على الموت سُكّر…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 07.12.2017
بلا شك أننا نحب النهايات السعيدة المرحة في القصص، يتساوى بهذا الأطفال والكبار، نفضل سيرة الحب على سيرة الكراهية وسيرة الحياة على سيرة الموت، هي محاولات إنسانية للتهرب من النهاية الحتمية لكل كائن حي، حتى الكواكب وبعد عمر طويل تموت.
- يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم وحياتك بلاش سيرة الموت..
- ليش؟ الموت هو ميزة الكون، يقول بعض الفلاسفة إن الحياة هي الأمر الغريب والشاذ، فالكون بطبيعته ميّت لا حياة فيه، مليارات المجرّات كلها ميتة، والحياة التي نعرفها على كوكبنا هي أمر شاذ وطارئ، سوف تصححه الطبيعة وينتهي الأمر بالتقاء كوكبين، أو تبتلعنا الشمس، يقول شاعر فرنسي «الحياة جُرحٌ في العدم» يعني الحياة مثل الدمّل في مؤخرة الكون الهائل.
- ولك شو دُمّل! أي سيبك من هالفلسفة، نحن نؤمن بأن الحياة هبة من الله والموت حق على كل المخلوقات وفيه يتساوى البشر فلا فرق بين زعيم وعبد أو غني وفقير، فسبحان الذي قهر عباده بالموت الذي لا ينفع فيه استئناف ولا طلب استرحام…
- ولا تكتيك ولا تحالفات ولا انقلابات ولا فيتو ولا إعلان حالة طوارئ ولا مرسوم جمهوري ولا أمر ملِكِي ولا مهلة لتسديد دين أو لوداع زوج وأولاد أو لصلح مع رحمٍ قطعناه ومع إنسان آذيناه وظلمناه، ولا فرصة لإعادة مال نهبناه من أموال الناس، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.
سمعت كثيرا من حكايات الموت، ولكن أغرب هذه القصص قصة الخال صالح أبو أحمد، أسردها كما سمعتها منه أكثر من مرة مع بعض التصرف بين المحكية والفصحى:
كنا في الخامس الابتدائي يعني تقريبًا في العاشرة أو الحادية عشرة، ذهبنا لنتسلى في بركة ديرالأسد، وهي بركة طبيعية من مياه الأمطار، الآن يوجد مكانها سوق ومدرسة بين البعنة والدير، كان يورد الرعاة حلالهم فيها، في الربيع تمتلئ حتى الجمام، فتأتي النساء على ضفافها ليغسلن الأصواف التي كانت تستعمل لحشو الفراش والوسائد، ويأتي الشبان من الدير والبعنة ومجد الكروم ليسبحوا فيها، تعلم كثيرون السباحة هناك، لم يكن في تلك الأيام برك سباحة ومتنزهات، لم يكن الوصول إلى بحر عكا سهلا، ولا سيارات مثل هذه الأيام، فايز رأى الشبان يقفزون فعمل مثلهم (ظَرَب راس)، وغاب في المياه ولم يعد، حسبته يسري تحت الماء، إسا بطلع فايز وإسا ببين فايز ولكنه تأخر، يا عمي شو السيرة! فايز…ولك هيه فايز، صرت أصيح غرق فايز غرق فايز، حتى انتبه لي الشبان من الجهة الأخرى، ولك شو السيرة يا ولد، شو القصة، ليش بتصيّح…
- فايز صاحبي غرق هون، فايز غرق هون..
قفز شبان وهم بالكاد يدبّرون حالهم في السباحة، وتمر الثواني والدقائق من دون العثور على فايز، صاروا يشككون بكلامي.. ولك إنت متأكد أنه نط في المي! ولو يا جماعة أنا شفته نط قدامي. المهم اختفى فايز برغم أنه لم يبعد عن حافة البركة أكثر من متر ونصف المتر، الشبان يقفزون ويبحثون، وتمر الدقائق ولا حس ولا خبر، لا دقيقة ولا اثنتان يمكن مرت خمس دقائق، بس أنا حسيتها ساعات، أحد الشبان من عائلة حسيان من البعنة (ظَرَب راس)، وإذا به يرفعه فوق رأسه من الماء، تعاونوا وأخرجوه جثة هامدة، الله أعلم كم بلع من الماء، ولكنه ماء بارد مثل البوظة، مدّدوه على ظهره على العشب، ولا أحد يعرف كيف يتصرف، صار بعضهم يضغط على بطنه وبعضهم على صدره ويقلبونه ويشقلبونه على وجهه وعلى قفاه وجنبيه والماء يسيل من فمه، خلص الولد مات، رفعوه لفوق ولتحت هيك على باب الله، سعل بقوة، ورمشت عيناه وفتحهما، يا رب يا رب، يا الله صحا فايز، صار يسعل وقعد، أنا بكيت من فرحتي لأن فايز رفيقي، وأمه يا حرام شو كانت تحبني، فايز في مكانه لم ينبس ولا بكلمة واحدة، لا أعرف هل علم ما كان فيه من غيبوبة أم لا، بعد أن نشّف جسمه بالشمس ورجعت له الحيوية قام يركض وابتعد بين أشجار كرم الزيتون في الربعان فرَحا كأنه لم يكن فايز الذي غرق وكان بضيافة الموت قبل دقائق، كان الجميع ينظرون إليه مندهشين، سبحان الله كيف كان ميتا وها هو يركض، خلص هذه قسمته، صدقني حتى ابن حسيان الذي أخرجه من تحت الماء لم يكن سباحا ماهرا، كانت هذه ضربة حظ لأنه بصعوبة أخرج نفسه من البركة، من بعيد رأيت فايز يجلس على الأرض تحت الزيتونة، حمل شيئا ما بيده، لم أر شكله، شو هذا اللي بيده ويدقه بحجر، صرت أمشي باتجاهه وأنا مش مصدق أنه مات ورجع عاش، فجأة رأيت شررا وسمعت صوت انفجار عظيم، وقعت على الأرض من الرعبة، رفعت رأسي، وين فايز، كلما تذكرت هذا المنظر يقشعر بدني، كان جسده كله مرشوما بالحصى والتراب ولم يبق له وجه، كأنني أراه الآن أمامي، ميتة بشعة جدا، شو بدك بالحكي، قسمته يموت بانفجار قنبلة وليس غرقا، وقسمتي أنا كمان أن أعيش، ها قد صار عمري نحو الثمانين، كانت بيني وبين الموت بضع خطوات لأنني كنت ذاهبا إليه وحتما كنت سأجلس معه، كانت قنبلة رش من مخلفات الجيش، كان الاحتلال جديدا، يمكن المطر جرف عنها التراب وكشفها، يمكن حدا مخبيها تحت الزيتونة، الله أعلم، الموت يا عمي مش فالت..
- يعني يا أبو أحمد هذه القصة حقيقية ولّا من تأليفك، لأن فيها شوية من الخيال…
- بقول لك حقيقية وفايز من بلدنا من شعب من دار العسكري، القصة معروفة،
كنا وقتها حديثي اللجوء في دير الأسد، وأنا من يومها أؤمن بأن الموت مكتوب بالدقيقة والطريقة، شوف كيف بعض الناس من زعيم يأمر وينهى وبدقائق يكون مقتولا…
- وصورته في خبر عاجل على شاشات التلفزة بحالة يرثى لها…
- بس عيب تصويره بهيك حاله، شو ما كان يكون…
- وأنا كمان بقول، قتلتوه خلص، لا حاجة لصور الفيديو، إشي بخزي، العالم كله يتفرج علينا، صارت زمبابوي أحسن منا، موغابي صار عمره ثلاثة وتسعين سنة ومتمسك بالسلطة، قلبوه ولكنهم أبقوه باحترامه، وما سحلوه ولا شلّحوه، أعطوه شوية مصاري وخلص عاد حِلّ عنّا، يا ريت جماعتنا يقبلوا مصاري ويكفوا شرهم عن الأمة..
- هو يا زلمة ناقصهم مصاري! والله عيب، يكفيهم ويكفينا بهدلات، والله الواحد صار يستحي يقول إنه عربي!!
www.deyaralnagab.com
|