سُحقاً لكم أيها الكذابون الأفاقون؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 01.10.2022
هناك تعبير انكليزي شهير يقول: «من السهل جداً أن تعرف متى يكذب الساسة، إنهم يكذبون عندما يتكلمون»، أي أن السياسي يبدأ بالكذب بمجرد أن يفتح فمه، وأي شيء يقوله يندرج في إطار الأكاذيب واللف والدوران والتقية السياسية، إلى حد أن الخداع والتضليل بات أحد أهم مرادفات السياسة في العصر الحديث. صحيح أن الكذب ملح السياسة منذ نشأتها، وصحيح أن المفكر البريطاني جورج أورويل قدم لنا الكثير من الأمثلة الفاقعة في كتاباته ورواياته الشهيرة، لكن أمر السياسة قد انفضح أكثر وأصبح حديث الشوارع في ظل ثورة المعلومات والإنترنت ومواقع التواصل التي باتت تراقب الساسة والسياسيين عن كثب بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ.
لا شك ان السياسيين يكذبون منذ سالف الأزمان، لكن أكاذيبهم كانت تمر على البشر ولم ينتبه لها أحد، لعدم وجود أجهزة إعلام شعبية كمواقع التواصل مثلاً، فقد تحولت تلك المواقع إلى سلطة رابعة حقيقية في أيدي مليارات البشر الذين باتوا يشكلون أكبر فاضح ومراقب لتصرفات السياسيين وألاعيب السياسة. من السهل جداً اليوم أن تراجع تصريحات السياسيين والأنظمة والحكومات ومقارنتها قبل وبعد، فكل شيء بات مسجلاً في يوتيوب وفيسبوك وتويتر وانستغرام وغوغل بالدرجة الأولى بالصوت والصورة، وما عليك مثلاً إلا أن تسأل غوغل عما قاله ذلك الزعيم قبل عشر سنوات، وما يقوله اليوم فتتضح لك الصورة تماماً، وتحصل على كل التصريحات والمواقف المتناقضة لهذا السياسي أو ذاك وبالتفصيل الممل.
طبعاً لا بأس أن عملية فضح السياسيين غدت سهلة جداً ومتاحة للجميع، وأن الشعوب باتت تمتلك برلمانات تواصلية غير مسبوقة تراقب العمل السياسي ومرتاديه وتكشفهم وتنتقدهم، لكن هذا سيجعل من الساسة والسياسيين أناساً مستقيمين فاضلين، أم إن السياسي إذا بصق أحد في وجهه سيقول لنفسه: «إن الدنيا تُمطر»؟ إن تعيير السياسيين والحكام بالكذب والانقلاب وتغيير المواقف أشبه في واقع الأمر بتعيير بنات الهوى بـ«العهر». هل ستنزعج «العاهرة» إذا قلت لها إنها عاهرة؟ بالطبع لا. وقد لخص الشاعر الكبير أحمد مطر هذا الوضع بأبيات لا تنسى، حيث قال: «اشتموا منذ حلول الليل حتى الفجر، لن يهتز كرسي، ولن ينهار باب…هذه الأوساخ، لا يندى لها بالسب وجه أبدا، فاحترموا وجه السباب…عبثاً إن البغايا ليس يخجلن إذا سميتموهن قحاب».
لهذا فإن اتهام السياسيين بالانقلاب على مبادئهم وتصريحاتهم ومواقفهم القديمة نوع من العبث، لأن الغاية تبرر الوسيلة بالنسبة للسياسة بشكل عام، فليس هناك سياسي في العالم لا يعمل بمقولة «ماكيافيلي» آنفة الذكر، فالكل يطبق كتاب «الأمير» بحذافيره منذ قرون. لهذا كل من يراهن على وعود الدول والحكومات والقادة والسياسيين إنما يغش نفسه بالدرجة الأولى، لأن الثابت الوحيد في السياسة هو المتحول، وأن المصلحة تعلو ولا يُعلى عليها، حتى لو كانت قذرة جداً. وللعلم فإن الأوروبيين والأمريكيين بارعون في سياسة المصالح التي تتجاوز أية مبادئ إنسانية.
ذات يوم رفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير شعار «السياسة الأخلاقية»، فسخر منه الكثيرون في الأوساط السياسية والإعلامية لأنهم يعرفون استحالة تطبيق ذلك الشعار الطوباوي الذي لا يمكن أن تجده إلا لدى أفلاطون في جمهوريته الفاضلة غير الموجودة على وجه الأرض. ولعلكم تذكرون أن أولى سياسات توني بلير «الأخلاقية»، كان غزو العراق مع الرئيس الأمريكي جورج بوش والآثار الكارثية التي خلفها الغزو على البلاد والعباد.
ولا ننسى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن الذي عندما وصل إلى السلطة أزبد وأرغى ضد المملكة العربية السعودية وهدد بمعاقبتها أشد العقاب بعد اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، لكن لم تمض أشهر على رئاسته حتى لحس كل تهديداته وتصريحاته ضد الرياض وقرر الذهاب بنفسه إلى السعودية لإقناعها بزيادة انتاج النفط بعد حرب أوكرانيا.
إن الذين يتفاجأون بتقلبات السياسيين والأنظمة وينزعجون منها ويشعرون بالحزن والأسى إنما هم أناس طيبون كي لا نقول ساذجين. من الخطأ الفادح أن تصدق أي سياسي لأنك بذلك تحضر نفسك لاحقاً لصدمات قد لا تقدر على تحملها. انظروا اليوم مثلاً للأنظمة والزعماء الذين ناصروا الثورة السورية ذات يوم وتوعدوا النظام السوري ورأسه بالويل والثبور وعظائم الأمور ووصفوه بأقذع الأوصاف. أين هم الآن؟ ألم يتراجعوا عن كل تصريحاتهم وتهديداتهم، لا بل باتوا يتقربون من النظام بشكل مخز وذليل للغاية؟ من كان منكم يتوقع مثل هذه الانقلابات الدراماتيكية؟ قلة قليلة جداً.
أين الذين كانوا يدعمون الثورات العربية؟ لم يبق منهم إلا النزر القليل جداً في وقت بدأ كثيرون يبيعون جماعات المعارضة التي ناهضت هذا الطاغية أو ذاك ويتخلون عنها ويتبرأون منها من أجل مراضاة الذين وصفوهم ذات يوم بالقتلة والمجرمين.
ولعل أفضل حادثة طريفة تلخص السياسة عموماً أن شخصاً عاد إلى بيته ذات يوم ليجد غريباً مع زوجته في المنزل، فأسرع إلى صندوق داخل البيت وسحب منه مسدساً وهجم على الغريب صارخاً: «لقد اشتريت هذا المسدس بألف دولار من أجل هذه الساعة»، فقال له الغريب: «هل تبيع المسدس بثلاثة آلاف دولار»، فرد الزوج، «مبروك عليك».
صب عمي صب.
www.deyaralnagab.com
|