حرب الأمريكان قبل حرب الإخوان!!
بقلم : عبد الحليم قنديل ... 05.08.2013
ليس الخوف على الثورة من الإخوان، فهم جماعة تنحسر شعبيتها إلى أدنى حد، قد تملك من المال المليارات، لكنها لم تعد تملك قلوب الملايين من الناس، كما كانت قبل ثلاثين شهرا، ففي أول انتخابات برلمانية بعد الموجة الأولى للثورة في 25 يناير 2011، كانت جماعة الإخوان قادرة على جذب أصوات ثمانية عشر مليون ناخب، وقبل عام من الموجة الثالثة للثورة، في 30 يونيو 2013، كان مرشح الإخوان للرئاسة يحصل على أصوات تزيد على ثلاثة عشر مليون ناخب من كافة الجماعات الوطنية، وبوازع جوهري من الرغبة في تجنب فوز أحمد شفيق رجل مبارك المباشر، بينما كان مرسي قد حصل في الجولة الأولى على خمسة ملايين ونصف المليون ناخب، وكانت تلك هي القوة التصويتية الحقيقية التي تراجعت عنها مقدرة جماعة الإخوان وحلفائها المباشرين، وقد نزلت هذه القوة التصويتية الآن ـ في ما نقدر ـ إلى النصف تقريبا، ولم يعد يتحرك معه في حملة ‘إعادة مرسي’ العبثية البائسة، سوى نصف مليون متظاهر على أفضل تقدير، وفي محافظات مصر كلها.
وليس الخوف على الثورة من كلام يصف ما جرى بالإنقلاب العسكري، فهذا كلام فرقة العميان، الذين لم يروا عشرات الملايين تتدفق إلى الشوارع، وفي مرتين تعاقبتا في 30 يونيو وفي 26 تموز/ يوليو 2013، وفي مشهد بدا ـ بكاميرات الطائرات ـ كأنه المجرة الكونية بزحام ملايين النجوم فيها، ولم يحدث مثله أبدا في التاريخ المصري، ولا في التاريخ الإنساني بإطلاق عصوره وثوراته، ولا حدث بالطبع في الموجة الثانية للثورة المصرية، التي بدأت في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، التي اقتصرت على عشرات ألوف المكافحين من شباب الثورة وطلائعها، الذين نجحوا في اختصار مدة حكم المجلس العسكري عاما كاملا، وأرغموا مجلس طنطاوي وعنان على تسليم السلطة لرئيس منتخب في أواسط 2012، وليس في أواسط 2013 كما كان مقررا، وبديهي أن مشهد الموجة الثالثة في 30 يونيو ـ وما تلاه في 26 يوليو ـ أكبر بما لا يقاس بما جرى في الموجة الأولى، فقد بدأت 25 يناير 2011 بنواة المئة ألف، وطوال ثمانية عشر يوما في ميدان التحرير، كان الرقم يناهز المليون أحيانا، ولم تندفع الملايين إلى الشوارع إلا بعد أن كان مبارك قد جرى خلعه بالفعل، وبدفع من تجاوب قيادة الجيش، التي آل إليها الحكم وقتها في صورة المجلس العسكري، بينما لم يحكم المجلس العسكرى مباشرة بعد الثلاثين من يونيو2013، واقتصر دوره على تسليم الحكم لسلطة مدنية مؤقتة، وطبقا لخريطة طريق قصيرة المدى تنتهى بانتخابات رئاسية مبكرة.
الكلام ـ إذن ـ عن انقلاب عسكري مجرد هلوسة عقلية وبصرية، فهذه ثورة شعبية كاملة الأوصاف، ولم يكن للجيش المصري ـ لصيق الصلة بالشعب المصري ـ إلا أن ينفذ أمر الثورة، وأن يعزل رئيسا سقطت شرعيته قبلها بشهور، فلم تكن لمرسي ـ حين سقط ـ شرعية من أي نوع، فقد سقطت شرعيته الإجرائية الانتخابية منذ أصدر إعلانه الديكتاتوري المنكود في 21 نوفمبر 2012، ثم أنه لم يكن يحظى بشرعية إنجاز أو بشرعية رضا عام في أي وقت، وبدت سنته الأولى والأخيرة في الحكم كأنها الواحدة المضافة إلى بؤس ثلاثين سنة من حكم مبارك المخلوع قبله، وهنا ـ بالضبط ـ تكمن محنة الثورة المصرية إلى الآن، فالثورة تقوم ولا تحكم، وحتى الموجة الأعلى في الثلاثين من يونيو لم تحكم، صحيح أننا بصدد حكم انتقالي هو الثالث من نوعه بعد حكم مجلس طنطاوي وحكم الإخوان، لكن الوقت يمر، ومن دون أن يحس الناس شيئا من طعم الثورة، بل ربما تخيم رائحة الثورة المضادة ذاتها، فقد كان حكم مجلس طنطاوي وعنان امتدادا لحكم جماعة مبارك بالمبنى والمعنى، وكان حكم الإخوان امتدادا للمأساة ذاتها بالمعنى دون المبنى، ولا شيء يوحي باختلاف جوهري في الإدارة الحالية، فالمستشار عدلي منصور رئيس مؤقت بصفته رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، والدكتور حازم الببلاوي رئيس الحكومة كان وزيرا للمالية في حكومة سبقت زمن حكم المجلس العسكري، والمعنى أننا بصدد حالة تقليدية من إعادة انتاج الوضع نفسه، قد تكون برزايا أقل، لكن بدون مزايا أكبر، فلسنا بصدد حكومة منتخبة، ولا بصدد حكومة ثورية، وإن وجدت ـ بالطبع ـ وجوه وطنية قريبة من معنى الثورة، في الحكومة أو في الإدارة الرئاسية المؤقتة، ولا تزال الاختيارات الكبرى الحاكمة ـ حتى اللحظة ـ كما هي، لازالت اختيارات الثلاثية الملعونة كما كانت، وهي الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، بينما مطالب واختيارات الثورة الكبرى في العيش والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لاتزال معلقة ومؤجلة حتى إشعار لم يجئ بعد.
وقد نفهم أن يقال اننا بصدد مرحلة انتقال، وبصدد إجراءات وضع الدستور، ثم إجراء انتخابات برلمان فانتخابات رئاسة، وقد تكون للكلام بعض الوجاهة المنطقية، فانقلابات الاختيارات تأتي بحسب نتائج الانتخابات، بينما الوقت الحالي مقصور على الإجراءات، لكن الإجراءات الموصوفة تواجه بإعاقات وعثرات ظاهرة، وتحرك الحكومة الحالية حتى في حدود ضمان الأمن وإنعاش الاقتصاد المعتل، لن يحقق هدفه بالسير الروتيني، والسبب بسيط، فالقصة سياسية بامتياز، وإعاقة الثورة ـ حتى في مراحل الانتقال ـ لا تأتي فقط من تحرك الخصم الإخواني، بل من تحركات من هم وراء الإخوان، فلا يصح النظر لإعاقات الأمن والاقتصاد في حدود اعتصام رابعة العدوية أو ما يشبهه أو يعقبه، ولا في حدود غارات المسيرات الليلية التي يشنها الإخوان، ولا في حدود التخوف من تكلفة الدم اللازمة لإنهاء الإعاقات، فنظرة كتلك تتسم بالقصور والتقليدية، وتحكمها روح التردد المتخوفة من غضب الأمريكيين وتابعيهم الأوروبيين، وقد بدا مشهد الأيام الفائتة مخزيا بامتياز، وكأننا كنا بانتظار نظرة من كاثرين آشتون مفوضة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى، أو بانتظار عطف وتفهم من آن باترسون سفيرة واشنطن في القاهرة، أو بانتظار جولات تأنيب من أعضاء كبار بالكونغرس الأمريكى أرسلهم السيد أوباما، أو بانتظار رأي الدكتور محمد البرادعي الذي عينوه نائبا للرئيس المؤقت مختصا بشؤون العلاقات الدولية، وهو رجل ‘خواجة’ يعرف عن مصر أكثر مما يعرف مصر.
وهكذا صارت مشكلة محلية تماما، ومن نوع الاعتصام المسلح في رابعة العدوية، وإلى حد تكوين مستوطنة أمنية خاصة خارج سلطة الدولة، وتحويل سكان منطقة رابعة إلى رهائن ومخطوفين، وشل حركة الحياة في شرق القاهرة بكامله، صارت هذه المشكلة المحلية تماما مسألة دولية، ننتظر فيها رأي الأمريكان وتابعيهم، وهذه هي المسخرة الحقيقية، وسببها ليس ساخرا، بل تراجيديا جادة ومؤسية جدا، ومصدرها أن مصر بلد فقد استقلاله الوطني، وتحول إلى مستعمرة أمريكية بامتياز، وهو وضع تكون منذ عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي انتهت إلى نزع سيادة السلاح في سيناء، ثم أعقبتها المعونة الأمريكية الضامنة، التي أفضت إلى نزع سيادة قرار السياسة والاقتصاد في القاهرة، وقد ظل حجم هذه المعونة يتضاءل، وإلى أن صار في حدود المليار ونصف المليار دولار في السنة حاليا، بينها ألف وثلاثمئة مليون دولار في صورة معونة عسكرية، ومع المعونة الأمريكية يعمل عشرات الآلاف من خبراء واشنطن في كافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، وهذا هو الحبل السري الذي يرهن قرار مصر الداخلي، ويجعل واشنطن طرفا مباشرا في التفاعلات المصرية الداخلية، وجعل جماعة مبارك أسيرة خاضعة للأمريكان، ثم جعل جماعة الإخوان بعدها عميلة للأمريكان، ولا يمكن الدخول في مواجهة جدية للإخوان بدون مواجهة من هم وراء الإخوان، وهذا هو جوهر التفويض في ملحمة 26 يوليو 2013، فالتفويض ليس فقط بمواجهة ظواهر عنف وإرهاب الإخوان، بل باستعادة الاستقلال الوطني الذي يدهس رأس الأفعى في سيناء بالذات، ولا يلزم ـ من منظور وطني ثوري ـ سوى قرار يتخذ بجرة قلم، ويستعيد استقلال مصر الوطني بشؤونها الداخلية، ومن سطر واحد يتضمن الاستغناء عن المعونة الأمريكية، وحل هيئاتها في مصر، ساعتها تسقط اعتصامات وإعاقات الإخوان كأوراق ذابلة، والقرار لا ننتظره من رئاسة عدلي منصور ونائبه البرادعي، ولا من حكومة الببلاوي طبعا، بل من رجل واحد هو قائد الجيش، خاصة أن المعونة ـ كلها تقريبا ـ عسكرية خالصة، أي أن القرار مطلوب من الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وليس فقط بصفته الرسمية، بل بصفته الرمزية طاغية الحضور في المشهد المصري الآن، فهو الرجل الذي خرجت عشرات الملايين من المصريين بنداء منه في ملحمة 26 يوليو 2013، وقد آن لهذه الطاقة الوطنية الكبرى أن تستخدم حيث يستحق، وفي الحرب ضد الأمريكان قبل الحرب مع الإخوان.
المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|