المواطن – التلفزيون: الدّونكيشوتيّة وطواحين إعلام الشارع!!
بقلم : ندى حطيط ... 09.07.2021
إذا كانت الجريمة التي نفذت ضد النّاشط المدنيّ نزار بنات قد كشفت عن جديد، فهو دون شك حالة العجز الكليّ الذي تشعر به السلطة تجاه موجة صعود الشكل الجديد من العمل الإعلاميّ، والذي خرج من قمقم القنوات المسيطر عليها محليّاً إلى فضاء الإنترنت اللانهائي.
والسلطة في رام الله، ككل سلطة في العالم العربيّ، تقف كأنّها دون كيشوت (بطل رواية الإسباني سيرفاتيس، الذي يقاتل العالم الجديد بأسلحته العتيقة) لا حول لها ولا قوّة في مواجهة طواحين هواء تسرّبت إلى واقعنا بخفّة الأشباح حتى كبرت وصارت في ذهن الحاكم غولاً: المواطن الصحافيّ المسلّح بهاتف ذكيّ يذيع منه على منصات عديدة معولمّة للتواصل الاجتماعي مواقف وتحليلات وأخباراً غير مسيطر عليها قادرة على السفر عبر جهات الكوكب الأربع برمشة عين، فيما يبهت يوماً بيوم دور مؤسسات الإعلام التقليدي حتى أن تلفزيون السّلطة مثلاً – وهو مؤسسة ضخمة بميزانيات وأطقم – يكاد لا يشاهده أحد.
نزار بنات كان فرداً أعزلاً، امتشق كاميرته الشخصيّة وصفحته على الفيسبوك ليقوم بدور: السّلطة الرابعة، التي تسهر لتراقب وتنتقد وتطرح بدائل لما تقدم عليه السلطات الثلاث من إجراءات، والتي بدونها لا تقوم قائمة لمجتمع حديث غير قبائليّ ولا أحاديّ. أزعجهم لدرجة أنهم ارتكبوا جريمة يندى لها جبين الإنسانيّة لإسكاته.
*تحوّل بنيويّ على حساب الإعلام التقليدي
نزار بنات وآخرون في فلسطين المحتلّة كانوا أنموذجاً عملياً على التحوّل المضطرد في بنية العمل الصحافي / الإعلامي المرئيّ خلال العقدين السابقين ترافقاً مع تقدّم تصاعدي في قدرة تقنيّات الاتصال وتشظ متمدد لشبكات التواصل الاجتماعي، فلم تعد الصحافة المرئيّة حكراً على مذيعي التلفزيون ومراسلي القنوات ومعدّي الأخبار لوكالات الأنباء، كما كانت طوال القرن الماضي، فنحن في أيّامنا وخاصة جيل الألفيّة قادرون على معرفة الأخبار من مواقع وسائل التواصل الشعبيّة مثل الفيسبوك وتويتر، وربما بأسرع من التّحديثات عبر الإنترنت لمواقع الإعلام التقليدي، ولم يعد التّحرير وتنسيق المعلومات الإخبارية يتطلبان عمليات طويلة شاقة، ومعدات مكلفة ووقتاً ثميناً قبل أن يصل الحدث أو الفكرة إلى المتلقين، إذ يمكن ببساطة لكل شخص عملياً إطلاق تلفزيونه الخاص وإذاعته الشخصيّة – من بيته أو من قارعة الطريق – بل وصحيفته / مدونته الفرديّة، وجذب جمهور واسع يسهل لأفراده الاشتراك بأيّ منها مجاناً، وتلقي التحديثات المستقبليّة من ذات المنافذ فور إطلاقها.
من فلسطين أيضاً شهدنا انقلاباً عالمياً في نقل الأخبار حول مُجريات انتفاضة “الشيخ جرّاح” الأخيرة، ومعركة “سيف القدس”، التي تلتها. لقد واكبنا التطورات لحظة بلحظة أحياناً على مواقع التواصل الاجتماعي من صفحات أشخاص عاديين في موقع الحدث، واستمع الملايين حول العالم لأصوات فلسطينيّة شابة من القدس واللدّ وغزّة وأم الفحم وهي تقدّم مواقفها من الاعتداءات الإسرائيلية التي تتعرض لها مجتمعاتهم وفي الحقيقة فإن المرء في حال التّلقي المتفاعل والعاجل هذا ينتهي أكثر انخراطاً واشتباكاً بالحالة مما لو كان يتابع ذات الأحداث عبر الشاشات أو صفحات الصحف. هذا الانقلاب الجذري، كانت له أصداء واسعة عبر العالم، وشهدنا تحولات غير مسبوقة على مستوى المزاج الشعبيّ في مدن كثيرة كانت غير معنيّة بالشأن الفلسطيني أو طالما هي منحازة بالمطلق للإسرائيلي.
ليست مثاليّة لكن
أين هو الإعلام المثالي؟
صحافة المواطن الذاتية مرئيّة ومكتوبة ومسموعة، ليست مثالية بالطبّع، فهي لا تتبع دائما الأخلاقيات المفترضة من الصحافة المحترفة أو مبادئها المهنيّة، ووضعها القانوني مساحة رماديّة لم تحسم بعد، كما أنها لا تحمل دائماً حقائق تامّة وفيها مجال للخطأ البشري والانحياز، بل وحتى التّوظيف بنيّة التضليل وقلب الحقائق.
ويرى البعض أن دور هذه الصحافة مهما اتسّع لن يكون قادراً على أن يكون بديلاً كليّاً عن قنوات الإعلام والتّلفزيونات التقليديّة وسيبقى دائماً تكميلياً ومسانداً فحسب، من حيث قدرتها على تشكيل الرأي العام. ومع ذلك يواصل الشكل الجديد من إنتاج المحتوى العموميّ تحدي المسارات التقليدية للصّنعة الإعلاميّة، ويفرض إيقاعات ووجهات نظر جديدة حول الطريقة التي يمكن أن تنتقل بها الأخبار والآراء والأفكار، ولا يعرف أحد بالفعل إلى أين يصل في القادم القريب والمتوسط، سيّما وأنّ أشكالاً جديدة بدأت في التطوّر إلى مستويات أعقد كالإعلام التّشاركيّ مثلاً (حيث يتلاقى عدد كبير من منتجي المحتوى الأفراد تحت منصة نشر مشتركة تضاعف من فرص وصولهم جميعاً إلى جمهور أعرض)، إضافة بالطّبع إلى استفادة قنوات الإعلام التقليدي من نتاجات فرديّة لاستكمال تغطيتها، وهي أمور يتقبلها المتلقي بشكل متزايد، بل ويرى فيها شكلاً لسبق صحافي من نوع آخر.
ويبدو النّاس على العموم أكثر تسامحاً مع محتوى صحافة المواطن، أقلّه مقارنة بالصرامة التي يفترضونها بالإعلام التقليدي، بل ويمكن المجادلة بأن بيوتاته وبالتحديد الكبرى (والحكوميّة) لم تقدّم في أي وقت قريب ما يبعث على الثقة بنزاهة محتواها بعد تكرار فضائح الأخبار الكاذبة خلال العقد الماضي، والتي تقلّصت بسببها ثقة الجمهور بالمحتوى المعروض عليه إلى مستويات دنيا قياسيّة. ولذا فلا ملامة إن تقبّل مستهلكو المادة الإعلاميّة صحافة المواطن ووثقوا بها ربّما أكثر من ثقتهم بالإعلام الرئيسيّ المفتقد للمصداقيّة. ولعل مثال “ويكيبيديا” يكون ذا صلة هنا أيضاً: فرّغم أن الأغلبيّة تدرك سهولة أن يكتب في الموسوعة الافتراضية كل من هبّ ودب، فإن عديد الأشخاص، يستمرون في الاعتماد عليها بشكل كبير كمصدر أوليّ للمعلومات.
*التكيّف أو الانقراض:
هذا العالم يتغيّر بسرعة
تنتمي السلطة الفلسطينية وقادتها إلى جيل كانت الصحف والمجلات والتلفزيون تعدّ فيه أشكالا هامة من وسائل التأثير والتوجيه. صعود التكنولوجيا العاصف خلال سنوات قليلة، لم يغيّر من منطق العمليّة الإعلاميّة برمته فقط، ولكنّه فتح باب التغيير لكل شيء. ومن الجليّ أن كل سلطة ستنتهي عاجلاً أم آجلاً إلى التكيّف وإلا انقرضت بحكم الطبيعة والتاريخ، وهذا يشمل بشكل أساس فهم الصيغة المستجدة التي يتعاطى بها المتلقي المعلومات، بمصادرها وتفاوتها وطريقته في تفكيك رموزها وقدرته على إعادة بث تلك المعلومات أو ما يعارضها. إنها بحق القرية العالميّة، وما كان يمشي سابقاً بشأن الهيمنة على السرديّات، لم يعد وارداً اليوم ولا غداً ولا حتى بعد الغد!!
www.deyaralnagab.com
|