث جرحها، انفرج صوتها بحشرجة حزينة قائلة: «لقد بعنا كل شيء، ذهب البنات، خواتم الزوجات، حتى الدبل أخذها سوق لا يرحم».
لم تكن أم سامي تتوقع يومًا أن يصبح الذهب الذي كانت تدخره لبناتها وزوجات أبنائها وسيلة للنجاة من الجوع، لا زينة ولا وجاهة. أساور كانت تهديها في الأعياد، أقراط ورثتها من والدتها، دبل حفلات الزفاف… كلها ذهبت إلى بائع الذهب في سوق القيسارية. ما تبقى من الذكريات العائلية سُحق تحت وطأة القصف، وما تبقى من قيم العائلة ذاب في أفران المصاهر.
«فقدنا كل شيء»
تحاول أم سامي التماسك وهي تتحدث عن معاناتها لـ«القدس العربي»: «لم يبق معنا أي دخل. لا أولادنا يعملون، ولا زوجاتهم، ولا حتى البنات قادرات على إيجاد عمل. كل ما معنا خلص. والمساعدات لا تصل، والخبز أصبح أغلى من الذهب نفسه». تضع يدها على جبينها كمن يتقي ألمًا داهمًا.
ثم تتابع: «كنت أقول للبنات اصبرن، سيأتي الفرج. لكن الأطفال لا يصبرون على الجوع».
ما جرى مع أم سامي ليس حالة استثنائية، بل هو فصل من فصول الحكاية الممتدة في غزة. نساء كثيرات وجدن أنفسهن في مواجهة العدم، ومن بقي لديهن ذهب، تخلين عنه دون تردد. «ما فائدة الذهب إذا كان الجوع ينخر عظام الأطفال؟»، تسأل المرأة الخمسينية بنبرة لا تنتظر إجابة.
قصة الحرب والذهب
لم تكن سوق القيسارية في غزة، المعروفة محليًا باسم «سوق الذهب»، تعرف هذا النوع من الزبائن، فلطالما كانت مقصداً للعرائس المقبلات على الزواج، والرجال الباحثين عن هدايا ثمينة. اليوم، تحوّلت هذه السوق إلى مرآة لانهيار اقتصادي واجتماعي تعيشه غزة بفعل حرب إبادة إسرائيلية تجاوزت الشهر الحادي والعشرين.
في هذا السوق العريق، تنتشر عشرات المحال التي كانت يومًا تضج بالحركة. أما الآن، فالمشهد تغيّر تمامًا: نساء بملامح شاحبة وأياد مترددة يدخلن محال الذهب، لا لشراء جديد، بل لبيع ما يحتفظن به منذ سنوات، أو ما ورثنه عن أمهاتهن وجداتهن.
بيع الذهب في غزة لم يعد قرارًا ترفيهيًا أو إجراءً وقتيًا، بل هو وسيلة اضطرارية للبقاء. العائلات لا تجد قوت يومها، والمساعدات الإنسانية شحيحة، والمخيمات تغص بالنازحين، والخيام لم تعد تقي حر الصيف أو برد الشتاء. في هذه البيئة القاسية، أصبح بيع الذهب بمثابة صرخة استغاثة، لا يسمعها العالم.
المعاناة ليست فردية، بل جماعية. آلاف النسوة في غزة اتخذن القرار ذاته. الذهب الذي كان في يوم من الأيام حُليًا للزينة، أصبح جسرًا لتجاوز الجوع والعوز، في ظل انعدام الدخل وتفشي البطالة. وهكذا بات الذهب – رمز الفرح – شهادة على بؤس الواقع.
تقول أم سامي بحرقة: «الرجال في بيوتنا أصبحوا بلا عمل ولا كرامة. أولادنا يجلسون مكتوفي الأيدي، يتحسرون على عجزهم. أحدهم مهندس، والثاني كان يعمل في التجارة، والثالث فقد مصدر رزقه بعد تدمير ورشة صيانة السيارات الخاصة به. اليوم، كلهم عاطلون، لا يملكون شيئًا، ولا يقدرون على شيء».
تصريحات أم سامي تأتي في سياق مأساوي تؤكده الأرقام. فبحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة البطالة في قطاع غزة خلال الربع الرابع من عام 2024 حوالي 68%، في قفزة مرعبة عن 45% التي سُجلت في الربع الثالث من عام 2023. هذا يعني أن أغلب الرجال في القطاع أصبحوا بلا مصدر دخل.
المؤشرات لا تقتصر على البطالة فقط، بل تشير أيضًا إلى تراجع نسبة المشاركة في سوق العمل إلى حوالي 30% فقط، مقابل 40% قبل الحرب الأخيرة. هذا التراجع انعكس بشكل مباشر على قدرة العائلات على الصمود، فباتت الأمهات يقدن معركة البقاء بدلاً من الرجال.
الفئة الأكثر تضررًا كانت الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا، حيث خرج نحو ثلاثة أرباعهم من سوق العمل والتعليم والتدريب. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات اقتصادية، بل هي مؤشرات انهيار مجتمع بأكمله، تمزقه الحرب والعوز.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الذهب – رغم غلائه – كان الخيار الوحيد المتاح أمام النساء لتأمين قوت أبنائهن، وهو ما يعكس حجم التدهور الاقتصادي الذي تعانيه غزة، وحجم الفراغ الذي خلّفته الحرب في حياة الأسر.
زينة الجوع
في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس أم أكرم الغلايني، امرأة ثلاثينية، داخل خيمتها وتروي قصتها بنبرة خافتة، تكاد لا تُسمع. تقول: «بعت قلادتي الذهبية، كنت أعتز بها كثيرًا، كانت هدية زفافي من زوجي. لم أكن أتخيل يومًا أن أبيعها، لكنها لم تعد أغلى من أطفالي». تحبس دموعها ثم تتابع حديثها لـ«القدس العربي»: «كان أولادي يبكون من الجوع. لم يكن لدينا حليب أو خبز. زوجي لم يعد يستطيع العمل. كل شيء مغلق، والناس في طوابير طويلة على وجبة ساخنة أو كيس طحين. ما العمل؟».
أم أكرم ليست وحدها، فالمجاعة التي تضرب غزة منذ شهور دفعت بالعديد من النساء لاتخاذ قرارات مؤلمة. المجاعة ليست مجرد نقص في الطعام، بل نقص في الكرامة والخيارات. ومع انعدام الدعم وتوقف المساعدات، تصبح المصاغ الذهبي الملاذ الأخير.
توضح أم أكرم: «الذهب لم يعد زينة، بل صار وسيلة للعيش. بعت القلادة واشتريت بثمنها طحينا وزيتا وخضارا أطبخه للأطفال. لا أعرف ماذا سأفعل إذا نفد كل ذلك. ربما أضطر لبيع خاتم زواجي قريبًا».
ركود القيسارية
في قلب سوق القيسارية، يقف حسان بدوي، تاجر ذهب ستيني، داخل متجره الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب. ينظر إلى واجهات العرض الفارغة.
يقول: «أصبحت النساء يأتين لبيع ما لديهن من ذهب. دبلة، حلق، خاتم، أي شيء يمكن أن يتحول ثمنه إلى طحين أو عدس».
يتحدث حسان عن التغيير العميق في سلوك السوق: «كنا نرى الناس يشترون للفرح، للعروس، للهدايا. الآن، البيع فقط. لم يعد هناك شراء. وأصبحنا نحن التجار في ورطة، فمع كثرة البائعين، لم تعد لدينا سيولة لشراء كل هذا الذهب».
يشرح حسان خلال حديثه لـ«القدس العربي» أن الركود ضرب السوق بقوة، وأن استمرار هذا الحال سيؤدي إلى إغلاق كثير من المحال، ويضيف: «نواجه ركودًا غير طبيعي، وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، قد نُجبر على إغلاق أبوابنا». الذهب، في نظر حسان، لم يعد سلعة مربحة، بل عبء اقتصادي. يختتم حديثه بحسرة: «الناس تبيع آخر ما لديها، ونحن نعجز عن الشراء. هذه ليست تجارة، هذه مأساة».
خسائر التجار
يؤكد إياد بصل، نائب رئيس نقابة الصاغة وتجار المعادن الثمينة في غزة، أن القطاع يعيش واحدة من أسوأ فتراته. ويقول: «نواجه تباطؤًا حادًا في حركة البيع والشراء، أدى إلى تراكم كميات كبيرة من الذهب في المحال، وسط أزمة سيولة خانقة بفعل الحرب».
ويضيف في تصريح لـ»القدس العربي»: «قلة الطلب أدت إلى بيع الذهب بأسعار أقل بكثير من السعر العالمي، بفارق يتراوح بين 400 و500 دولار لكل كيلوغرام. هذا يعني خسائر كبيرة للتجار الذين يضطرون للبيع دون هامش ربح».
وأوضح بصل أن سعر غرام الذهب المحلي يبلغ حاليًا 50 دينارًا أردنيًا للشراء و53 دينارًا للبيع، بينما يفترض أن يكون السعر 60 دينارًا. ويؤكد: «نخسر في كل كيلوغرام حوالي 10 آلاف دينار، وهذه كارثة على التجار». ويُقيّم الذهب في غزة بالدينار الأردني، ويساوي الدينار الأردني 1.41 دولار. وأشار إلى أن اعتماد معظم التجار على الدفع النقدي زاد من حجم الأزمة، في ظل توقف حركة الذهب بين غزة والضفة، وتكدس المخزون داخل القطاع. وأردف: «الوضع خانق من كل الجهات. البيع قليل، الشراء متوقف، والتنقل معدوم».
كما نوه بصل إلى تعرض عدد من التجار للسرقة خلال اقتحامات الاحتلال الأخيرة، ما زاد من حجم الخسائر. وقال: «نحو 10 تجار تعرضوا لنهب محالهم أثناء الاقتحامات، وهذا فوق كل ما خسرناه من دمار ونزوح».
ذهبٌ لا يلمع
غياب عمليات الشراء حول الذهب في غزة من زينة إلى عبء. وفيما كانت الأمهات يدخرنه لأيام الفرح، اضطررن لبيعه في أيام الموت والجوع، لتتحول المقولة الشعبية الشهيرة «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود» إلى واقع مؤلم، فالأسود لم يأتِ فقط، بل امتد واستحكم.
في غزة، النساء لا يبعن الذهب من أجل الرفاهية، بل من أجل الحياة. من أجل لقمة، من أجل دواء، من أجل حليب للأطفال، من أجل بطانية. إنهن يقدمن ما لديهن من زينة لشراء الحد الأدنى من الحياة. لكن إلى متى؟ سؤال لا تجد له أم سامي، ولا أم أكرم، ولا حسان، إجابة.
*المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|