لتحيا نفسي مع الفلسطينيين…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 03.06.2021
كالعادة، بعد كل عدوان على قطاع غزة، أتَّصل لأطمئن على الأقرباء والأصدقاء.
جميع من أتواصل معهم يحمدون الله على كل حال، وما يقولونه عادة هو التسليم بأمر الله، وبأن من كُتبت له الحياة لن تقتله شِدَّة.
هذا الإيمان المطلق يزداد رسوخاً في الوقت الذي يظن قادة دولة الاحتلال فيه بأنهم فعلوا أقصى وأقسى ما يمكن فعله لإخماد روح المقاومة لدى هذا الشعب ومن ثم ابتزازه، وبأن لا مناص له سوى أن يسلّم ويركع لهذا العملاق العسكري والاقتصادي والإلكتروني.
ينهض هذا الشعب مستعداً للاحتفال بالنصر، مع بدء سريان وقف إطلاق النار بدقائق قليلة، إنّها ليست المرة الأولى، وهذه إشارات للمرات والجولات القادمة التي نرجو بحق ومن القلب تجنّبها، لأن ثمن كل جولة باهظ ومن أرواح ودماء زكيّة.
لا أحد يُحب القتال لكن «كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم». لا مناص أمام شعب يتعرّض إلى الابتزاز والاغتصاب والمحو والتزييف المنهجي، حتى بات لليهودي في ظهر الغيب، الذي سيولد في سنة 2040 في أستراليا، الحق بأن يأتي لطرد الفلسطيني من بيته والحلول في مكانه، كصاحب حق إلهي موروث منذ العهد القديم إلى يوم القيامة.
هناك بالونات ضخمة ممتلئة بغاز الهيليوم ملقاة في الساحات الخلفية للأبنية، ووراء المؤسسات، وفي ردهات المستشفيات والمراكز التجارية، الجميع كان يمرُّ إلى جانبها مطمئنَّاً، ولا يتخيّل قوة الانفجار الكامنة فيها.
إنه الجيل الفلسطيني الذي ولد في انتفاضة عام 2000 وبعدها أو قُبيلها، هذا الجيل الذي نما وينمو في أجواء التغريب المُمنهج، ونتن العنصرية التي تلاحقه حيثما ذهب، هذا الجيل الذي ترقُب عيونه بصمت، التشويهات المتكرِّرة للكلمات العربية على معظم اللافتات في الطرق والأمكنة العامة.
ربما سمع بعضهم بقانون القومية، لكن معظمهم لم يبحثوا في معانيه وأبعاده العميقة، لكنهم يلمسونه حيثما ذهبوا على جلودهم.
قصّات شعورهم تشبه قصات نجوم كرة القدم أو الفنانين، تبدو غريبة لنا نحن جيل الآباء والأجداد المحافظين على قصة الشَّعر نفسِها منذ عقود.
لا يروق لنا معظم ما يفعلونه، فهم مختلفون في تعبيرهم عن الفرح وعن الحزن، ولهم ذائقة فنية قد تستفزُّنا، وقد تأخذنا الظنون بأنهم جيل من الإمَّعات، وفجأة نكتشف أنهم شجعان وجدّيون، أكثر بكثير مما ظننَّا.
بعضنا لا ينتبه إلى المسافة الزمنية الهائلة والتطورات التكنولوجية والمعرفية بين جيل الآباء والأبناء، وما يرافق هذا من رؤى مختلفة إلى الحياة ومعاني الأشياء والقِيم.
إنه جيل رائع يعشقُ الحياة، ولكنه يصطدم بغموض مستقبله، فالسَّبيل ليس واضحاً إلى أين ومتى وكيف!
الأفق مسدود بفظاظة أمام أكثرهم، حتى في الحاجات الأساسية الأولى البديهية، يحاصرهم التمييز العنصري عندما يفكرون في أمور مثل السَّكن أو التَّرفيه والتنزُّه في الحيِّز العام، أو في التوجه إلى أي مؤسسة لحاجة ما، أو عندما يسافر أحدهم في اليابسة أو الماء والفضاء، عندما يتمدّد للاستراحة على رمال شاطئ البحر، وعند دخول قاعة لحضور حفل موسيقي، يشعر هؤلاء بأنهم محاصرون وبأن هناك من يحسب عليهم حركاتهم وأنفاسهم، وهو متّهمون ومشبوهون حيثما ذهبوا، ويحتاجون إلى إثبات براءتهم باستمرار أمام ملايين القضاة المنتشرين في كل مكان، حتى في المراحيض العامة.
عندما كنت أتخوّف من ضياع شبابنا وانقطاعهم عن قوميتهم الفلسطينية والعربية، كان والدي رحمه الله يردُّ مبتسماً: لا تخف، فعنصرية الطرف الآخر الذي يرى نفسه فوق البشر، لن تسمح لأحد بأن ينسى أصله، إنهم يرغمون حتى العملاء والساذجين على إعادة حساباتهم والعودة إلى أصولهم.
فجأة قدحت الشرارة وانفجر بركان غضب.
الجميل في هؤلاء أنهم يغضبون دون التخلي عن ابتساماتهم، ولا يفرِّطون في لحظات الفَرح.
يطلقون صهيل ضحكاتهم خلال الكرِّ والفرِّ مع قوات القمع المحبَطة، المحمّلة بما لا تطيقه البغال من حقد، على كل من تجرّأ على التمرّد ولم يمتثل لأوامر العساكر.
إنهم يتسلحون بوابل من السُّخرية والأصابع الوسطى والحجارة والحواجز النارية استعداداً للمواجهة.
يواجهون وهم ينشدون، وهم يضحكون، مع أقنعة وبدونها، حتى عندما يصاب أحدهم فإنهم يتصرّفون مثل وحدات منظمة من دون سابق تدريب، الأمر الذي يثير الدهشة والإعجاب.
في معظم المواجهات، كانت سيارات إسعاف تابعة لمراكز طبية عربية جاهزة لنقل الحالات الطارئة، تقف على أقرب مسافة ممكنة من مواقع الاشتباك.
المميز هذه المرة هو وجود عدد لا بأس له من الفتيات إلى جانب الفتية، وهذه إشارة أخرى إلى تحولات اجتماعية عميقة، وإلى أن العنصرية التي تتباكى على حق المرأة في المجتمعات العربية لا تميّز في قمعها بين ذكر وأنثى، ولا حتى بين طفل وشيخ وشاب، فموجة الحقد العنصري عالية.
لهذا من الطبيعي أن يكون الرّد من الجنسين، وخصوصاً أن معظم هؤلاء طلاب وطالبات كُليات وجامعات ومعاهد، أو خريجو ثانويات لم يحدّدوا مساراتهم التعليمية بعد.
إنهم يبتسمون حتى أثناء إلقاء القبض عليهم وزجِّهم إلى المعتقلات، ويتبادلون شارات النصر في قاعات المحاكم رغم الحراسة المغتاظة.
لا أحب تصنيف الصراع على أنه بين العرب واليهود، أو بين المسلمين واليهود. الصراع الحقيقي هو بين أفكار وممارسات مريضة ظلامية، متمسِّكة بنظرية التفوّق العرقي على الآخرين، وبين من يرفضون هذا الذل وهذا التصنيف والسلالم العرقية، ويؤمنون بالمساواة بين أبناء البشر، الصراع بين قاطعي طرق وضحايا يدافعون عن أنفسهم.
الجميع رأى ذلك النائب اليهودي الذي تعرَّض إلى الضرب والرفس بأحذية الشرطة رغم حصانته البرلمانية، فهم يرون به عدوّاً، لأنه وقف إلى جانب المستضعفين في الأرض، العنصرية عمياء. الإعلام الإسرائيلي جزءٌ لا يتجزأ من المنظومة الأمنية، فهو مثل أي جهاز إعلامي في دولة ديكتاتورية وفاشية، يقلب الحقائق بوعي تام ومع سبق إصرار وليس جهلاً، يحوّل الضحايا إلى معتدين ومتعطشين إلى الدماء، ويبرِّئ عصابات الفاشيين القتلة، وهو يصف شبابنا الأبطال الجميلين بالمخرّبين.
المُخرِّبون، تسمية استعمارية قديمة يستخدمها الغزاة والمحتلون ضد كل من يقاوم بطشهم، بينما يجلس المخربون الحقيقيون في أعالي هرم السلطة وقيادة ما يسمى قوى الأمن.
لا نريد تلك الصرخة التي أطلقها شمشون الجبار في معبد داغون «تموت نفسي مع الفلسطينيين»، ولا نريد صرخات «فلتمت أنفسنا مع الإسرائيليين»،
نريد صرخة حياة وعدالة ومساواة للجميع، هل هذا طلبٌ مستفزٌ وكثيرٌ؟
www.deyaralnagab.com
|