«حيث لا نسيان» لمحمود معروف…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 25.08.2022
الحنين إلى الأوطان حالة إنسانية، كثيراً ما جرى التعبير عنها في الشعر والنثر، إلا أنَّ البُعد عن الوطن قسراً وعجزاً وتحت وطأة التهديد بالقتل أشدُّ إيلاماً.
زيارات الفلسطينيين الذين ولدوا في الشتات أو أولئك الذين ولدوا في فلسطين وهُجّروا منها في عام النكبة، علامة فارقة في حيواتهم، فهو حلم يراود الجميع.
هنالك من سمع عن بلده من والديه وسنحت له الفرصة إلى زيارته بجواز سفر أوروبي أو أمريكي وغيره، وهناك من زارها بعد اتفاقات أوسلو، بعد حصوله على جواز سفر من السلطة الفلسطينية شرط أن يكون قد تجاوز مرحلة عمرية معيّنة وفحصاً أمنياً دقيقاً.
هذه الزيارات أو العودة المؤقتة، كان قد افتتحها غسان كفاني أدبياً في روايته عائد إلى حيفا التي صدرت عام 1969!
كثيرون زاروا مسقط رأسهم أو مسقط رأس ذويهم، في تلك البلدات التي تحوّلت في أذهانهم إلى جنان الله على الأرض، وصار البيت المفقود ذو الغرفتين الحجريتين قصر السّعادة الأسطوري، وشجرة الصبّار أو التين أصبحت شجرة الحياة، وصارت أمنية أكثرهم العودة إما حيّاً أو رفاتاً يدفن في تراب أثمن من الزعفران.
لم تتحقق أحلام العودة إلا جثثاً أو أسرى، سوى تلك التي سُمِّيت «العودة إلى المتاح من الوطن»، وبأعداد قليلة جداً حسب اتفاقات أوسلو، وفي مناطق السلطة الفلسطينية فقط، وهناك قلّة نادرة ممن تحققت أمنيتهم وماتوا في وطنهم خلال زيارته، ودفنوا فيه.
هناك من دوّنوا زياراتهم فعبَّروا عن مشاعرهم وعن ما وجدوه في بيوتهم وأرضهم أو ما حدث لها، وكتب بعضهم عن الأسر الغريبة التي سكنت في بيوتهم أو بيوت ذويهم، البعض سُمحَ لهم بالتقاط الصُّور، وتبادلوا بضع كلمات مع ساكني بيوتهم، والبعض رفضَ السَّماح لهم حتى بالتقاط الصور وهدّدهم وتوعّدهم، كأنه يخشى من أن تصبح أحلام عودتهم حقيقة، أو لأنه لا يريد لأبنائه أو أحفاده أن يروا ويدركوا الحقيقة كما هي.
أحد المسكونين في هذا الحنين، كتب عن زيارته إلى بلد ذويه، هو الصحافي الراحل محمود معروف، الذي كان حتى رحيله مديراً لصحيفة «القدس العربي» في الرِّباط.
رحل محمود ولم يُتِح له قدره أن يرى كتابه (حيث لا نسيان)، الذي وثّق فيه عن ثلاث زيارات إلى فلسطين الداخل، 2017 -2018-2019 – زار خلالها معظم المدن والمعالم فيها من القدس حتى صفد مروراً بحيفا وعكا ويافا، والأهم هي زيارته إلى قريته دير القاسي.
لم تتح السلطات الإسرائيلية دخوله إلى فلسطين إلا في العام 2017.
في زيارته الأولى في أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، دخل صاحب الأرض إلى بلده برفقة صديقه صالح عباسي صاحب دار النشر «مكتبة كل شيء-حيفا»، في جولة صامتة في السّيارة، كأنّهما لصّان يخشيان القبض عليهما متلبّسين، كان محمود ينظر من النافذة في عيون أولئك المستوطنين ممن وقفوا أمام بيوتهم، وبعضهم مسلّحٌ، يقول: «لقد كانوا متأكدين بأن هذا الغريب هو ابن البلد، رأيت ذلك في أعينهم».
ولد محمود معروف في مخيّم غورو في منطقة بعلبك في لبنان عام 1953، حيث كانت أسرته قد نزحت بعد التهجير من قرية دير القاسي، التي تبعد خمسة كيلومترات فقط عن الحدود اللبنانية، ثم انتقلت الأسرة عام 1964 إلى مخيم الرشيدية قرب صور التي درس فيها الابتدائية والثانوية، ثم واصل دراسته في بغداد، وفيها تعرّف على بحرية عدوان، وهي في الأصل من قرية جبع من كرمل حيفا، والتي ارتبطت به كزوجة ورفيقة لدربه، وانتقلت معه إلى المغرب منذ عام 1989 حتى رحيله الفجائي في الرباط ودفنه فيها في 3 سبتمبر/ أيلول 2020.
كان قد أرسل لي مسوّدة الكتاب ولآخرين من أصدقائه للمراجعة، وخصوصاً المادة التي تتعلق بالمناطق التي زارها في الجليل، والتي رافقتُه في آخرها عام 2019 إلى مدينة صفد برفقة مضيفه الصديق صالح عباسي.
تحوّل اسم قريته دير القاسي إلى (إلكوش)!
عادة يجري تحوير الأسماء الأصلية للقرى المهجرة بتغيير حرف أو اثنين أو إضافة أحرف فقط!
مثل عين حوض-عين هود، لوبية-لافي، عين الزيتون-عين زيتيم، جبع-جيبع، وغيرها من مئات الأسماء، ولكن في حالة بلد دير القاسي جرى استبدال وليس تحريفه فقط، فلا علاقة لاسم (الكوش) باسم دير القاسي! وحسب الرواية التوراتية أن أحد أنبياء إسرائيل ويدعى (ناحوم) عاش في الكوش، ولكن أين تقع الكوش؟ معظم سكان هذه المستوطنة من كردستان العراق، وقد يكون مصدر التسمية استنساخاً لاسم مدينة ألقوش من محافظة الموصل في كردستان العراق.
في صفد على جبل كنعان عصر يوم جمعة في نوفمبر-تشرين الثاني 2019، يدنو دخول السَّبت، في بلدة معظم سكانها من اليهود المحافظين والمتشدِّدين.
كان المشهد غير مريح أبداً، فقد اكتظت الأزقة بالمسلحين من ذوي القبعات المطرَّزة، التي تميّز أتباع مجموعات دينية قومية متطرّفة، وهم غير المتدينين الحريديم ذوي القبعات السَّوداء.
طفنا في أزقتها ومررنا في ساحات المحلات التجارية وبالمسجد الأحمر، ثم اخترنا مقهى يطل على الهضاب والسفوح المنحدرة حتى بحيرة طبريا في مشهد كأنه لوحة فنية.
كان محمود يريد تناول وجبة الغداء في صفد كي تبقى ذكرى، ولكنني حرمته منها، وطلبت الرحيل من المكان، أيُّ متعة في تناول الطعام وحولنا عشرات المسلحين المتطرفين! في اللحظة التي سيسمعون فيها كلماتنا العربية سيوجّهون إلينا نظرات مشحونة بالكراهية والعداء، وطبعاً نحن لن نجلس صامتين، ولا متعة في هكذا أجواء.
أقنعتهما بأن نذهب إلى قرية الجشّ القريبة، وبالفعل وجدنا مكاناً دافئاً وجميلاً، فكانت جلسة طويلة وممتعة، خصوصاً أن المكان كان قد ازدان لاستقبال أعياد الميلاد المجيدة المقتربة.
كتبتْ رفيقة دربه السّيدة بحرية عدوان في المقدمة عن مراحل إعداده للكتاب، خصوصاً اجتهاده في عام الكورونا 2020.
وكتب الروائي يحيى يخلف في مقدمة ثانية واصفاً الكتاب بأنه «إضافة إلى متعة القراءة، فهو وثيقة اجتماعية وثقافية وشهادة على نمط التفكير وأسلوب الحياة والسلوك في مجتمعات وقرى فلسطين قبل النكبة»، وظهّر له الروائي ربعي المدهون، الذي كتب يقول: «بين أيدينا كتاب صار وصية، نص ممتع ومشوق وغنيٌ بالتفاصيل».
كان عدد سكان دير القاسي في عام النكبة 1300 نسمة، اعتمدوا على زراعة الفاكهة والتّبغ في معيشتهم، وقد جرى احتلالها في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1948 وتهجير السكان ممن بقوا فيها بعد قصفها بالطيران، أسست ألكوش عام 1949 على أنقاض دير القاسي، معظم سكانها من أصل كردستاني، ويبلغ عددهم في إحصاء 2021 حوالي 270 نسمة. أما محمود معروف أبو نبيل، فقد كتب في الصفحة الأولى من كتابه: «إلى أحفادي جوانا ويوسف وياسمين وأليزا وفادي.. هذا وطنكم لا تنسوه».
www.deyaralnagab.com
|