ما هو تاريخ الحاضر؟!
بقلم : د.خالد الحروب ... 23.12.2013
من يراقب وسائل الإعلام العربية، ويرى التناقض الكبير الذي تتناول به ذات الوقائع والأحداث يظن أن كلا منها تغطي حدثاً مختلفاً تماماً. كل من الإعلام المؤيد للنظام في سوريا، والإعلام المعارض له، مثلا، ينقل صورة ويغطي حدثاً كأنه لا علاقة له بما يغطيه الإعلام الآخر. وعلى ذات المنوال نرى كلا من الإعلام المؤيد والمعارض لأي من الطرفين في مصر، ينقل أخباراً لا نراها في الإعلام الآخر. لكن ما علاقة هذا بكتابة التاريخ؟ وهل الإعلام يكتب التاريخ في نهاية الأمر؟ بالطبع لا، ذلك أنه حتى لو كان الإعلام موضوعياً ونزيهاً فإن أكثر ما يمكن أن يقوم به هو توفير بعض ما يمكن أن يستفيد منه المؤرخ للقيام بعملية التأريخ. لكن لا أحد ينكر الدور المتعاظم للإعلام في العقود الأخيرة، ومساهمته في تعزيز رواية تاريخية على حساب الأخرى، وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً نوعياً كبيراً في مسألة كتابة التاريخ. قيل ويُقال دوماً إن المنتصر هو من يكتب الرواية الأخيرة للحرب. لكن هذه المقولة لم يعد لها معنى في العصر الحديث بعد أن انفتح الإعلام المعولم على الجميع، ملكية واستخداماً وتأثيراً. لم يعد بإمكان أحد امتلاك «الرواية»، بألف ولام التعريف، ويزعم بأنها السردية الحاسمة وهي تضبط ما حدث بالدقة والإخبار والإعلام التام.
وإذا كنا نحن، أبناء الحاضر، نختلف بشكل هائل في ما بيننا على تأريخ الأحداث التي نمر بها، ونراها من زوايا مطلقة الافتراق عن بعضها البعض، فكيف سيراها مؤرخ المستقبل؟ كيف سيكتب مؤرخو المستقبل عن هذه الحقبة التي نعيشها، بدءاً من سنوات ما بعد التخلص من الاستعمار، وصولا إلى «الربيع العربي» وتحولاته؟ إعلام الحاضر وفيضانه الكوني سوف يزيد العملية تعقيداً وغموضاً، فالعملية الإعلامية تفاقم من مسألة الانحياز واللاموضوعية، وهي من الأزمات والأمراض التي لازمت الكتابة التاريخية ماضياً وحاضراً. فالتاريخ والتأريخ بصورة عامة مسائل غير موضوعية وهي خاضعة لمنظور المؤرخ ذاته ونظرته ومعرفته، وفوق ذلك انحيازاته المباشرة أو المُستبطنة. كل ذلك قبل أن يشتغل الإعلام الهائل على التأثير المباشر في تخليق مناخات وصور وسرديات تعزز بيئات معينة تؤثر بدورها على من يعيش فيها بما في ذلك المؤرخين.
إدوارد كار المؤرخ البريطاني الشهير الذي كتب في أوائل ستينات القرن الماضي كتابه «ما هو التاريخ»، يشدد على أن كل مؤرخ هو نتاج السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يعيش فيه ويتأثر به وبأدواته المعرفية والتفسيرية. الإعلام المعولم واللحظي والذي بات يؤثر، إن لم نقل يسيطر على، فضاءات البشر وأذهانهم وتكوينهم الثقافي والمعرفي، يحتل اليوم موقعاً رئيساً في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي المحيط بكل منا. «كار» استفز زملاءه بطروحاته التي نفت سمة «العلم» عن التاريخ وأرخت ظلال الشك على موضوعيته، ووضعت المؤرخ قيد الريبة الدائمة. فالمؤرخ وعملية التأريخ عموماً ضحيتان للانتقائية ولإعادة ترتيب الحوادث التاريخية كي يتناسب ذلك الترتيب مع تفسير محدد مسبقاً يخدم سياسة أو أيديولوجيا. ولا يعني ذلك أن كل مؤرخ يكتب بطريقة غير موضوعية عن قصد وتصميم، لكن المؤثرات التي قولبت نظر هذا المؤرخ ورؤيته للأشياء، والأدوات المعرفية المتوفرة لديه، تحول كتابة التاريخ بطريقة موضوعية إلى مسألة شبه مستحيلة. انتقد كار أيضاً فكرة الاستناد إلى الوثيقة وتقديسها واعتبارها حجر الزاوية في الحادثة التاريخية. وقال إن الوثيقة قد تكون «مقبرة» الحقائق وليست «كنزها». اليوم، وعلى رافعة الإعلام تتكدس «الوثائق» السرية وغير السرية، المسربة قصداً أو رغم إرادة أصحابها. ولنا أن نتأمل كيف تؤثر هذه الوثائق في بناء رواية أو روايات تاريخية تحقق هدفاً معيناً لمسربيها، بينما تبقى وثائق أخرى بعيدة عن التناول وتلفها السرية المطبقة.
معنى ذلك كله أن كتابة التاريخ في العصر الراهن تواجه معضلات وتحديات إضافية تتعلق أساساً بفيضان المعلومات. مشكلة المؤرخ هنا لم تعد في شح المعلومة والأخبار عنها، ولا في بذل الجهد للوصول إليها، بل تتمثل في فيضان المعرفة وطوفان الأخبار والمعلومات والتحليلات. لكن هذا الفيضان لا يعني توفر كل شيء، بل التغطية على الأشياء والعناصر المهمة الخاصة بحدث معين. فالذي يتم، سواء بقصد أم بغير قصد، هو إغراق الحدث بكم هائل من المعلومات والتحليلات والوثائق بحيث تصبح مهمة المؤرخ شبه مستحيلة. هذا كله من دون الانخراط في جدل التشكك في أهمية الوثيقة أصلا، ومدى صلاحية الاعتماد عليها كأساس في التأريخ، وما إن كان ذلك الاعتماد يعزز منهج التأريخ أم يدعم التضليل غير المقصود.
وتطبيقا لذلك، لنتأمل كيف يختلف المؤرخون العرب اليوم وكتابهم على تأريخ ما يعيشونه من حقبة ما بعد الاستقلال، والأمثلة أكثر من أن تُحصى! كيف كانت بالضبط مصر الملك فاروق التي انتفض عليها «الضباط الأحرار»؟ هل كانت كما أرخ لها مؤرخو الثورة ومن تأثروا بها، أم كانت على شكل مغاير؟ ما الذي حدث في قلب عملية الوحدة المصرية السورية عام 1958 وافشلها بعد ثلاث سنوات؟ هناك «تأريخان» يكادان يكونان منفصلان تماماً، ينطلقان من رؤيتين متعارضتين، واحدة من أنصار الوحدة وعبدالناصر، والثانية من أنصار الانفصال وخصوم الناصرية. كيف حدثت حرب 1967؟ وأي الرويات هي الأدق في مسببات الحرب؟ أهو استفزاز عبدالناصر لإسرائيل أم نية إسرائيل المبيتة للقيام بالحرب عندما تحين الفرصة؟ ما الذي حدث في صدامات أيلول بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية؟ وكيف تراكمت الأسباب وأدت إلى ذلك؟ لدينا روايتان؛ إحداهما فلسطينية «ثورية»، والأخرى أردنية رسمية؟
www.deyaralnagab.com
|