الخادش وغير الخادش للحياء !!
بقلم : سهيل كيوان ... 22.08.2019
لا يمر شهر، حتى تظهر في مكان ما من الوطن العربي إشكالية ما، حول حرية الإبداع والمبدع وحدودها. في الأيام الأخيرة طفا هذا السؤال في أم الفحم، المدينة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، التي وصفها شهيد الفن والموقف ناجي العلي بـ»الأسم الحركي لفلسطين».
اتخذت بلدية أم الفحم قراراً بإلغاء حفل لمغني الراب تامر نفار، الذي كان مقرراً مساء اليوم الخميس في قاعة سينماتيك في المدينة، بحجة أن كلمات أغانيه لا تنسجم مع الثقافة والمعايير الفحماوية، كما جاء في بيان البلدية، وعلى الفور ظهر صراع بين موافق ومعارض. اعتبر البعض أن هذا المنع قمعٌ لحرية الإبداع، بينما اعتبر البعض الآخر، أن القرار صحيح، لأن هناك كلمات لا تليق بأن تلقى على مسامع شبابنا وشاباتنا.
الفنان تامر نفار ذو توجه قومي عربي وأممي واضح، بدأت شهرته في الانتشار بعد أغنية «مين إرهابي» عام 2001. هاجمته وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريجب قبل ثلاث سنوات بعدما خرجت بشكل تظاهري من قاعة حفل خلال مهرجان أفلام في حيفا، وذلك عندما بدأ بغناء قصيدة محمود درويش «سجّل أنا عربي». تعرّض نفار في مسيرته إلى تحريض من اليمين الإسرائيلي الحاكم ومحاولات تخريب لحفلاته. صحيح أن إحدى أغنيات تامر نفار فيها كلمات خادشة لنا كعرب، ولكن من الممكن تصنيف معظم أغانيه بأنها وطنية اجتماعية، تتحدث عن مشاكل الشباب العرب وأحلامهم ومعاناتهم في مواجهة العنصرية والاحتلال والتطهير العرقي، وهدم البيوت العربية، ومصادرة الأرض، وتهمة الإرهاب العشوائية الموجهة للعرب، وجرائم القتل المتفشية في مجتمع عرب 48 من دون أن تقوم الشرطة بواجبها في مكافحة هذه الظاهرة.
الراب جديد نسبياً عند العرب، ومعظم جمهوره من الشباب، ولهذا السّبب يجد المتقدمون في السن، وهم عادة أصحاب القرارات في المراكز الثقافية، صعوبة في تذوق هذا الفن وتقبّله، ويرونه منفّرا بغض النظر عن كلماته، فهو يعتمد الحركة العنيفة على المسرح والإيقاع السريع المؤثرات، وكلمات تبدو غير منسجمة وبدون وحدة في موضوعها، حيث من الممكن أن تنتقل الكلمات بحدة من موضوع إلى آخر في فضاء الفكرة، وهي خلطة كلمات فصيحة ومحكيّة مطعّمة أحيانا بشعر معروف إلى جانب كلمات ركيكة من تلك الكلمات المستعملة في حياتنا اليومية، وقد تظهر بينها فجأة كلمة عبرية أو إنكليزية وحتى روسية. من ناحية أخرى فإن القرى والمدن العربية داخل مناطق 48 ليست كلها على مقاس ثقافي واحد، فسكان المدن المختلطة مثل، يافا التي باتت جزءا من تل أبيب واللد والرملة وعكا وحيفا ذات الأكثرية اليهودية، لا بد أن يتأثروا بالأجواء المحيطة بهم، أكثر من سكان مدينة كل سكانها من المسلمين مثل أم الفحم، التي تعتبر قلعة الحركة الإسلامية في مناطق 48، رغم أن أهلها مثل سائر سكان المدن والقرى العربية يخرجون إلى أعمال معظمها في المدن اليهودية.
كل جيل ينمو ومعه فنونه ومعاييره الجمالية الجديدة، وهذا خاضع لعوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وسياسية
لا نستطيع أن نطلب من الجيل الصاعد البقاء داخل بوتقة الفنون التي عاشتها وتذوّقتها الأجيال السابقة، في ما سُمّي بالزمن الجميل، وقبل الزمن الجميل، فكل جيل ينمو ومعه فنونه ومعاييره الجمالية الجديدة، وهذا خاضع لعوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وفي النهاية لا يبقى سوى الحقيقي والأصيل بغض النظر عن تسميته. برأيي المتواضع أنه كان من الممكن لممثلي بلدية أم الفحم أن يتفقوا مع المغني على حذف بعض الأغاني من عرضه، ولا أظن أنه سيعارض، فلديه عشرات الأغاني الاحتجاجية المصنفة بأنها وطنية واجتماعية، ليس فيها أي كلمة خادشة. هناك قضية أخرى وراء هذا الحظر، وهو أن هذا النوع من الحفلات عادة ما يكون مختلطا بين الذكور والإناث، يتخلله هياج الجمهور، ربما هذه هي المعضلة الحقيقية التي واجهتها بلدية أم الفحم، عندما ناقشت الموضوع واتخذت قرارها، بدون أن تذكرها في بيانها، علماً أن رئيس بلديتها مستقل وليس محسوباً على التيار الإسلامي، ولهذا أعتقد أنه لو كان العرض للذكور فقط، لما كان هناك اعتراض بمثل هذا الحزم والحدّة.
يبدو أن النقاش الذي أثاره قرار بلدية أم الفحم، هو نفسه الذي يدور في معظم البلدان العربية، المثال الأخير كان مشروع ليلى في لبنان، وملابس ديانا كرزون في جرش، الأمر الذي يعني أننا كلنا كأمة نعيش في منطقة الحيرة بين ما هو خادش للحياء وما هو ليس خادشا للحياء، وما يزيد الارتباك، هو إدراكنا بأن الحواجز التقليدية تحطّمت بواسطة وسائل الاتصال التي تتيح لكل الناس من كافة الأعمار والأجناس مشاهدة ورؤية وقراءة كل ألوان الفنون، خادشة وغير خادشة للحياء، وأمام قضايانا الكثيرة والخطيرة، نتساءل هل خدش الحياء متعلق بالفنون فقط؟ مثلا، أليس غريباً أن لا نعتبر إلقاء القمامة في الشارع عملا خادشا للحياء؟ أليس الفضاء الممتلئ بروائح بقايا الذبائح المتعفنة بعيد عيد الأضحى في أطراف مدننا وقرانا خادشا للحياء؟ كي لا نستحي أمام جريمة قتل أم لخمسة أطفال على يد زوجها! ألا تخدش حياءنا جرائم القتل وإطلاق النار التي تكتسح مجتمعنا؟ القائمة طويلة جداً، وأهم بكثير من كلمات في أغنية لتامر نفار أو غيره من الفنانين.
www.deyaralnagab.com
|