الحدث العراقي: فوضى أم انتفاضة شعبية !!
بقلم : هيفاء الجندي ... 19.06.2014
الهدف من التضليل وأسطرة داعش، هو تحويل الأنظار عن الانتفاضة الشعبية التي عمت المناطق العراقية، ولم تكن وليدة اللحظة وإنما سبقتها احتجاجات تم قمعها من قبل المالكي.
افتقدت الكتابات التي تناولت الشأن العراقي إلى الرؤية الواقعية والتحليل المنهجي الدقيق، وغلب على معظمها، طابع الارتباك والتعميم والتبسيط لواقع شديد التعقيد، ويمكن أن نعزو ذلك إلى فوقية التعاطي والانحياز للمخيلة على الواقع وللتصورات النمطية المسبقة، بحيث تم قسر الواقع الغني والمعقد بثنائيتين قاتلتين، هما: العسكرتاريا الفاشية والإرهاب الأصولي، ولم تجتهد تلك الكتابات بما فيه الكفاية لتقصي الحقائق وتعزز القراءة بمعطيات من أرض الواقع، وشمل هذا التعاطي كتابا يساريين وليبراليين، وقعوا أسرى التضليل الإعلامي وروجوا ما بثته بعض المحطات حول قوة “داعش”، بحيث تحولت إلى قوة كلية القدرة وجيش جرار بين ليلة وضحاها، تحتل المدن، وتسعى إلى السيطرة على أخرى، وبذلك يكونوا قد أسدوا خدمات للأميركيين والإيرانيين.
وبات معروفا أن الهدف من هذا التضليل وأسطرة “داعش”، هو تحويل الأنظار والتغطية على الانتفاضة الشعبية التي عمت عموم المناطق العراقية، ولم تكن وليدة اللحظة وإنما سبقتها احتجاجات تم قمعها من قبل نوري المالكي، معتبرين أن هذه الانتفاضة أقرب إلى صفوف الثورة المضادة لأن فاعليها الأساسيين من القبائل والعشائر متناسين أن شكل الاحتجاج ووعيه، يأتي منسجما ومتوائما مع تركيبة المجتمع العراقي الأهلي، الذي لم ينجز مهام التحول الرأسمالي وتتمايز طبقاته لأسباب يطول شرحها الآن.
وكان لافتا أن أحال البعض فشل المكونات السياسية العراقية فيما بينها إلى مسألة داخلية محضة سببها هزيمة مجتمع فشل في بناء دولته الحديثة، على ما يشوب هذا التحليل من صحة إلا أنه يتغافل عن دور الخارج والاحتلال الأميركي الذي ساهم في تقويض البنى العراقية، وضرب ما تبقى من هيكلية مجتمع ودولة، وساهم في إظهار الأمراض الطائفية التي كرستها دولة الاستبداد المركزية، بعدما كانت توحد التفكك بقوة وبطش الحاكم الفرد.
وهذا ما يفسر فعالية المركبات الأهلية مع/ ضد، بعد انهيار دولة البعث التي احتكرت السلطة والثروة وأقصت باقي المكونات، مستعينة بأيديولوجيا قومجية مفوتة تاريخيا. لم يتغير واقع الحال مع حكومة المالكي التي ولدت من رحم الاحتلال، بل ازداد الأمر سوءا ومارست المزيد من الإقصاء والتهميش والاستئثار بالسلطة، إنها حكومة حافظت على جوهرها “الكولونيالي” التابع للأميركيين والإيرانيين.
بالمحصلة لا يمكن فهم أسباب اندلاع الانتفاضة إلا ضمن هذا السياق التاريخي، سياق القمع والتهميش والاستبداد. المخاوف والسيناريوهات المتوقعة بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية:
يخشى بعد اندلاع الانتفاضة أن تتحول إلى حرب طائفية مديدة بفعل تدخل الأميركيين والإيرانيين، وما مقولة الحرب على الإرهاب التي علت وتيرتها في الآونة الأخيرة، إلا ذريعة للتدخل الإمبريالي، وتعبير عن الأزمة التي يعيشها الأميركيون والإيرانيون ولا يجدون مخرجا لهذه الأزمة إلا عبر تحوير الانتفاضة عن مسارها وإجهاضها من الداخل، وذلك عبر خلق التنابذ والتناحر بين مكونات الشعب الواحد، لأنه وفيما لو كتب لهذه الانتفاضة النجاح سوف تكون وحدها المخوّلة ببناء الديمقراطية بعدما سقطت الأطروحة النيوليبرالية عن بناء الديمقراطية عبر الخارج، سيما وأن الأميركيين لا تعنيهم مسألة بناء الديمقراطية في بلداننا، بقدر ما يعنيهم إجهاض سياق بنائها بأيدي أبنائها، وما يعنيهم هو استمرار النهب والسيطرة عبر دعم حكومة الوكالة التي تسهل لهم عملية النهب.
وهناك احتمال آخر، هو أن يجري الالتفاف على الانتفاضة عبر استيعابها والتسريع بتشكيل حكومة توافقية تعيد إنتاج نفس البنية السابقة مع تعديلات طفيفة تبقي على الأهم وهو التبعية للخارج، أو أن يعطى المالكي مزيدا من الوقت لقمع الانتفاضة بدعم إيراني وأميركي، والتضخيم المقصود من وجود “داعش” لا يعدو كونه ذريعة للقمع بقوة النار والبارود، وبعدها يمكن أن ينتقل الصراع من صراع سياسي إلى طائفي بين مكونات الشعب الواحد، أو أن يتبنى الأميركيون استراتيجية أخرى، وأن يعلنوا دعمهم لقوى معتدلة وهذا الخطاب أصبح ممجوجا ولا يعدو كونه خطاب كذب وتضليل وقلب للحقائق، فقط من أجل إطالة عمر حكومة المالكي.
في نهاية المطاف ومهما أشكل الخطاب الأميركي، المنافق والنيوكولونيالي، يبقى هاجسه الأساس قمع الانتفاضة، حتى لو اضطره ذلك إلى التدخل العسكري المباشر.
ما يهم الأميركيين، وكما أسلفنا تكامل أصوليتين في المشرق، أصولية السوق والأصولية الإسلامية، ولكن هذه المرة على أرضية المزيد من التفتيت والاستنزاف طويل الأجل، وضرب ما تبقى من مجتمع ودولة وإرساء دولة هشة تكون من أبرز مهامها رعاية الاقتتال الطائفي، ويمكن أن يعلو أيضا منسوب خطاب الخصوصية المغلقة كرد فعل سلبي على التدخل، والأميركيون يرحبون بهكذا مقاومات، دون تحد وتحقق لهم ما يريدونه، من أجل وأد الانتفاضة وبذلك يتكامل ويتعاضد النقيضان المتماثلان، ولا يستبعد أن يستقطب الخطاب الهوياتي شبابا يائسا ومحبطا، ويتم استيعاب نقمتهم وتجنيدهم ضمن حركات ماضوية مستلبة ما قبل تاريخية، بدل الانخراط ضمن سيرورة الانتفاضة الشعبية ويجدون في الأصولية خلاصهم الجماعي.
بديل الأخطار التي تحدق بالثورة، ملقى على القوى اليسارية والديمقراطية والشعبية، وأولى مسؤولياتها، هي احتضان الانتفاضة، والعمل على إظهار الصراع على حقيقته كصراع سياسي ضد حكومة تمارس أعتى أشكال القمع والنهب والإقصاء، وتشكيل ما يشبه الجبهة تكون مهمتها تفكيك الخطاب الأيديولوجي التسويغي والتبريري الذي عودتنا عليه الإدارة الأميركية، جبهة تكون بمثابة نقيض للسائد وللثقافة السائدة.
كاتبة سورية
www.deyaralnagab.com
|