الليبرالية الديمقراطية حقبة زائلة!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 17.11.2014
ربما ليس ثمة ثابت في التاريخ سوى حركته غير الثابتة دوماً. تتلاحق أحداثه في مسار يبدو وكأنه مُعلم بالمستقبل، فيتسرع كثيرون بإطلاق تقديرات وتنبؤات بما سيكون عليه المستقبل. ثم يصدمهم التاريخ وحركاته المفاجئة بانعطافات على يمين المسار وشماله، أو حتى الخروج منه تماماً واستحداث مسار آخر جديد.
لنتأمل مثلاً النبوءة العارمة بحتمية اندراج البشرية في مسار الديمقراطية الليبرالية وكونه المسار الإنساني الأخير والوحيد الذي آل إليه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة. في تلك اللحظة التاريخية، أوائل تسعينيات القرن الماضي، والتي اتسمت بكثافة الحدث وحدته وضخامته، المتجسد في انهيار المثال الأبرز والأقوى للنظرية التي تحدت فكرة الرأسمال وصياغاته لحياة المجتمعات واقتصاداتها وثقافاتها. فداحة وفجائية انهيار الأيديولوجية التي سيطرت على ثلث العالم خلال سبعة عقود، تفسر جزئياً هوس التنظير «الانتصاري» الذي مثل فرانسيس فوكوياما ذروته الأيديولوجية بالاستعجال في التبشير بأبدية الديمقراطية الليبرالية.
فوكوياما، وآخرون لا حصر لهم، أطلقوا العنان لتفاؤل جامح يقول إن شعوب العالم ومجتمعاته تتجه نحو تبني نموذج الديمقراطية الليبرالية، لأنه النموذج الأكثر استجابة لتطلعات حرية الإنسان وإطلاق طاقاته. صحيح أن عماده الاقتصادي القائم على رأس المال يخلق تفاوتاً هائلاً وكبيراً بين البشر ويهدد تحقيق العدالة الاجتماعية، الأمر الذي تفوق فيه النموذج الاشتراكي المُنقضي، لكن مآلات ذلك التفاوت ستنتظم في آليات ضابطة تقلل من منعكاستها، وتقلص فجواتها.
إذاً سقطت الأيديولوجية الأكثر تهديداً لليبرالية الديمقراطية، وحق لهذه الأخيرة أن تنتشي ولو ظرفياً. الأيديولوجيات الأخرى لم تكن تشكل تهديداً لليبرالية، وظلت ثانوية أو مكملة لإحدى أيديولوجيتي الصراع. احتلت الحركات الدينية مواقع متفاوتة في خريطة الصراع بين الليبرالية والماركسية، لكنها بالمجمل وقعت فريسة التوظيف من هذه أو تلك، ولم تشكل أي منها طرحاً متماسكاً ومتكاملاً يجعله البديل العالمي. هامشية الحركات الدينية رسخت النظرة لها كظاهرة زائلة حتماً رغم استطالة عمرها هنا أو هناك. رآها مفكرون كثر مجرد طفرة على جنبات التطور الإنساني الآيل نحو سيادة العقلانية على حساب الفكر الغيبي.
وبعد مرور عقدين ونصف العقد على انتصار الليبرالية الديمقراطية، والاحتفاء بغلبتها، كيف يتبدى المشهد الأيديوسياسي عالمياً وإنسانياً؟ يمكن القول أولا إن الفكرة الليبرالية الديمقراطية تشهد انحساراً تدريجياً، أو على الأقل فإنها بالكاد تسيطر على الفضاءات التي تعد مواقع تقليدية لها. وبعيداً عن «الفضاء الغربي»، نجد تنويعات لسياسات وأفكار مختلفة أو هجينة وليست بالضرورة متبلورة على شكل أيديولوجيات منافسة، لكنها بالتأكيد تقع خارج التصنيف «الليبرالي الديمقراطي». أول «النماذج» التي تأكل من «الفضاءات الحيوية» لليبرالية الديمقراطية هو نموذج الليبرالية غير الديمقراطية، وأهم ممثليه روسيا والصين. فهنا توجد مكونات عديدة، اقتصادية مستوردة، ومعدلة عن الأصل العائد للنظرية الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية. لكن هذه المكونات صارت تشتغل كوحدات مستقلة وليس كجزء من النموذج الأم. النموذج الروسي الصيني الذي يقول بإمكانية تحقيق اقتصاد ليبرالي ناجح وفعال، من دون تبني سياسة ليبرالية، يعني إعادة تأهيل للاستبداد وحمايته من تهديدات المكون الديمقراطي الذي يستكمل المكون الليبرالي في النموذج الأم.
ثاني النماذج المطروحة، هو ما تقدمه الحركات الدينية، خاصة تلك التي لا تعترف بفكرة «الدولة» وتريد استجلاب أشكال فوق الدولة. ما تطرحه هذه الأصوليات لم يؤخذ بجدية في العقود الماضية، كما لم تؤخذ الأطروحة الهنتجتونية بالجدية الموازية، لكنها اليوم أصبحت جزءاً من المشهد وتمثل تهديدات حقيقية للأوضاع القائمة. لكن من ناحية المضمون والمكون الفكري فهي مناقضة جذرياً لليبرالية وللديمقراطية وترفضهما معاً. والملفت بشأن الأصوليات الدينية يكمن في تجاوز تأثيراتها وانعكاساتها وما يمكن أن تحدثه في فضاءات المعسكر المنافس.
*أكاديمي وكاتب فلسطيني
www.deyaralnagab.com
|