من الرماد إلى اللهب الأزرق… قصص صبر النساء في غزة!!
بقلم : وردة الشنطي ... 23.10.2025
عاد غاز الطهي إلى غزة ليحوّل حياة الأسر الصغيرة بشكل كامل، ففي المطابخ المزدحمة والخيام المتعبة، كان اللهب الأزرق يشتعل بهدوء، ينير المكان ويزيل رائحة الدخان والرماد التي اعتادت عليها النساء كل يوم أثناء الطهي على الحطب.
لم تعد أيديهن متسخات من جمع الحطب، ولا أقدامهن تعبث بالرماد.. بل أصبح الطهي أكثر سهولة وأمانًا، والأطفال يتناولون الطعام بحرية وراحة، فكانت ابتسامة النساء، وخصوصًا الأمهات، تعبيرًا عن فرح داخلي طويل.. فرح لم يكن فقط بسبب الطعام، بل بسبب عودة جزء من الكرامة والراحة والنظام إلى حياتهن اليومية، ففي تلك اللحظة، لم يكن الغاز مجرد وقود للطهي، بل رمز صغير للأمل، يذكّر الجميع بأن الحياة رغم كل الصعاب لا تزال قادرة على منح لحظات من الفرح والطمأنينة وسط شظايا الحرب والدمار.
ابتسامة اللهب
بعد سبعة أشهر من الانتظار والضيق، دخلت رائحة الغاز إلى بيت أم ناجي خليفة كما لو كانت نسمة من حياة جديدة.
وقفت أمام أسطوانة الغاز تنظر إليها بدهشة وفرح لا يُوصف، تمرر يدها على سطحها المعدني كمن يطمئن على عزيز عاد من الغياب، طوال الشهور الماضية كانت تطهو على النار في فناء البيت، تجمع الحطب بصعوبة من أطراف مخيم المغازي، يلسعها الدخان وتدمع عيناها وهي تحاول إعداد وجبة بسيطة لأطفالها، فكانت أياديها خشنة، وملابسها تفوح برائحة الرماد، لكنها لم تشكُ.
كانت تقول الستّ ما بتوقفها النار، رغم أن التعب كان يسكن في كل تفاصيل وجهها. فاليوم، حين سمعت صوت الغاز يشتعل من جديد، ضحكت ضحكة طويلة تملأ المكان، شعرت أن الحرب أخيرًا رفعت عن كتفيها ثقلًا من العناء، وضعت إبريق الشاي على النار، ووقفت تراقب اللهب الأزرق كأنه مشهد من فيلم حلمت به طويلًا، غمر البيت دفء مختلف، ليس فقط من حرارة الغاز، بل من شعور العودة إلى حياة شبه طبيعية، نادت على ابنها ناجي ليتذوق أول كوب شاي بطعم الغاز، وقالت وهي تبتسم: «رجعت ريحة البيت يا يما، كانت تلك اللحظة الصغيرة، بكل بساطتها، إعلان نصر شخصي لأم أنهكتها الحرب والنار والحطب، لكنها لم تفقد قدرتها على الفرح، لأن أبسط ما في الحياة لهب صغير تحت قدر الطعام صار يعني لها انتصارًا على كل ما حاول أن يطفئ صبرها».
طهو الكرامة
تعيش حياة يونس، الأم الأربعينية، في خيمةٍ صغيرة نُصبت على أطراف مخيم المغازي بعد أن تهدم بيتها في الحرب.
فالخيمة مصنوعة من قماشٍ سميك يقيها الريح بالكاد، وأرضها مفروشة ببطانية قديمة تحاول أن تمنحها شيئًا من الدفء. فمنذ أشهر وهي تطهو على الحطب خارج الخيمة، تجمع بقايا الخشب من الشوارع، وتنفخ في النار بيديها المتعبتين حتى يشتعل اللهب، كان الدخان يخنقها ويملأ الخيمة برائحته الثقيلة، فتسعل وتغسل الأواني مرارًا لتزيل السواد الذي يلتصق بها، وكانت تقول لأطفالها وهي تلوّح بيدها للدخان: اصبروا، رح يرجع الغاز، ونرجع نطبخ زي الناس.
عاد غاز الطهي… فابتسمت الأمهات
وحين عاد غاز الطهي إلى غزة بعد سبعة شهور من الانقطاع، شعرت حياة وكأن معجزة وقعت، حملت الأسطوانة الصغيرة إلى خيمتها وكأنها كنز، وضعتها جانب الموقد المعدني القديم، وأشعلت النار لأول مرة منذ شهور، اشتعل اللهب الأزرق بهدوء دون دخان، فامتلأت الخيمة برائحة نظيفة دافئة، وقفت تحدق باللهب، تبتسم والدموع في عينيها، كان منظر اللهب يعني لها أكثر من الطبخ، كان يعني عودة الحياة، والكرامة، والنظافة التي افتقدتها طويلًا.
ذلك اليوم لم يكن عاديًا، غسلت الأواني بفرح، وعلّقت قدر الفاصولياء فوق الموقد وقالت لأطفالها: اليوم الغداء بطعم الراحة، ضحكوا جميعًا، وشعرت أن الخيمة الصغيرة تحولت إلى بيتٍ حقيقي، ولم يعد الدخان يملأ أنفاسها، ولا الرماد يغطي وجوههم، وبالنسبة لحياة عودة الغاز لم تكن مجرد لهبٍ يشتعل، بل ضوء أملٍ أضاء خيمتها المتعبة، وأعاد لها الإحساس بأن تحت هذا القماش المهترئ ما زالت هناك حياة تستحق أن تُعاش.
فمنذ أشهر طويلة، كانت جميلة نصار، أمٌ لأربعة أطفال في مخيم البريج، تعيش معاناة يومية مع كل وجبة تطهوها، فقد كانت نوبات الربو تهاجمها كلما أشعلت نار الحطب في فناء منزلها الضيق. فكان الدخان يتسلل إلى صدرها قبل أن يتسلل إلى القدر، فتسعل بقوة حتى تدمع عيناها، وتضطر للتوقف مرات عدة لتلتقط أنفاسها المتقطعة، كانت تحاول حماية وجهها بقطعة قماش مبللة، لكن الدخان كان أقوى من كل محاولاتها، في كل مرة كانت تقول لنفسها بصوتٍ متعب: يا رب بس يرجع الغاز، أرتاح أنا وأولادي.
وفي صباحٍ من أيام تشرين الأول/ أكتوبر، دوّى الخبر في الحي كالبشرى شاحنة الغاز وصلت أخيرًا بعد سبعة شهور من الانقطاع، هرعت جميلة إلى الجيران، لم تصدق حتى رأت الأسطوانات تُوزَّع أمام البيوت، أمسكت بأسطوانتها الصغيرة بكل ما تبقى من قوتها، وابتسمت ابتسامة حقيقية بعد شهور من الكتمة والضيق، وحين عاد الغاز إلى مطبخها، وأشعلت الموقد لأول مرة، شعرت أن الهواء أصبح أنظف وأن صدرها تنفّس للمرة الأولى منذ زمن.
جلست على كرسيها المعدني تراقب اللهب الأزرق الهادئ، لا دخان، لا سعال، ولا دموع.
قالت لابنتها وهي تضع قدر الأرز: هالغاز مش بس راحة، هذا شفاء، صار المطبخ أكثر دفئًا وهدوءا، وصارت جميلة تقضي وقت الطبخ وهي تغني بهدوء بدلاً من أن تسعل، في تلك اللحظة، لم يكن الغاز مجرد وسيلة للطهي، بل كان عودة إلى حياةٍ صحيةٍ وآمنةٍ، عودة إلى تنفسٍ طبيعي بعد شهور من الاختناق.
فمع عودة الغاز إلى غزة، لم يعد البيت مكانًا للطهي فقط، بل صار مساحة تعج بالحياة والأمل بعد شهور من الصبر والمعاناة.
فكل لهب أزرق يشتعل في المطابخ والخيام يحمل شعورًا بالطمأنينة والراحة، ويعيد للأمهات ابتساماتهن التي طالما افتقدنها، في كل وجبة دافئة، وفي كل فنجان شاي يُسكب، تتجلى قدرة أبسط الأشياء على منح الإنسان شعورًا بالكرامة والفرح، حتى وسط أصعب الظروف، كانت لحظة عودة الغاز بمثابة تذكير أن الحياة، رغم كل الصعوبات والدمار، لا تزال قادرة على إشعال بصيص من النور والأمل في قلب كل بيت وكل عائلة.
www.deyaralnagab.com
|