هل نحن بحاجة لكولمبو؟!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 13.11.2013
هل تتذكرون كولمبو؟ من شغفوا بمتابعة حلقات ذلك المفتش البوليسي الطريف والظريف لا ينسونه أبدا، بحسده المائل، ومعطفه الخفيف، وعينيه اللتين واحدة شبه مغلقة ـ حتى اللحظة لا أدري إن كانت عوراءـ والأخرى شبه المفتوحة، والتي ينبعث منها ضوء مربك (لمتهم) يتلاعب به، ويضعه في حالة شك، ويدوخه طيلة الوقت.
ما أن تبدأ الحلقة البوليسية الممتعة حتى نتعرّف على (المجرم)، ثمّ تبدأ عملية تضييق الخناق، والمطاردة، إلى أن يسقط ذلك المجرم بأربعته مستسلما، بحيث لا يفتح فمه بكلمة إنكار، لأن كل القرائن تدينه تماما ولا تترك له أضأل فرصة للتهرّب من الفخ المنصوب له بدهاء من المحقق كولمبو، الذي بالمناسبة لا يستخدم العنف في مطاردته، بل يمارس الحصار، والمداورة، والمناورة، والمفاجآت، حتى ينهار المجرم، وتوته توته خلصت الحدوتة.
يقع المجرم..وسينال جزاءه حتما، دون أن يقول لنا كولمبو ما هو نوع الجزاء الرادع الذي لا ريب فيه. مع سقوط المجرم يتنفس المشاهدون الصعداء، وهم يسخرون من المجرم المتشاطر المتذاكي، الذي ظن نفسه بارعا في التضليل..ولكن أين، فالمفتش كولمبو يتربص به، هو له بالمرصاد.
حلقات كولمبو تختلف عن كل حلقات المسلسلات البوليسية بأنها تبدأ بتحديد المجرم والجريمة، والمشاهدون يعرفون الجاني، وكولمبو يعرفه، وفقط هو لا يعرف أننا وكولمبو نعرفه!
لما التقيت بالدكتور محمد البطراوي الأخصائي الفلسطيني في أمراض القلب، والقادم من باريس عن طريق هولنده، في فندق القدس بعمّان، فاجأني بعد العناق: أتفق معك في ما كتبته في ‘القدس العربي’ حول وفاة الرئيس بالسم، لكنني كطبيب لا أستطيع أن أبرهن على ذلك، لأن الأمر يحتاج لمختبر متخصص لا يوجد مثيل له في بلادنا العربية كلها.
وأضاف: معي عدد القدس العربي الذي فيه مقالتك، وقد أحضرته من مطار أمستردام، ثم صعد إلى غرفته، وعاد بعدد الصحيفة الذي كان يحوي مقالي الذي اتهمت فيه (الكيان الصهيوني) بأنه وراء اغتيال الرئيس عرفات بالسم.
كان الدكتور محمد عائدا من باريس بعد أن رافق الرئيس عرفات في رحلته حتى وفاته، وسبق إحضار الجثمان، وهو كطبيب أكد أن الموت مدبّر، وان تشريح الجثة وأخذ عينات وفحصها في مختبرات متخصصة سيحدد نوع السم، وعندئذ لن يبقى شىء مخفي.
من له مصلحة في اغتيال الرئيس عرفات غير الكيان الصهيوني؟
كان حادث موت عرفات معلنا، وشارون وبوش الإبن تسرب عنهما قرار الحكم بتغييب عرفات عن (المشهد) السياسي، حتى تسلك الطريق لقطار الســـلام الذي ينهي تماما القضية الفلسطينية!
وأنا أتأمل مشهد (أبوعمار) وهو محاط بالأطباء والمرافقين، في رحلته الأخيرة بالهليوكبتر من رام الله إلى العاصمة الأردنية عمان، ومنها إلى باريس، لتلقي العلاج من المرض القاتل، أيقنت ككثيرين أنها رحلته الأخيرة، وأن (الرحالة) الذي جاب العالم شرقا وغربا، في الطائرة، باحثا، وساعيا، بجهد دونكيشوتي، لانتزاع شىء ما من أنياب الصهاينة، ستنتهي حياته مسموما بتدبير من (شركاء السلام)!
لقد برهنت مختبرات سويسرا على أن عرفات لم يمت بالمرض، أو بسبب الشيخوخة، ولكنه مات بسم البولونيوم المشع 210.
الكيان الصهيوني بلسان بعض رسمييه أعلن بأنه بريء من دم الرئيس عرفات، وأوحى بأنه راح ضحية صراعات داخلية!
أي فلسطيني، مهمـــــا كان متواضــــع الثقافة الســـياسية، يمكن أن يقسم، دون أن يحنث، على أن العدو الصهيوني هو القاتل.
هذا العدو القاتل يعرف أننا نعرف انه القاتل، والعالم الذي شاهد عرفات في رحلته الأخيرة إلى باريس، ويتابع فصول الصراع مع الاحتلال الصهيوني، يعرف أنه القاتل.
الفرق بين مجرمي مسلسل كولمبو والكيان الصهيوني، أنه، أي القاتل الصهيوني، وهو ليس مجرد فرد واحد، ولكنه مجموعة قادة سياسيين وأمنيين..ينكر جريمة دبرها واقترفتها يداه، وبقرار سياسي قيادي، وهذا نادرا ما يحدث على مستوى (الدول)، وهو ما يبرهن من جديد على أن سلوك هذا الكيان المجرم لا يمكن أن يكون سلوك دولة، فهو في كل أدواره سلوك عصابة مافيوية، ولعلها مناسبة أن نشير إلى العلاقة الوطيدة بين الصهاينة والمافيا العالمية..هل شاهدتم فيلم (ميونخ)؟!
نحن لا نطالب العاملين في مختبرات سويسرا وروسيا بإعلان الجهة التي اقترفت جريمة اغتيال الرئيس عرفات، فهذا ليس واجبهم، ولا دورهم، فهم مختبرات مهمتها تحديد سبب الوفاة، وقد فعلوا، وأعلنوا، وبقي علينا نحن الفلسطينيين أن نعلن بالفم الملآن أن عدونا المجرم هو القاتل الصهيوني، وأن دم الرئيس عرفات في رقبة قادة ذلك الكيان المجرم الغارق في دمنا من أخمص قدميه حتى قمة رأسه.
الجريمة هذه المرّة أفدح من كل ما سبقها، لأن الضحية المجرم الجاني هو (شريك) السلام الذي أبرم معه الرئيس عرفات اتفاق أوسلو، مؤملاً بدولة فلسطينية، ومصالحة تاريخية!.
الكيان الصهيوني يتنصل من الجـــــريمة، ولعــــله غسل يديه سلفا من دم عرفات باستخدام عناصر فلسطينية في(التنفيذ)، وهذا أمر محتمل جدا، فعرفات كان محاصرا في المقاطعة، ومحاطا بنوعيات يختلط فيها الشريف والصادق والساقط والطامح للوراثة.
عرفات رحمه الله استقطب نوعيات رثّة وتافهة أحاط نفسه بها، ظن أنها ستكون وفيه وتابعة مخلصة!
والسؤال، بعد ثبوت الجريمة، بدون لف ولا دوران: هل سيضيع دم عرفات، أم أن الثأر له، ومعاقبة قادة الكيان الصهيوني، وقادة أجهزته القتلة واجب وطني؟!
قد يسأل بعضنا: ولكن من يملك الشجاعة، والقدرة، وروح اٌلإقدام، للقيام بعمل بهذا الحجم ؟!
العجز، والانكشاف التام بعد أوسلو، وروح التواكل، والتهرب من المسؤولية، وافتقاد روح اٌلإقدام: هي المتهم.
معاقبة الكيان الصهيوني على الجريمة الرهيبة لن تكون مع التنسيق الأمني، إنها تتحقق بالاشتباك معه اشتباكا ستراتيجيا عنيفا شعبيا عارما لا يتوقف..تتحقق بإعادة الصراع إلى طريقه الواضح ، وإلى جوهره، وأثناء ذلك تكون تصفية الحساب مع القتلة الصهاينة المباشرين الذين مارسوا عمليات التصفية، والاغتيالات، والمطاردة..وتسميم الرئيس عرفات.
www.deyaralnagab.com
|