فايروس شُوفُونَا....!
بقلم : د .نيرمين ماجد البورنو ... 09.04.2020
تتسارع أحداث تفشي فايروس كورونا المستجد السريع في العالم ساعة بساعة مخلفا خلفه صدمة تاريخية للوعي البشري وحالة من الذعر والقلق والتوتر والتخبط وأناس يصارعون مواجهة الجوع والحرمان والفقد والموت والانا والنرجسية والصدمة والأزمات البيئية والاقتصادية والسياسية والتعليمية وكأنه المتحكم بالمشهد العالمي اليوم, فنجد الكثير من الصور والفيديوهات للمساعدات الإنسانية التي تقدم للمحتاجين ولمن تزيد محنتهم عوضا للتخفيف عما يتعرضون له ولو جزئيا ولكن قديما كان "فعل الخير" يتم بلا اي إشارة أو إشهار، وعندما يتم الإعلان عنه يفقد كل ما به "خيرا" ويتحول الى بند إعلاني - اعلامي لمن يتقدم بتلك المساعدات تكشف مظهرا غريبا وكأن المحتاجين تحولوا الى كتلة بشرية تنتظر فاعل الخير أي كان اسمه وصفته فلم يعد ذا اثر ما دام يحمل بعضا من حاجات ولقيمات ينتظرها المعوز.
لا ضير في فعل الخير ولكن من أراده خيرا فليكن بصمت وبكرامة للمحتاجين لا أن تتحول المساعدات الإنسانية الى نقطة إذلال للمحتاجين وتوثيق الصور ومشاركتها على مواقع التواصل لتقضي على تعفف عائلات كثيرة، لو كان حقا هدفه "خير" وليس "شرا إنسانيا" ينال من عضد كرامة شعب قبل كرامة فرد, المثل الشعبي يقول "شو جابرك على المُر غير الأمَر منّه؟ يكفي الدوس على كرامة الناس بألف صورة وصورة اطفئوا الكاميرات واحترموا ما تبقي للناس من كرامة, ان الحث والتذكير على فعل الخير جميل, فالدال على الخير كفاعله, ولكن ومن اللافت للانتباه ظاهرة انتشار بعض المجموعات الشبابية والتي تتخذ من الانستغرام والفيس بوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي مقرا لها وقد تفاوتت في مقاصدها يجمعون التبرعات من المحسنين يعكسون كارثة أخلاقية بإجبارهم الفقراء والمحتاجين بنشر صورهم وبعض الفيديوهات المصورة لهم صور أثناء توزيع المساعدات للفقراء والمحتاجين من الأطفال والنساء, وعجائز مرهقاتٌ دامعاتٌ ومسنّون ضعفاء يرفعون أكفّهم بالدعاء بالإضافة الى الاستعراض في عرض بوفيهات الطعام التي ليست للفقراء وانما للمدعوين لحفل الاذلال, بينما تدور الكاميرا حولهم ثم تقترب من أكفّهم المرتجفة، ووجوههم المتعبة, فتغوص تلك الكاميرات أكثر وأكثر، متفرّسة في الأعين، بحثا عن دمعةٍ قد تنزل تأثّرا لتصوّرها والتي يتم انتاجها بشكل مأساوي مبتذل مصاحبة بآهات موغلة بالحزن لكسب تعاطف المشاهدين ودغدغة مشاعرهم لجمع مزيد من التبرعات والغرض من ذلك هوس الشهرة والمديح من الاخرين لفعله ولكسب مزيد من المتابعين على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي, ولحصد السمعة الطيبة تأهله مستقبلا للمشاركة والتنافس للوصول الى مناصب خدماتيه على مستوي الوطن أو لتحصيل لقب مختار الحارة, لا أفهم ما الحاجة الفعلية لتصوير المحتاجين، وهم يتسلمون المساعدات من أيادي المتصدقين عليهم، ونشر الصور والمقاطع في وسائل التواصل الاجتماعي, رفقا بهم وبضعفهم.
الواجب الانساني يحتم على الجهات الخيرية أن تعلن عن مساعداتها الانسانية للمحتاجين لكن تصوير الأشخاص من دون رضاهم، سواء أكان هذا التصوير فوتوغرافياً أم فيديو هو أمر مخجل، وهي كما يقال فضيحة وليست مساعدة وجميعنا نعلم أن جميع هؤلاء من عوائل كريمة اضطرتهم الظروف والحروب والنزاعات لترك ما يملكون، وصاروا في لحظة من الزمن في عداد الفقراء والمحتاجين.
هناك فايروس أخر متفشي عبر القنوات العربية وهو تفشي النفاق الإعلامي وهي ظاهرة غريبة عجيبة قائمة على تقديم العديد من المسابقات والتبرعات والزيارات لإذلال الفقراء والعائلات المتعففة وذات الحاجة حيث يبثون برامج عديدة وبأسماء مختلفة يقدمون العطايا ويتكفلون بعلاج طفلة أو مريضة أو شاب معاق أو تزويج عدد من الشبان الفقراء أو حتى تقديم وجبه طعام لطفل مشرد جائع وسط ضجة وتهريج لحظتها تنهال على المتصدق عبارات الاطراء والمديح على شاشة التلفزيون, تاركا للفتاة ولأهلها مشاهد تدوم للعمر كله دون مراعاة للكرامة الإنسانية.
تحت ستار العمل الإنساني فيس بوك يجمع التبرعات ويتيح للراغبين جمع الأموال وفتح منصات دون رقيب ومراجعة لهوياتهم, فلقد تمكنت حملة دعم للمهاجرين العالقين على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك في جمع تبرعات تقدر بما يزيد على 16 مليون دولار، في غضون أقل من أسبوع لمحاولة للرد على سياسات "اللا تسامح" التي يتبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حيال المهاجرين, وفى عام 2016 أتاح فيس بوك للأفراد إمكانية جمع الأموال وقبل أشهر أصبح بإمكان أي مستخدم طلب تبرعات لأى أسباب ما يطرح العديد من الأسئلة عن مصادر إنفاق تلك الأموال وأهدافها, حيث ذكر تقرير تايم أن في الصيف الماضي بدأ فيس بوك يجمع تبرعات "بمناسبة عيد الميلاد" على سبيل المثال.ولجمع التبرعات عبر فيس بوك، لا يحتاج جامع تلك الأموال سوى التقدم بطلب لإدارة الموقع ليتم تصنيفه على انه "منظمة غير ربحية" لتتم الموافقة عليه بعد التحقق منه فقط عبر إدارة الموقع دون أي جهات رقابية أخرى.
بين الحرص على الحياة، والإصرار على الكرامة، استمرت معاناة أهلنا المحتاجين والمنكوبين لذا يجب على الانسان أن يعي أنه نحن نعيش على كوكب واحد إما أن ننجو أو نغرق معا, ولكن البشر أقاموا الحدود والحواجز والطبقات والصدامات والثورات والانتفاضات والنزاعات والحروب والخلافات, وجاء فايروس كورونا وعرّي ما في دواخلنا من أمراض وعلل مزمنة وفتح السيناريوهات للإنسان للتغيير, والغي العنصرية, ألا يرى المرضى بداء العنصرية كيف أن الفيروس أقلّ عنصرية منهم, فقد جعل هذا الفيروس الجميع متساويين, فالخيار بات الان بيد الإنسان أما ان يرتقي من خلال المعرفة والتكنولوجيا والعلم وتحويل الأزمة الي فرصة ونظام عالمي يحقق الكرامة والعدالة والمساواة والوفرة للجميع وأما ان يكابد وينتظر باقي الفايروسات جرارة على أقرعه الطريق.
www.deyaralnagab.com
|