أوجاع إريترية: الحب والحرب والاغتراب!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 18.11.2013
«في وجهها يستوطن بهاء قديم لم تحرمه الأيام نضارته الأولى. ومن وجهها ينضح عطر سماوي يشبه ما يمنحه المطر لتراب الأرض. وعند وجهها تتزاحم حكايات الحسن، وقد تخلت عن نهاياتها الحزينة». هذا ما يظل يدندن به بطل رواية «مرسى فاطمة» لحجي جابر حول حبيبته المفقودة، واصفاً إياها لكل من يراه ويظن أن لديه طرفاً من خبر عنها. بعد قصة حب قصيرة تغيب سلمى ويغيب بطلنا وراءها بحثاً عنها، أو عن سرابها، أو هيامه أو وهمه بها. إنها السردية المتألقة الأخرى لجابر بعد روايته الأولى «سمراويت» التي فازت بجائزة الشارقة للرواية منذ سنتين.
مرسى فاطمة» هو الشارع الذي التقى فيه سلمى أول مرة ووقع على رصيفه بدء تاريخ حبه لها. من ذلك الشارع تركب سلمى الحافلة التي تقلها إلى المدرسة الثانوية، ويجري قلبه مع عجلاتها. لكن لهذا المكان رمزية أبعد بكثير. إنه إريتريا الناس العاديين والمفعمين بالجمال العفوي والتعايش غير المُدعى، بعيداً عن جبروت السياسة، والتطرف القادم من وراء الحدود. يخبرنا حجي جابر أن: «مرسى فاطمة اسم أطلقه الجبرته على هذا الشارع تيمناً باسم جزيرة مباركة قرب مصوّع سكنتها امرأة صالحة من نسل الصحابة، ليحل محل اسم الإمبرطورة «منن» زوجة «هيلاسيلاسي»، والتي اختارته دون سواه ليحمل اسمها... هنا يسكن مسلمون ومسيحيون ولا دينيون... الشارع يبدأ بكنيسة إندا ماريام وتنتهي تفرعاته عند جامع الخلفاء الراشدين، وقد بناه الإيطاليون بأموال تاجر يمني استوطن أسمرا. هنا تتجاور بيوت الأغنياء والفقراء، وكذلك قلوبهم. هنا أيضاً لا تجد أسرة لم تفقد حبيباً في حرب الاستقلال. «مرسى فاطمة» يمثل وطناً رحباً لكل سكانه».
يتناهى إلى علمه أن سلماه تم تجنيدها وإرسالها إلى معسكر الخدمة العسكرية الإجبارية «ساوا» الرابض بين الجبال البعيدة عن العاصمة أسمرا. هناك الحياة تنتمي إلى نوع آخر من الحياة. يلحقها ويتطوع لأداء الخدمة الوطنية «القلوقلوت»، ويستسخفه كثيرون لأنه معفى منها أساساً لكونه وحيد والديه. هناك يتفنن المدربون في إذلال الشباب تحت عنوان تربيتهم على حياة الجندية ومواجهة الصعاب. يتجبر الضباط في المجندين في فرض أقسى أنواع التدريبات بدءاً من فجر كل يوم وحتى مغيب شمسه، يركضون، يلهثون، تنقطع أنفاسهم، ثم يُطعمون كسرة خبز وماء شاي، ثم يصفعون محاضرة في الوطنية والبطولة من قبل ضابط ثمل جاء لتوه من معسكر الإناث، إمعاناً في الوطنية. بطلنا الشاب يتحمل طوعاً ما يتحمله زملاؤه قسراً وهو يأمل أن يعثر على خيط أمل يقوده إلى سلمى التي يفترض أنها في المعسكر المجاور. لا سبيل إلى الوصول إليها حيث يمنع ذلك على المجندين، ولا يتمتع بتلك الحظوة إلا الضباط. ينفلق الحظ السعيد لبطلنا إذ يختاره أحد الضباط سائقاً له، بما يعني سهولة دخوله إلى معسكر الإناث يقود سيارة الضابط. هناك وفي لحظات توهان الضابط في سكراته المختلفة يستغل العاشق كل دقيقة ليسأل عن حبيبته سلمى. يترك صفاتها واسمها وعشقها له مع كل فتاة يتمكن من الحديث إليها. لكن لا أثر لها.
يفعل المستحيل للهرب من «ساوا» بعد أن اكتشف أن سلمى ليست هناك، ويلحق سراباً لها باتجاه السودان إذ وصلته أطراف أخبار بأنها عبرت الحدود إلى هناك. رحلة الهرب من الوطن الأرتيري أوديسة أخرى تُضاف إلى رحلات الهروب من أوطان الجنوب. على الحدود الأرتيرية السودانية يقع أسيراً وضحية لـ«دولة الشفتا»، و«الشفتا» هم القبائل المسيطرة على المنطقة الحدودية بالسلاح والقوة وفرض «الخاوات». تتهيّب السلطات على طرفي الحدود من سطوة تلك القبائل وعصاباتها وتشتري ولاءها، ويمتد نفوذها إلى وزراء ومسؤولين كبار. على الفارين من جحيم الوطن أن يمروا بجحيم «الشفتا» ويدفعوا ألوف الدولارات كي يصلوا إلى الجحيم الثالث، إلى مخيم «الشجراب» الضخم في الأراضي السودانية، الذي يعتبر من أكبر مخيمات اللاجئين في العالم. في «الشجراب» عوالم أخرى، من المنظمة العالمية للاجئين، لعصابات المهربين، للسلطات السودانية، ولكل ما يمكن أن يتصور من عوالم. يبحث في أزقته وخيمه وتجمعاته عن سلمى التي لا أثر لها. يسأل كل الناس، لكن ليس ثمة طرف خبر مؤكد. يعزم في نهاية المطاف على مغادرة المخيم البائس ركضاً وراء خبر ما بأن سلمى أصبحت في السودان. ينخرط في عملية تهريب ثانية، وبعيداً عن الوطن، أو بحثاً عنه. قبل مغادرة المخيم يتعرف على خريطة «الأمل» لكثير من اللاجئين الشبان وهي أن جل همهم هو تأمين هروب سري عن طريق بعض العصابات إلى إسرائيل. هل هربت سلمى معهم وأصبحت هناك أيضاً؟
تضيع سلمى وسط الحرب، والفساد، والفقر، والتطرف، والسياسة، والتهريب، والحدود الملتهبة، والبؤس المودي للهجرة اليائسة إلى إسرائيل. تضيع سلمى بطلة جابر حجي الذي ينذر نفسه للبحث عنها ولقياها. إنها تحمل جنينهما في أحشائها. إنه المستقبل الذي يريد بيأس وعناد أن يأخذ «مرسى فاطمة» إلى غد مشمس.. إلى ماضيه الجميل. لا تضيع سلمى وحسب، بل إريتريا «مرسى فاطمة» هي التي تضيع، وحجي يبحث عنها. يبحث عن وطن بسيط تترتب فيه الأشياء بفوضى الناس العاديين، بعيداً عن إيديولوجيا الحزب الحاكم، وتشدق الساسة، وقوافل الموتى الملتحقين بأتون نار تلتهم ألوف الشباب، وقوافل الهاربين في كل الجهات. يلحق حجي بأرتريا الضائعة التي ما عاد فيها مرسى لفاطمة، وتشتت شبابها بين «ساوا» وجبهات المعارك، ومخيمات اللجوء والهرب على الحدود السودانية، ثم تبعثرت طوابير الهاربين في صحارى الشمال وسيناء أملاً بالوصول إلى «مرسى» بديل واعد، في إسرائيل. ومن هناك، من «أرض الوعد والميعاد»، تأتي قصص تقشعر لها الأبدان لتصل إلى المنهكين وسط الصحراء المتوجهين إلى أرض الأعداء لأنها أصبحت أخف وطأة من الوطن. من المدن اللامعة والحديثة في إسرائيل إلى قلب صحراء سيناء يكتشف المتعبون أنهم ليسوا سوى قطع من الأعضاء البشرية تتداولها عصابات الاتجار بالكلى والأعضاء. ويكتشفون أن ضريبة عبور الصحراء إلى «الجنة الموعودة» هي كلية لا حاجة لهؤلاء بها. أما الإناث من الهاربين فإن مرارتهن مضاعفة.
كل جزء من أجزاء الرواية يستحق أن يكون رواية منفصلة: معسكر «ساوا»، دولة «الشفتا»، و«الشجرات». حجي ظلم نفسه وأبطال روايته وحرمنا من ثلاث روايات واستعجلها في رواية واحدة. لكن تبقى «مرسى فاطمة» رواية بطعم المرارة عن وطن إريتري مفقود.
www.deyaralnagab.com
|