محمد وعلي…
بقلم : سهيل كيوان ... 20.06.2019
في كل عام تقريباً يزور البلاد، أحياناً وحده وأحياناً ترافقه زوجته الأمريكية مع أبنائه، أتحدّث عن صديق قديم هاجر إلى أمريكا منذ ثلاثة عقود، يوم كان في الرابعة والعشرين من عمره.
في سهرة أحد الأفراح التي هجمت بعد عيد الفطر السعيد، جلسنا أبعد ما يمكن عن صخب ساحة الفرح، بينما شكّل ابناه الطالبان الجامعيان حلقة من الشبان حولهما، وانشغلت ابنتاه مع والدتهما في الفرح، أما الصغير ابن الثماني سنوات، فقد كان يلعب مع أطفال قريبين من سنه، وبين حين وآخر يأتي راكضاً ليسأل: كيف يقولون بالعربية حفل زفاف؟ كيف يقولون أنا أمريكي؟ كيف يقولون فوتبول؟
وقد استغرب أنه ممكن أن يستعمل كلمة نفسها (فوتبول)، وسيفهم أصدقاؤه ما يقصده.
انتهزتُ الفرصة كي أسمع منه عن أمريكا وما يمر على العرب والمسلمين في تلك القارّة المليئة بالتناقضات الحادة، وسألته: ألا يسبب اسما ابنيك الكبيرين المتاعب لهما؟
-ليش يعني؟
– لأن أحدهما محمد والآخر علي، ولا أظن أن هذين اسمان شعبيان في أمريكا، خصوصاً في السنوات الأخيرة، أقصد بسبب الكراهية المتصاعدة تجاه المسلمين التي يقودها الرئيس بنفسه، منذ حملته الانتخابية حتى الآن، ألا يتعرضان للمضايقات؟
فقال مستغرباً كأنما يدفع تهمة: لا لا أبداً، بالعكس تماماً، إنهما محبوبان حيثما يذهبان، ولهما أصدقاء كثيرون في الكلّية، إنهما قياديان، الجميع يتقرّب منهما من طلاب ومدرّسين، وخصوصاً أن كليهما رياضيان على مستوى ولاية جورجيا، علي في سباق القفز فوق الحواجز، ومحمد في فريق الفوتبول الأمريكي.
لستُ متفائلاً، لديّ شعور سيئ بأن خطاب الكراهية يدفع البشرية إلى شفا كارثة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، كأنها تنتظر ارتطام كويكب هائل بالأرض يهزُّ أركانها ويخلف وراءه كوارث يحتاج إصلاحها إلى قرون، ورغم ذلك، هنالك وميض مختلف يظهر هنا وهناك بين حين وآخر مثل برقٍ في الظلام، فقد لفت انتباهي خبرٌ سار انتشر قبل أيام قليلة تحت عنوان «أهلاً بكم في مطار لوسيفيل محمد علي»، وذلك في ولاية أتلانتا الأمريكية، وقد ظهرت إدارة المطار تحمل لافتة كبيرة عليها صورة تجسّد الملاكم الأسطوري فارداً ذراعيه المُعضّلين كأنه فراشة، في تذكير لمقولته الشهيرة «أطير كالفراشة وألسع كالنحلة»، فقد وافقت سلطة المطار الدولي على ما كانت قد أقرته بلدية لوسيفيل منذ يناير/كانون الثاني مطلع العام الجاري تخليداً لذكراه، وقد أُعلن هذا خلال «أسبوع محمد علي» الذي يقام في مدينته في يونيو/حزيران من كل عام، ويشمل معارض وأفلاماً ونشاطات رياضية وفنية، محورها حياة هذا النجم العملاق.
قلت لصديقي، برأيي أن هذه الخطوة تحمل رسالة مهمة جداً، أبعد من مجرد إحياء ذكرى شخصية رياضية، إنها رسالة قوية على مستوى أمريكا والعالم ضد العنصرية؛ أولاً ضد العنصرية الموجّهة ضد السود والملونين في أمريكا نفسها، ثم العنصرية الموجّهة ضد المسلمين، وخصوصاً في عهد الثيران الهائجة التي تدفع باتجاه تصعيد الكراهية إلى مستويات غير مسبوقة، هذه الرسالة قالت إن هناك وجهاً آخر لأمريكا في هذه الأيام الحرجة شديدة الحساسية.
في المقابلات الكثيرة معه، كان محمد علي يؤكد على عمق إيمانه وإنسانيته: «إن الله لا يمكن أن يفضّل أحدًا على أحد من أبنائه»، ويقصد جميع البشر.
إحياء ذكرى محمد علي بهذه الطريقة سوف يلقى صدى لدى جماهير كثيرة، وإضاءة جميلة في مواجهة التحريض والأفكار المسبقة، كذلك أعتقد أن على الفيتناميين واجب تخليد ذكراه، فقد كان من أوائل الرافضين للخدمة العسكرية في فيتنام وبقوة، يقول في إحدى خطبه للصحافة: «هدّدوني بأنني سأخسر كثيراً إذا لم أخدم في فيتنام، وأقول إنني ربحت الكثير، أولاً الإسلام ضد الحرب، ثم إنني ربحت السلام مع نفسي ومع قناعتي وإيماني كمسلم، بهذه الطريقة أنا أقرب إلى الله». وفي مقابلة أخرى يقول: لم يدعوني بالزنجي فلماذا أحاربهم؟
إضافة إلى المطار في مسقط رأسه، هنالك «مركز محمد علي»، الذي يعمل منذ خمسة عشر عاماً في مدينته لوسيفيل، حيث يُعرض تراث علي الملهم للرياضيين وخصوصاً في مجال الملاكمة، ويحوي متحفاً يشمل أفلاماً وصحفاً وتسجيلات لمبارياته وتدريباته ومؤتمراته الصحافية، كذلك معارض صور ونشاطات تهدف إلى زيادة الوعي بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، ودعم أولئك الذين لا مأوى لهم، خصوصاً النساء (homeless).
أعجبني أن الرجل الذي أطلقوا اسمه على مطار دولي، كان يرتعب من ركوب الطائرة، نتيجة تجربة قاسية مع عاصفة فوق الغيوم في سفرة إلى شيكاغو وهو طفل برفقة والده، وقد بذل مدرّبه (ديك سادلر) جهداً كبيراً لإقناعه بأن لا سبيل لأن يصبح بطلاً ما لم يركب الطائرة للاشتراك في مباريات في سان فرانسيسكو في أواخر الخمسينيات، لكنه بعد المباريات التي أبلى فيها بشجاعة عاد إلى بلده في القطارات تجنّباً لركوب الطائرة. لم يمض وقت طويل حتى اضطر للسفر فوق المحيط إلى دورة أولمبيادا روما عام 1960، وكان في الثامنة عشرة من عمره، حيث بدأ كل شيء يتغّير.
هنيئاً للرياضي الإنسان، ولمن قرّروا جعل اسمه يتردد على ألسنة مئات الملايين من الأجيال المقبلة ممن سيمرّون في مطار (لوسيفيل محمد علي).
خلال حديثنا الذي تشعّب كثيراً قال صديقي:
الأولاد انسجموا جداً هنا، لقد تعرفوا على أقربائهم الكثيرين، وصار لهم أصدقاء، منذ أيام صاروا يردّدون بأنهم لا يريدون العودة إلى أمريكا، سأعود أنا بعد أيام لإدارة أعمالي، لكن الأبناء ينوون قضاء العطلة الصيفية كلها هنا.
قلت: من يترك الآفاق والإمكانيات الهائلة في أمريكا ويأتي إلى هذه البلاد الضّيقة المُتعِبة؟!
أخذ صديقي نفساً عميقاً وقال ما لم أسمعه منه من قبل: «يا زلمة يلعن أبو الساعة التي سافرت فيها إلى أمريكا».
أحسست أن في نبرته ألماً خفيّاً وهو يواصل حديثه..»يا زلمة، لو رحت إلى الجنة لا يوجد مثل بلدك، الهواء الذي أستنشقه هنا يشرح صدري، وجوه الناس، الفضاء والنجوم، لا أمريكا ولا أوروبا ولا أي بقعة في العالم، لا يوجد مثل بلادنا…».؟
www.deyaralnagab.com
|