الحكواتي ألمٌ ففنٌ ومُتعة…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 03.12.2020
في كتابه (الحكواتي) الذي يرصد من خلاله رحلته مع المسرح الذي بدأه بمسرح الحكواتي الفلسطيني منذ تأسيسه عام 1977 يتحدث الفنان عدنان طرابشة عن طفولته، في قريته المغار الجليلية، التي يعيش فيها أبناء الطوائف الثلاث، المسلمون والمسيحون والدروز، على سفح جبل حزّون المطل على بحيرة طبريا شمال غربها.
يبدأ سيرته ومسيرته منذ كان رضيعًا، فقد استمرت والدته بإرضاعه حتى بلغ الخامسة من عمره، فهو «شبعان من حليب أمّه».
يتذكر شقيقه الأكبر، الذي كان يعزف على الشبابة مختلف الأغاني التراثية الفلسطينية والعربية، والذي كان يرافق قطيع الماعز إلى المرعى، إلى أن يدخل التجنيد الإجباري، كونه درزيًا.
في العام 1968 يصاب يوسف خلال معركة مع الفدائيين الفلسطينيين في غور الأردن، ويتوفى بعد شهر من إصابته.
كان عدنان في العاشرة من عمره، ويتذكر التابوت الذي أحضروا فيه شقيقه يوسف، وقد لفّوه بعلم الدولة العبرية، والمراسم العسكرية التي جرت خلال دفنه التي تخللها إطلاق نار تحيّة للجندي القتيل.
لم تكن مدرسة ثانوية في المغار، فانتقل إلى (كلّية الجليل المسيحية) في قرية عيلبون القريبة، وهناك يلتقي بطلاب من مختلف قرى المنطقة، وبإدارة ومعلمين نقلوا الروح الوطنية الفلسطينية إلى طلابهم، وأدرك بأن تجنيد الدروز يأتي ضمن حلقة من مسلسل فرق تسد الاحتلالي، لتسهيل إتمام المشروع الصهيوني.
عندما يبلغ الثامنة عشرة، يرفض الانصياع لأمر الخدمة العسكرية، ولكن كي يحصل على إعفاء من الخدمة، فعليه أن يكون معاقاً جسدياً أو نفسياً، فيمثل دور المريض النفسي كي يحصل على الإعفاء، وبما أنه من الموحدين الدروز الذين يؤمنون بالتقمّص، يحكي للطبيب النفسي بأن روح شخص آخر اسمه صالح تعيش في جسده، وهو جندي درزي من جبل العرب في سوريا، استشهد خلال معركة مع الجيش الإسرائيلي، وهو يحثّه على نسف الكنيست بالمتفجرات.
يمنحه المختص النفسي إعفاء لمدة ستة أشهر، ولكن المختص النفسي في الجيش والمسؤول عن المتهرّبين من الخدمة العسكرية، يرفض إعفاءه، ويقول له أنت تمثل علينا، فأنت من الطلاب الممتازين في الجامعة. يحاول الانتحار بابتلاع كمية من الحبوب المنوّمة، ويبقى فاقداً وعيه ثلاث عشرة ساعة، ينقذه منها شقيق آخر له يعمل ممرضاً، وينقله إلى المستشفى.
يبقى عدنان مطلوباً إلى الخدمة العسكرية مدة عشر سنوات وهو يستمر في رفضه.
أثناء دراسته للمسرح والجغرافيا في الجامعة العبرية في القدس، اشترك طرابشة في تأسيس مسرح الحكواتي في القدس المحتلة، بمشاركة عدد من الفنانين، معظمهم من القدس والداخل الفلسطيني، فرانسوا أبو سالم مقدسي حمل جنسية فرنسية، رحمه الله، جاكلين لوبيك حملت جنسية أمريكية، ومن القدس والداخل، إدوار معلم، جميل عيد، محمد محاميد، واصف دنديس، إبراهيم خلايلة، ثم انضم راضي شحادة وداوود كتّاب وماجد الكرد، وفي سنوات لاحقة انضم إليهم عدد كبير من الفنانين بين ممثل وعازف موسيقي، وقد اتخذوا قاعة سينما النزهة في القدس مقرًا والتي أصبحت المسرح الوطني الفلسطيني عام 1984.
كانت أولى مسرحيات الحكواتي «باسم الأب والأم والابن». الاحتلال يقمع الأب، والأب يقمع الأم، والأم تقمع الابن الذي يُدعى مُطيع.
الجمهور جزء مشارك من العرض على طريقة مسرح بريخت، يجلس خلاله بعض الممثلين بين الجمهور، وأثناء العرض يطرد الممثلون المشاهدين عن مقاعدهم للجلوس في مكانهم، وهو ما يفعله المستوطنون في الواقع.
ينتقل الحكواتي في عروضه إلى مهرجانات عالمية في أوروبا.
في مهرجان «نانسي» في فرنسا عام 1980 يفاجئهم المسؤولون بأن جميع بطاقات عرضهم الأول قد نفدت، وعندما يبدأون بالعرض، يتفاجأون مرة أخرى بأن القاعة فارغة تماماً، ليتّضح لهم بأن نشطاء صهاينة اقتنوا جميع البطاقات لمنع دخول مسرحيتهم، ومزّقوا لهم إطارات سيارتهم.
في العرض الثاني نجحوا في جمع بعض المشاهدين. ولحسن حظهم، كان أحدهم ممثلاً لمسرح سويسري فدعاهم إلى سويسرا، وآخر إيطالي وهولندي وإسكندنافي، لتتواصل الدعوات إلى عشرات المدن الأوروبية ثم إلى قرطاج في تونس، ولندن فيما بعد، في كل بلد قصص وحكايات عن الطبيعة والناس الطيبين واللصوص والسياسة، بين مؤيد ومعارض.
كانت مسرحية الحكواتي الثانية (محجوب محجوب)، مستوحاة من متشائل إميل حبيبي، و«الجندي الطيّب شفيك» للتشيكي ياروسلاف هاشيك. في عام 1981 تدخل الفرقة إلى بولونيا لعرضها، ويفاجأ المؤلف بالفرق الشاسع في مستوى الحياة، بين نظام الفقر الذي زعموا بأنه اشتراكي، وبين أنظمة أوروبا الغربية، ولكن الجمهور هنا يعشق الفن والمسرح بصورة غير مألوفة، ويحظى مسرح الحكواتي بحضور وتكريم من ليخ فالينسا، الذي قاد نشاط الحركة العمالية ضد النظام الشيوعي في حينه.
في العام 1981 بعد عودته إلى بلدته المغار، يفاجأ بأن مكتبته فارغة من الكتب، تخبره زوجته ليندا بأن طلاب مدارس جاؤوا وطلبوها للقراءة، فيفرح بهذه الخبرية، فيما بعد يكتشف أن زوجته وشقيقه هايل أحرقوا عشرات الكتب خوفاً من زيارة مفاجئة للمخابرات، بعدما هاجم مراسل لصحيفة يديعوت أحرونوت في لندن الفرقة، معتبراً نشاطها عدائياً، الأمر الذي أحزنه لدرجة البكاء.
في العام 1989 يشترك في مهرجان عكا المسرحي من خلال مسرح الكرمة من حيفا، مشاركًا في مسرحية «رأس المملوك جابر» لسعد الله ونّوس، ويكون بين الحضور المختص النفسي من قبل الجيش الذي راقبه، يشاهد أداءه المسرحي، ويمنحه شهادة مجنون طيلة الحياة.
خلال قراءتي لهذا الكتاب الجميل الذي أرسله لي إلكترونياً للاطلاع عليه قبل نشره، أتذكر مسرحية «رأس المملوك جابر»، التي قدّموها بشكل مدهش لا ينسى، وكلّما التقيت صدفة بمخرجها فؤاد عوض أو أحد الممثلين فيها، أذكرّه بها، ويبدو لي أن عدنان كان يعيش الحالة بأن من يخدم في جيش الاحتلال، إنما يقوم بدور المملوك الخائن، الذي كان مصيره قطع رأسه.
ينتقل طرابشة إلى العمل المسرحي في الداخل الفلسطيني، وفي العام 1987 يشارك في إعداد عمل جديد في مسرح حيفا البلدي، مع ممثلين من عرب ويهود تحت عنوان «الطائفة البيضاء»، وبعد تدريب ثلاثة أشهر، تتدخل السلطة مع إدارة المسرح، ويثار موضوعها في الكنيست من قبل حركة أطلقت على نفسها تسمية «الدروز الصهاينة»، وذلك أن المسرحية تتناول واقع عزل الدروز عن عروبتهم من خلال تجنيدهم في الجيش، ولم تعرض المسرحية، وهذا أقنعه بوقف عمله في مسرح حيفا البلدي، وبدء العمل على إنشاء مسرح مستقل.
أمامي مئة وخمسون صفحة أخرى لقراءتها، أعيش المتعة التي يتوخّاها القارئ من كل كتاب مميّز، متعة وفائدة ومعلومات.
www.deyaralnagab.com
|