التوتر في بحر الصين الجنوبي
بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 05.07.2020
بين الحين والآخر يتصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي، وتتصاعد التحذيرات من تحول هذا التوتر إلى صدام يؤثر بصورة كبيرة على منطقة شرق آسيا، وقد تمتد آثاره إلى العالم أجمع. مؤخرا تحمل الأخبار ما يفيد بنشوب التوتر من جديد بخاصة بين الصين والولايات المتحدة. ويبدو من متابعة حالات التوتر التي طرأت في المنطقة أن المستفز الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية. أمريكا تحاول تأكيد هيمنتها على العالم باستمرار وهي لا تترك فرصة لاستعراض عضلاتها إلا اغتنمتها، وبهذا تشكل أكبر مصدر للتوتر وربما للحروب في العالم.
بحر الصين الجنوبي
بحر الصين الجنوبي جزء من غرب المحيط الهادي الذ ي يعتبر أكبر محيط على وجه الأرض، وهو يقع شرق الصين، وشرق فيتنام وكمبوديا وغرب الفليبين وجنوب تايوان على الرغم من أن تايوان نفسها يمكن اعتبارها جزءا من البحر أو جزيرة فيه. تبلغ مساحة البحر حوالي 3,500,000 كم2. ومنه تمر حوالي ثلث تجارة العالم، أو ما قيمته 5,3 تريليون دولار سنويا. حصة الولايات المتحدة من هذه التجارة حوالي 1,2 تريليون دولار. تشترك عدة دول في سواحل هذا البحر منها فيتنام والصين وتايوان أو جمهورية الصين الوطنية، وكمبوديا وبروناي وماليزيا وإندونسيا وميانمار، وكلها لها مصالح في البحر فيما يتعلق بأمرين وهما التسميك (صيد السمك) وحقول النفط والغاز المقدرة تحت قعر البحر. تتطلع كل هذه الدول إلى حرية الصيد في البحر وإلى ما يمكن أن تكون حصتها من النفط والغاز في حال استخراجهما.
أعلنت الصين أن حدودها الاقتصادية القطعية في البحر تمتد إلى مائتي ميل، أو ما يعادل ثلاثمائة كيلومتر. ومثل هذا التحديد لا يتناسب مع مقتضيات القانون الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة والقاضي بأن المياه الاقتصادية للدولة تمتد إلى 2خخ كيلومترا عن الشواطئ البرية. ولكي تغلف الصين حدودها الاقتصادية القطعية عملت على استغلال بعض الصخور البارزة في البحر والشعاب المرجانية لإقامة جزر صناعية وتملكها واعتبارها بعد ذلك أراض صينية تتمتع بحدود بحرية كبقية الجغرافيا العالمية. وقد أقامت الصين على الجزر الاصطناعية منشآت عسكرية بحرية منها وجوية، وهي تحتفظ لعدد قليل من الجنود عليها. أهم هذه الجزر سبراتلي وبراسيل. ويعتبر جرف سكاربره أهم تجمع شعب مرجانية، وهو أقرب إلى الفيلبين من الصين. إنه يبعد عن الفيلبين حوالي 160 كيلومترا بينما يبتعد عن الصين حوالي 800 كيلومترا.
الفيلبين
ربما تكوزن الفيلبين أكثر دولة متضررة من سياسة الصين البحرية بسبب الآثار المترتبة على صناعتها السمكية، والمخاطر التي تتعرض لها مصادر النفط والغاز. حاولت الفيلبين والصين التفاهم حول المصالح الخاصة بالدولتين، وأقصى ما توصلتا له هو حل المشاكل فيما بينهما سلميا وبدون استفزازات. وهناك دول أخرى تنازع الصين على المنطقة وهي ماليزيا وفياتنام وبروناي، بينما تنازع اليابان الصين في بحر الصين الشرقي. لكن الفيلبين ترتبط باتفاقات عسكرية مع الولايات المتحدة والتي تنص على أن تدعم كل دولة الأخرى في حال حصول صدام عسكري يلحق أضرارا بالمصالح. ويبدو أن الولايات المتحدة تستخدم استفزازاتها ضد الصين لكي تبقى الفيلبين على أعصابها، ويستمر شعورها بأنها لن تستطيع حل مشاكلها مع الصين بدون الولايات المتحدة.
بين الحين والآخر ترسل الولايات المتحدة بعض قطعها البحرية إلى بحر الصين الجنوبي ولكي تمر بالقرب من الأراضي الصينية بطريقة عدوانية، وتحرك طائراتها الاستطلاعية أيصا لتحلق في أجواء البحر تجسسا على المنشآت الصينية والقدرات العسكرية. تضطر الصين أن تحرك بعض قطعها البحرية أيضا، وربما تضطر إلى التصدي لطائرات التجسس الأمريكية كما حصل في السابق. الفعل ورد الفعل يدفعان إلى ارتفاع منسوب التوتر، وتبدأ منطقة شرق آسيا في اتخاذ إجراءات عسكرية احتياطية حتى لا تفاجأ بأي حرب أو اشتباك عسكري. وبهذا النمط أيضا تتأكد الولايات المتحدة بأن دول شرق آسيا ستبقى بحاجة إلى المظلتين الأمنية والعسكرية الأمريكيتين. وهنا تبرز مهمة كبيرة أمام الديبلوماسية الصينية تنحصر بالسؤال التالي: لماذا تنجح أمريكا في تصوير الصين بأنها الوحش الكاسر الذي يريد السيطرة على مقدرات دول حوض بحر الصين الجنوبي؟ وقد تقدمت الفيليبين إلى التحكيم الدولي، وصدر حكم لصالح الفيليبين دون أن تلتفت الصين إلى القرار.
تقول الولايات المتحدة إنها لا تتدخل في النزاع الحاصل في بحر الصين الجنوبي، لكنها ترسل قطعها البحرية إلى المنطقة من أجل المحافظة على حرية الملاحة. أمريكا تكذب، ولولا أنها تفعل لما عمدت باستمرار إلى استفزاز الصين عسكريا.
ميزان القوى
تطمح الصين إلى إنهاء مرحلة القطب الواحد على مستويين وهما الاقتصادي والعسكري. على المستوى الاقتصادي تحقق الصين نجاحا أسرع وأوسع من العسكري. الصين الآن هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقريبا ستكون الاقتصاد رقم واحد، وستحل الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. لكن على المستوى العسكري، ما تزال الصين بعيدة عن مستوى الولايات المتحدة، وحتى أنها تصنف على أنها أقل دولة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في الرؤوس النووية.
تحاول الصين تطوير قدراتها العسكرية والأمنية وإنما بسرية تامة. المعنى أن دوائر الاستخبارات العالمية لا تعرف بالضبط ماذا لدى الصين من قوة ردع، ولا تعلم جيدا عن التطورات العلمية والتقنية التي أحرزتها، ولهذا تخشى هذه الدوائر المفاجآت. ومن المعروف أن السين تملك جيشا ضخما يقدر بأكثر من مليوني جندي يقبضون على لاف الدبابات والطائرات المقاتلة. والصين تمتلك قوة بحرية تقدر بحوالي 700 قطعة بحرية.
يجمع الخبراء كما تجمع أوساط الاستخبارات الغربية أن الصين أنجزت خطوات كبيرة وواسعة نحو تطوير قدراتها النووية وكذلك في مجال الأسلحة التقليديبة، لكنها لم تطور من الأسلحة ما يضاهي الدبابات والطائرات الأمريكية. وفي المجال الصاروخي طورت الصين صاروخا عابرا للقارات يبلغ مداه حوالي 10,000 كيلومتر وقادر على إصابة أي هدف في الولايات المتحدة. هذا الصاروخ متعدد الرؤوس النووية، ويضرب عدة أهداف في آن واحد. تقول الأوساط الغربية إنه تمت تجربة الصاروخ لضرب أكثر من هدف وكانت التجربة ناجحة. مشكلة الصين فيما يتعلق بالمجال النووي أن عدد الرؤوس النووية لديها قليل جدا، وفق التقديرات، بالمقارنة مع ما تملكه روسيا والولايات المتحدة.
فرضت الولايات المتحدة على الصين تحديات تسليحية كثيرة كما فرضت على روسيا. أمريكا تسلح الفضاء، وتقيم دروعا صاروخية في عدد من دول العالم بهدف محاصرة مناطق المنافسة على الساحة الدولية. الصين تشكل المنافس الأقوى والأكثر صمتا، بينما تشكل روسيا المنافس الثاني على الرغم من قدراتها النووية الهائلة .
مخاوف الصدام
من المعروف أن الدول النووية لا تدخل في حروب بينية، وتكتفي عادة بحروب بالوكالة. الدول النووية تمتلك الردع المتبادل وكل دولة نووية مصابة بالرعب من الدول النووية الأخرى. ولهذا ليس من المتوقع أن تحشد الصين أو أمريكا قدراتهما النووية استعدادا للمواجهة، إنما تبقى المخاوف قائمة، والانتباه هام جدا حتى لا تؤدي استفزازات الولايات المتحدة فوق بحر الصين وعلى مياهه إلى صدام غير مخطط له فتنزلق الدولتان في مواجهة خاسرة لهما. تنبع المخاوف من الاعتبارات التالية:
1- من الوارد جدا ودائما أن تقوم الصين بالرد على استفزازات أمريكا فتحرك بعض قطعها البحرية وبعض طائراتها للتصدي للنشاطات الأمريكية في البحر. هذا التصدي قد يتطور إلى ما لا تحمد عقباه.
2- من المحتمل أن تستخف الصين بالفيلبين فتعمل على محاصرة مختلف نشاطاتها في بحر الصين أو منعها تماما. هذا سيقود الفيلبين إلى الاستنجاد بالولايات المتحدة على أرضية الاتفاقيات الموقعة بينهما. عندها ستكون أمريكا أمام خيارين: إما أن تقف إلى جانب الفيلبين وتتخذ إجراءات ضد الصين، أو تتجاهل الأمر فتفقد صدقيتها أمام أصدقائها في شرق آسيا ومختلف بقاع الأرض. وفي الغالب ستقف أمريكا مع حليفها بطريقة لا ترفع من منسوب التوتر إلى درجة حرب شاملة.
3- ما ينطبق على الفيلبين ينطبق إلى درجة أقل على فيتنام المهددة أيضا من قبل الاستحواذ الصيني على البحر.
الحجج والقانون الدولي
حجة الصين في الاستحواذ على بحر الصين الجنوبي أنها هي التي تركزت نشاطاتها التقليدية في البحر بدون منازع. أي أن البحر جزء من الحياة الثقافية والاجتماعية والتاريخية للصين، وكانت هي تجوب أرجاءه كيفما ترى مناسبا. الاستحواذ يكتسب شرعية من التاريخ والثقافة. من الصعب القبول بهكذا حجة بخاصة أنه لا توجد للصين جزر منتشرة في البحر ومأهولة بالسكان. حتى على النتوءات الصخرية التي تحاول الصين استغلالها للتبرير لا يوجد سكان.
دول شرق آسيا ترفض حجة الصين وتقول إن بحر الصين الجنوبي مياه دولية وتنطبق القوانين الدولية عليها كما تنطبق على غيرها من المياه، وبناء على ذلك لجأت الفيلبين إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وقررت المحكمة أن ادعاءات الصين باطلة، وأن للفليبين حقا قانونيا مؤكدا للنشاط في البحر سواء في صيد السمك أو تحريك قطع عسكرية بحرية.
الصين رفضت قرار المحكمة فور صدوره، وأكدت أنها لن تحترمه. قرار المحكمة يشكل انتكاسة للصين، وهو سيضعف موقفها الديبلوماسي على المستوى العالمي، لكن لا يوجد قوة تنفذ القرار. القوانين الدولية لا تنفذ إلا إذا كانت لصالح الأقوياء أو يؤيدها الأقوياء. ليس من المتوقع أن تتحرك الفيلبين لتنفيذ القرار لأنها هي الطرف الأضعف.
الصين وتايوان
الصين وتايوان لا يجتمعان، والصين تؤكد دائما على ضرورة عودة تايوان إلى الأرض الأم. الصين لا تعترف بتايوان، ودائما تضغط على الدول من أجل وقف تعاونها مع تايوان. هذه المرة الأمر مختلف حيث أن الصين وتايوان تتخذان ذات الموقف لكن دون تعاون. تايوان أكدت أن بحر الصين الجنوبي بحر صيني بحت، وهي ستتحدى أي قوة تعمل على انتهاك حرمة المياه الصينية. ولهذا حركت تايوان بعض قطعها البحرية لتستعرض قوتها أمام الفيلبين وفيتنام وكمبوديا، بالضبط كما فعلت الصين.
الحوار
الصين ليست معنية بخوض حروب واستنزاف طاقاتها وقدراتها العلمية والتقنية بخاصة أن خسائرها المادية والمعنوية في حرب تشارك فيها الولايات المتحدة ستكون هائلة. كما أن الولايات المتحدة ليست معنية بحرب حتى لو كانت بالوكالة. الشعب الأمريكي ملّ الحروب، وهو يريد أن يشعر بالاستقرار والهدوء والتفرغ لإصلاح البيت الداخلي. وإذا كانت الدولتان الكبيرتان غير معنيتبن بالحروب فإن الدول الأقل حجما وقوة ليست معنية أيضا. نحن سنسمع تهديدات وزمجرات كلامية في وسائل الإعلام صادرة عن كل الأطراف، لكن طاولة الحوار ستكون مستقر الجميع في النهاية.
www.deyaralnagab.com
|