مزارع وليست جمهوريات!!
بقلم : سعاد قطناني* ... 19.02.2014
صحيح أنه من الصعب الخوض في المنطق حين تهزنا الحيرة ويغمرنا الألم، ومن الصعب أن نفكك أبجديات خوفنا من الآتي ونحن نراقب الحاضر المنفلت من المعقول والغارق في الموت، ومن الصعب إيجاد الأجوبة مع كل ما يحيط بنا من ضباب، لكن السؤال يبقى هو الوسيلة الوحيدة لمحاولة فهم انقلاب الأحلام والآمال إلى مستنقع من الكوابيس، يبقى الوسيلة الوحيدة للإجابة عن سبب انفراطنا كأفراد وتفتتنا كشعب وسقوطنا هكذا من عقد الحياة وكأننا لم نكن، هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الجواب عن كيفية انفلات إرادة أن نكون إلى أن لا نكون، وانقلاب إرادة نريد إلى إرادات لا تعرف ماذا تريد!
أمام ذلك الموج الهائل من وجع الناس وحلمهم بالحرية من أين وكيف أتت تلك الأصوات التي ترى أن الشعوب العربية ما خُلقت لتعيش الحرية أو الديمقراطية، بل فُطرت على الاستبداد كقطيع أغنام يحتاج لعصا وراعي! لم يسقط بعد الحلم في أبدية الليل حتى خرجت تلك الأصوات وأخذ الشامتون بالثورة يرددون على مسامعنا بأن مصر بحاجة لفرعون يحكمها، لأن المصريين ما إن تنفسوا حتى فضلوا البسطار على العمامة، ولم يساعدهم تاريخهم على أن يجدوا خطاً آخر.
وسوريا لا يليق بشعبها الحرية لأنه ما كاد أن يشم ريح الحرية حتى انتشت بذور الطائفية ونار الحقد التاريخية بين أبناء الوطن الواحد، والسوريون ليسوا بحاجة إلا إلى أسد يُخرس جميع الأصوات ويحكم البلد بأبدية الموت والعسس والأنياب. وما العراق إلا مثال يساق تعزيزاً لشماتتــــهم حيث يقولون إنه بحاجة لديكتاتور كصدام حتى يسيطر عليه، فصار التنوع الإثني والطائفي وبالاً على العراق بدل أن يكون جمالاً في نسيجه الاجتماعي.
ولا يبتعد اليمن كثيراً عن أمثلتهم لكي يعززوا عدم أهلية هذا الشعب لحياة حرة كريمة، حيث يقولون ما إن انزاحت قبضة القمع عنه قليلاً حتى تجوهرت القبيلة وضاع الوطن، وما يحدث في اليمن يعززه ما يحدث في ليبيا أيضاً. أما تونس فهي المثال الأقل إقناعاً، ومع ذلك يقولون إنه ما إن هرب بن علي بمسروقاته حتى توضحت صورة جماعات تكفيرية تريد العبث بمقدرات ومستقبل البلاد وتريد رميه إلى التهلكة.
ما وصلت إليه بلدان الربيع من جنون فاق عبثية المعنى وقتل أغرى الموت أن يلتحف المجزرة ودمار تقمص شكل الكارثة لا يخفى على أحد ومن السذاجة إدارة الظهر له، وهو ليس حالة تفرزها بنية الثورة بطبيعتها، بل هو إفراز لبنية ما قامت الثورة من أجل تغييره، فأن يُحكم على ما نراه من عبث وقتل وجرائم على أنه نتيجة للثورات التي قامت ضد الظلم، مطالبة بإسقاط أنظمة عبثت لعشرات السنين بمقدراتها وأنزلتها إلى الدرك الأسفل في سلم الحريات والكرامة والديمقراطية، إنما هو غياب للرؤية في أحسن الأحوال، أو هو انحياز للقاتل على حساب الضحية في حساب العقل والمنطق، لأن المسؤول الأول عن هذا الخراب هو الأنظمة ليس فقط بسبب استخدامها وسائل عنيفة ارتقت إلى درجة جرائم الحرب لإسكات الأصوات المنادية بالحرية والديمقراطية، ولكنها المسؤولة من خلال تغييب مؤسسات الدولة عن كل مناحي الحياة، خلال حكم هذه الأنظمة طيلة هذه السنوات، حيث غابت الرقابة وانتفت استقلالية وحصانة القضاء، بل أكثر من ذلك لقد عملت هذه الأنظمة على شرخ المجتمع بشكل حاد بين طرفين لا يلتقيان هما حاكم ومحكوم، بين قائد تاريخي مؤله يمارس الاستبداد والطغيان ويكرس الدولة الأمنية القائمة على شعب من الوشاة و الخاضعين لسلطة بدت أبدية وبين قطيع من البشر المطلوب منهم الطاعة والولاء فقط.
هؤلاء القادة الذين أطلقوا اسم ‘جمهوريات’ على أنظمتهم ليعطوا الإيحاء بأنهم مُنتخبون ويمثلون إرادة الشعب، لم يكونوا سوى سلاطين لأنظمة سلطانية بلبوس ليبرالي جمهوري لطالما استعاروا بزة العسكري حتى يفرضوا وجودهم وإرادتهم، وبذلك سمي واحدهم ‘القائد’ بدل السلطان الذي كان يأخذ شرعية وجوده وحكمه من الله، في حين أن هؤلاء ‘القادة’ لم يأخذوا شرعيتهم لا من الله ولا من الشعب، بل بالقـــوة، حين استطاعوا إسكات الشعوب ولعقود طويلة متزعمين حــــالة لا يمكن أن يُطلق عليها في أحسن الأحوال إلا جماعة أو عصابة حاكمة تربط أعضاءها مصالح لا يمكن الحفاظ عليها إلا من خلال وجودهم في السلطة أو قريبين منها، تحاول هذه الجماعة، العصابة، التحكم بالمجتمع من خلال هياكل هدفها تسيير الأمور، يُطلق عليها جزافاً وزارات ودوائر أو مؤسسات تعمل وفق ما تمليه عليها مصالح الجماعة الحاكمة التي تسيطر على كل هذه الهــــياكل، من خلال بنية أمنية قوية عالية الولاء، تحرك كل الخيوط اللازمة لإظهار التماسك المجتمعي والحيلولة دون قيام أو نشوء أي ظاهرة تحاول المس ببنية الجماعة الحاكمة ومصالحـــــها، من خـــلال تغلغلها في كل الهياكل المشكلة للنظـــام وفرض إرادتها على كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامـــية، مما يفسر الحضور الدائم لعيون العسس وسوط الجلاد كرمز من رموز القمع الذي يمكن أن نطلــــق عليه الضــــامن الحقيــــقي لتسيير الأمور في مجتمعات كهذه، وجعلها تبدو متماسكة وكأنها تعيش في بيئة طبيعية يلفها الأمن والأمان فأُفرز ما يمكن أن يُسمى الموت الآمن.
وإذا كان القمع وغياب الحريات والسيطرة الأمنية على كل مناحي الحياة هو الضامن الوحيد لوحدة وتماسك المجتمع، في ظل هذه الأنظمة أو الجماعات الحاكمة، فلا عجب أن نرى المجتمع يتفكك بل يتشظى عند أول لحظة ضعف في البنية الأمنية ويصبح البحث عن الحلول الفردية والعشائرية والطائفية في صراع البقاء والحفاظ على الأمن من ردات الفعل الطبيعية، في ظل غياب الدولة الحديثة ومؤسساتها المبنية على أساس المشاركة الحرة والفعالة لكل أفراد المجتمع.
فما نراه اليوم من فوضى تعيشها بلدان الثورة ضد الطغاة هي من صُنع الطغاة وأزلامهم، كما هي بنفس الوقت نتيجة حتمية لابتعاد الأنظمة الشمولية القامعة عن هيكلية الدولة والمواطنة، فكلما كانت الأنظمة أكثر قميعة عاش الشعب وجعاً أكبر في مخاضه لتحقيق الحرية والديمقراطية والكرامة.
صحيح أن الدول العربية تتشابه في بنيتها الأمنية والقمعية المتنافية مع قيم الحرية والديمقراطية، إلا أن تفاوت الحال من دولة عربية لأخرى جعل بعض الدول قريبة إلى حد ما من أهداف الثورة، وأخرى بعيدة جداً تغرق في فوضاها وارتباكها. فلنأخذ مثالاً على ذلك تونس شرارة ثورات الربيع العربي، وليبيا التي كاد معمر القذافي أن يبيد أهلها، حيث نرى أن تونس بعد ثلاث سنوات من انطلاق ثورتها بدت قادرة على تلمس طريق الديمقراطية في بناء الدولة الحديثة، ورغم أن الطريق مازالت طويلة، إلا أن هناك إشارات توحي بأن تونس تمشي على الطريق الصحيح. وفي المقابل إذا وضعنا ليبيا في المقارنة فنرى أن ليبيا تعاني من فوضى وجهوية وقبائلية من الصعب كبح جماحها والسيطرة عليها حتى يتمكن الليبيون من السير في طريق الديمقراطية.
وهذا يقود إلى استنتاج أن تونس رغم وجود النظام القمعي إلإ أن هناك شكلا من أشكال الدولة ولو كان هشاً، بينما ليبيا كانت تفتقر لكل هياكل الدولة، حيث كانت كل مناحي الحياة مرتبطة ارتباطاً تاماً بشخص وجماعته، لذلك تحتاج ليبيا لوقت أطول لتبني ديمقراطيتها وتكرس حالة المواطنة.
وما يعيشه الليبيون اليوم لا يعود لعدم استحقاقهم لثورتهم أو لحريتهم، ولكنه يعود إلى سنوات من القمع والاستبداد، سعى فيها القذافي إلى تكريس التخلف في البنى الاجتماعية والســـــياسية والاقتصـــادية، عندما حاول ربط كل أواصر المجتمع برباط القمع والتسلط اللامتناهي. وطول مدة الثورة السورية جعلها الحالة الأكثر تطرفاً من الحالة الليبية، أما مصر فهي النموذج المشوه من الحالة التونسية.
لو كانت هياكل ‘الأنظمة’ القائمة في البلدان العربية تحقق الشروط الدنيا من مفهوم الدولة في هيكليتها وأسسها لسقطت الطائفة والقبيلة والدين من حرب الشعوب ضد الطغاة، فما يجري الآن من علو لصوت العشيرة والطائفة والمذاهب والدين… ما هو إلا إثبات على أن الذين كانوا يحكمون البلدان العربية ما هم إلا طواغيت تعاملوا مع الوطن على أنه مزرعة، والشعب يعمل لديهم كمرابعين أو عبيد وليس لديهم أي حقوق أو امتيازات إلا بما يتناسب مع مستوى خدمتهم وإخلاصهم لهؤلاء الطواغيت. فقد عمل الطغاة وبشكل ممنهج على تكريس التكتل الطائفي والعشائري والمذهبي، إما بالإمعان في ظلم هذه الفئة أو تلك، أو بإعطائها بعض المزايا، أو رهن أمنها به فجعلها بذلك في ولاء دائم له.
إن تحويل الثورات من ثورة ضد الطغاة لثورة ضد طائفة ما أو ثورة لإحراز مكاسب لعشيرة ضد عشيرة أخرى وتصدر وجوه القبائل والطوائف للمشهد، وتحول اللغة من لغة تنادي بالحرية إلى لغة تنادي ‘بالإمارة’ بديلاً للدولة الحديثة، ما هو إلا نتيجة لسياسات اتبعتها ‘جمهوريات الخوف’ حين أسقطت المواطنة من اعتباراتها، ولا يمكن أن تبرأ الشعوب العربية من هذه الأمراض المناطقية والعشائرية والطائفية إلا بتبني مفاهيم تُعلي من شأن المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، والانحراف عن هذه المبادئ يعني الغرق بالمستنقع الذي صنعه الطغاة لسنين أخرى طويلة.
نحن لن ننجو باعتماد الموت لغة للتفاهم، لن ننجو إن أقصينا الآخر، لن ننجو إن تقوقعنا في جماعات صغيرة أو كبيرة تُسقط عن الجميع صفة الوطن والمواطنين، لن ننجو إن لم يفهم الجميع أن الحل هو الكرامة والحرية والديمقراطية والعدل للجميع فشعوبنا مريضة من القهر الطويل، متعبة من الاستبداد الذي مازال يخيم على قلوبنا منذ عقود، مكلومة من الظلم الذي صار لحناً في أغانينا، لن ننجو إن غابت المزرعة وحضرت الطائفة أو القبيلة أو المذهب، لن ننجو إلا إذا اقتنعنا أننا جميعاً نتشارك القمح والمطر والحق والخير والعدل والحلم.
*كاتبة فلسطينية..المصدر: القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|