الملكة إليزابيث الثانية كصورة وأيقونة: النخبة استدعت أثقل أدوات المدفعيّة الأيديولوجيّة!!
بقلم : ندى حطيط ... 16.09.2022
تزامنت عهود الملكات البريطانيات الشهيرات إليزابيث الأولى وفيكتوريا، مع فترات من النمو والتوسع والتمدد الاستعماريّ في التاريخ ال، ولذا كان من اللائق دائماً ربط سيرتهن الشخصيّة، وأدائهن السياسيّ بحالة شاملة من الصعود الوطنيّ، فيما ألقي على عاتق الملكة إليزابيث الثانية أن تكون دعامة النّظام البريطانى، بينما تتصالح الأمّة مع واقع أفول الإمبراطوريّة وتموضعها في مكان متغيّر من العالم.
عندما استلمت الملكة إليزابيث الثانية العرش في عام 1952، كانت بريطانيا تنوء تحت ثقل مرحلة الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، حيث كانت أعمال إعادة البناء لا تزال مستمرّة بعد سبع سنوات من انتهاء العمليّات العسكريّة، فيما يحصل المواطنون على المنتجات الغذائيّة الرئيسية، مثل السكر والبيض والجبن واللحوم من خلال نظام تقنن محكم، وتعتمد الخزينة العامّة بشكل مكثّف على الدّيون لتسديد رواتب الموظفين. إلا أن الأصعب على النخبة البريطانيّة كان حينئذ بداية سلسلة الفقدان المتتابع للمستعمرات القديمة واحدة تلو الأخرى، بما فيها الهند (درّة التاج 1947)، والتي تسارعت حلقاتها خلال عقدي الخمسينيّات والستينيات، في الوقت الذي شرعت فيه إمبراطوريّة أخرى (الولايات المتحدة) بالصعود ووراثة الهيمنة على نظام عالميّ جديد انزاح مركزه من أوروبا الغربيّة إلى الجانب الآخر من الأطلسي. لم تتصالح النخبة البريطانيّة إطلاقاً مع حقيقة أن جزيرتها لم تعد سوى مجرّد قوّة أوروبيّة متوسطة أخرى، وأرادت البحث عن صيغة للتموضع داخليّاً وخارجيّاً في عالم ما بعد الإمبراطوريّة، ولذلك فقد جاءت لحظة صعود إليزابيث الثانية إلى العرش – بعد الوفاة المفاجئة لوالدها الملك جورج السادس (1952) – في توقيت ملائم. فالظروف الاقتصاديّة كانت تتجه إلى التحسّن التدريجيّ، والبلاد بحاجة إلى مزاج جديد لاستعادة اتجاه النّهوض بعد كآبة الحرب، وكذلك إلى تقديم نفسها كقوّة عالميّة على المسرح العالميّ، رغم انكماش نفوذها على الأرض. ولذلك فقد أصبحت الملكة الشابة الجميلة منطلقاً رمزيّاً مكثّفاً لصياغة صورة بريطانيا جديدة لمرحلة ما بعد الحرب في أذهان الجميع داخليّاً وخارجيّاً.
تقرر حينها أن يُصار إلى إقامة حفل تتويج أسطوري للملكة – تم التحضير له طوال أكثر من عام كامل – ليكون بمثابة الإعلان عن ولادة بريطانيا الجديدة تلك، واستدعيت لأجله أثقل أدوات المدفعيّة الأيديولوجيّة: تراث العصر الإمبراطوري الفيكتوريّ من الطقوس الشكليّة الباذخة، و(مسرحيّة) الكومونولث -كبديل عصريّ متحذلق عن أرض الإمبراطوريّة، التي لا تغيب عنها الشمس- وأحدث معطيات تكنولوجيا التأثير بالوعي البشري وقتها: التلفزيون، إلى جانب أدوات الإنتاج الثقافي المؤدلج الأخرى.لا شيء يحدث بالصدفة في لندن.
صناعة الأسطورة
أُنفقت ثروة ضخمة على خلق صورة أسطوريّة عن النظام الملكي البريطانيّ من خلال الأزياء العجائبية والشعارات الموحية والمجوهرات الساطعة، كما سلسلة من الطقوس المرمّزة اختلط فيها الدينيّ بالوثنيّ، والقروسطيّ بالمعاصر، ورسمت حدود دقيقة لعلاقة الملكة برعاياها، سواء أثناء التتويج أو بعده.
أمّا الكومونولث فوجد منذ 1926، إلا أنّه شهد إعادة تأسيس جديد في العام 1947 من خلال ما سمي بإعلان لندن، وأصبح يمكن للنخبة البريطانيّة التظاهر بأن إمبراطوريتها لا تفنى، وإنما تحوّلت من شكل لآخر. فهذه الهيئة التعاونيّة جمعت بريطانيا بأكثر من خمسين من مستعمراتها السابقة على صعيد واحد، ومنحتها الفرصة تالياً لتكريس الملكة البريطانيّة الجديدة كرمز سياسيّ مهيمن على أكثر من مليار شخص، ورأساً رمزيّاً للدّولة في 14 بلداً تمتد من نيوزيلاندا في أقصى الشرق إلى كندا في أقصى الغرب.
تم الترويج للكومونويلث بضخامة مقصودة في حفل تتويج الملكة إليزابيث الثانية عام 1953، فزيّن فستانها بشعارات مستمدّة من الزهور الوطنيّة للدول الأعضاء، وعرضت الاحتفالات الموازية فيها عبر البرامج التلفزيونية والإذاعيّة والصحف، واستدعي عشرات الزعماء والوجهاء منها لحضور التتويج عياناً، الذي كان في وقته التلفزيون أحدث تقنيّات الإعلام الجماهيري على الإطلاق. وقد تقرر رغم معارضة بعض الحرس القديم بثّ الحفل على الهواء مباشرة، وهو ما ضاعف بشكل مذهل من تأثير المكوّن المسرحيّ الاستعراضيّ له، وشكّل إلى حد كبير المعالم التكوينية الأولى لصورة بريطانيا الجديدة في أذهان البريطانيين والعالم.
بريطانيا، حيث لا يمكن عمل شيء تقريباً دون وجود أيقونة الملكة
الجهود الاستثنائيّة في حفل التتويج تحولت لاحقاً إلى صناعة متكاملة لماركة ملكيّة تذكر الرعايا بوجودها المركزيّ في مختلف جوانب حياتهم: من العملات (الورقيّة والمعدنيّة)، والطوابع البريدية إلى البورتريه والصور الفوتوغرافية المحترفة، ومن خلال صحف التّابلويد ووسائل الإعلام المرئي والمسموع وأفلام السينما والكتب والمجلات إلى الخزف الملّون وأدوات المطبخ المزينة بصور جلالة الملكة وشعاراتها، حتى قيل إنّه لا يمكن عمل شيء في بريطانيا دون وجود أيقونة الملكة. ومن الأمثلة على هذه الصناعة الفيلم الوثائقي «العائلة الملكيّة» الذي أنجز في 1969 وتضمّن تسجيل عشرات الساعات من المشاهد العائليّة الحميمة، مثل حفلات الشواء العائلية، وحفلات عيد الميلاد، وحتى الملكة الراحلة وهي تصطحب الأمير إدوارد الرضيع إلى متجر للحلويات. لكن في النهاية، قام قصر باكنغهام بتنقيح الفيلم الوثائقي، الذي تبلغ مدته 90 دقيقة، بحيث لا يكون متاحاً للعرض العام ومقتصراً على استعمالات القصر، فيما بقيت أغلب اللقطات غير مستخدمة. وحديثاً، قدّمت منصة «نيتفلكس» ست مواسم من مسسسلها الدّرامي (التاج) الذي يروي سيرة دراميّة موافقاً عليها للأسرة الحاكمة.
استمرت الملكيّة البريطانيّة في توسيع هذه الهالة الأسطوريّة وتعميق أثرها في الثقافة والسيكولوجيا البريطانيّة معتمدة على توازن دقيق بين الاستعراض المبهر والإخفاء حد السريّة لإبقاء وهجها الجذّاب متقداً. ففي الاحتفالات العامّة والمناسبات العائليّة الملكيّة (حفلات الزّفاف وولادة الأطفال وأعياد الميلاد) فإن العائلة المالكة مرئية لحدّ الإغراق، لكن الأمور الداخلية للمؤسسة الملكيّة تظل مسيّجة بنطاق صارم من التّغطية والكتمان.
كبُرت العائلة المالكة مع نضوج أولاد الملكة الأربعة وشروعهم في التأسيس لعائلاتهم الخاصّة، وتسببت الطلاقات والفضائح والخيانات ومؤامرات القصر بداية من مقابلة الليدي ديانا، عقيلة الأمير تشارلز، ابنها البكر مع مارتن بشير لبرنامج بانوراما في 1995 وانتهاء بحوار الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل مع أوبرا وينفري مؤخراً بالكشف عن بعض دواخل المؤسسة الملكيّة المتعارضة مع الصورة الكليّة الإيجابيّة المطروحة في الإعلام، وأضعفت إلى حد كبير توازن الاستعراض والإخفاء. ومع ذلك فإن استمراريّة الملكة إليزابيث الثانية في أداء دورها وتقديم نفسها دائماً ومجدداً كملكة أمّ وجدّة فوق الخلافات العائليّة والانقسامات السياسيّة والاستقطابات الاجتماعيّة ساعد دائماً على التخفيف من حدّة نزيف الشعبيّة، الذي كان وصل لحظة مقتل الأميرة ديانا إلى مستويات مقلقة بالفعل للنظام السياسيّ برمته، بعدما اعتبرت قطاعات شعبيّة عريضة أن الملكة تصرفت حينئذ بشكل غير لائق، وفشلت في «الاستجابة للحزن العام» وفي «تمثيل شعبها».
مثلت مرحلة ظهور أدوات التواصل الاجتماعي فرصة وتحديّاً طازجاً لصناعة الصورة الملكيّة في الأذهان بوصفها رمزاً واختصاراً لبريطانيا الجديدة ما بعد الحرب، حيث جيل أصغر سنا يميل إلى استقصاء معلوماته من تطبيقات الهاتف بدل قراءة الصحف. وقد استعادت المؤسسة زمام المبادرة سريعاً في هذا الفضاء الجماهيريّ المستجد، وأطلقت باسم العائلة المالكة حسابات رسميّة على معظم منصات التواصل الرئيسية. ولعلّ صفحة دوق ودوقة كامبريدج على إنستغرام، التي تُدار بالنيابة عن الأمير وليم وكيت ميدلتون وأطفالهما، المثال الأكثر وضوحا على أحدث التوجهات في تقديم صورة العائلة الملكية للجمهور، حيث تبدو الصور طبيعية ومرتجلة وغير رسمية، وتطرح كجزء من «ألبوم صور عائلية» في كامبريدج. ومع ذلك فإن كل شيء معدّ بدّقة، وتلتقط الصور بترتيب سينمائيّ مدروس. وبعد رحيلها، ستصمد طويلاً صورة الملكة في المخيلة الجماعية كامرأة مسنة غاية في اللطف ترتدي ملابس ملونة دافئة وتمسك بحقيبة يدها الراقية المألوفة، ورئيسة للدولة، قدّمت بثباتها ورباطة جأشها وحيادها في أغلب المراحل وعبر العديد من التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت ببلادها والعالم خلال سبعين عاماً نقطة ارتكاز مرجعيّة ومصدر استقرار للنظام السياسي البريطاني بكليته. تمضي الملكة كأيقونة ثقافية لبريطانيا والبريطانيين، لكن نجاح النّخبة الحاكمة في الماضي ليس بالضرورة ضمانة لاستمراره في القادم من الأيام. ولا شكّ أن الملك تشارلز الثالث يرث اليوم بارتقائه العرش تحديات أكثر من المكاسب. فهو أقلّ شعبيّة من والدته الملكة بما لا يُقاس، ولن يبقى في السلطة – بحكم عمره الحالي – مثلما بقيت، ومملكته الآن غيرها تماماً تلك التي استلمتها. يبدو أن النخبة ستكون في حاجة لاستدعاء مدفعيتها الأيديولوجيّة مجدداً.
www.deyaralnagab.com
|