فقدان الأغذية الطازجة في بريطانيا: بين الحرب في أوكرانيا والتشققات في قبّة العولمة!!
بقلم : ندى حطيط ... 03.03.2023
هناك تحركات سياسيّة هامّة تجري على الساحة البريطانيّة، كالتفاهم مع الاتحاد الأوروبي حول مسألة الحدود مع إيرلندا الشماليّة، والفراغ في منصب الوزير الأوّل في اسكوتلندا، وكذلك المزيد من فضائح حزب المحافظين الحاكم.
على أن ما شغل بال القطاع الأعرض من البريطانيين هذا الأسبوع كان أمراً مختلفاً بالكليّة، واضطرت صحف البلاد الكبرى والتلفزيونات إلى متابعته ضمن عناوينها الرئيسة ونشراتها العاجلة: إنّها حالة النّقص في إمدادات الخضار والفواكه إلى البلاد، ومشاهد الرّفوف الطويلة الفارغة في محلات السوبرماركت الكبرى.
ومما عمّق من أوجاع البريطانيين لفقدانهم مكونات طبق السلطة من الأسواق أن معظم دول أوروبا، وخاصة الغريمين ألمانيا وفرنسا، لا تواجه أزمات نقص إمدادات مماثلة، فيما سارع متسوقون أوروبيّون إلى نشر صور على وسائل التّواصل الاجتماعي لأرفف المتاجر الكبرى الممتلئة في بلادهم للمقارنة مع التناقض الصارخ في وضع أرفف محلات السوبر ماركت البريطانية.
وقد اضطرت كبريات سلاسل محلات السوبرماركت إلى فرض قيود على الكميّات، التي يمكن للمتسوق البريطانيّ شراءها من أصناف الأغذية الطازجة، بما في ذلك الطماطم والخيار والفلفل، بعدما أن تبيّن أن النقص قد يستمر خلال الأشهر القليلة المقبلة. وأضافت سلسلة تجارة التجزئة (أزدا) قيوداً أيضاً على ثمانية أصناف، بما في ذلك البروكلي، والقرنبيط، والتوت، والخس، فيما بدأت الأسعار عموماً بعكس النقص ارتفاعات إضافيّة قياسيّة لتزيد من الضغوط التضخميّة على الأجور التي تقف قيمتها الحقيقيّة الآن عند مستوياتها كما كانت قبل عقود.
فما الذي يحدث في بلاد الإمبراطوريّة المتقاعدة، التي كانت يوماً تحكم بالجوع على شعوب كاملة (الهند، إيرلندا…) حتى يلقى الملايين حتفهم ليأتي وقت لا يحصل فيه مواطنوها اليوم على الطماطم أو الخيار؟
الحرب ليست جيّدة لأحد
حسب اتحاد المزارعين وتصريحات كبار التجار، فإن المملكة المتحدة تواجه أزمة إمدادات في ما يرتبط بالخضروات والفواكه الطازجة نتيجة سوء الأحوال الجويّة في أوروبا وشمال إفريقيا، ما قلل من حجم المحاصيل ومعها الصادرات، تزامناً مع انخفاض حاد في الإمدادات المحليّة للمنتجين في المملكة المتحدة (وهولندا المجاورة التي تعدّ واحداً من أكبر المنتجين الأوروبيين للخضروات) الذين تضرروا من القفزات البهلوانيّة في أسعار فواتير الطاقة اللازمة لتدفئة البيوت الزّجاجية، وكذلك ارتفاع تكلفة الأسمدة المستخدمة في الزراعة بسبب الحرب الاقتصاديّة التي شنّها الغرب على روسيا إثر نشوب النّزاع الأوكرانيّ العام الماضي.
وقد انخفض «الإنتاج المحلي من مكونات السلطة، بما في ذلك الخيار والطماطم، إلى أدنى مستوى له منذ بدء جمع البيانات في العام 1985» وفق التصريحات الرسميّة.
وللتعويض عن تراجع الانتاج في غربي أوروبا، وجدت متاجر التجزئة أنّها مجبرة على الاعتماد بشكل أكبر هذا العام على المصادر من إسبانيا وشمال والمغرب وتونس ومصر، مما جعلها أكثر عرضة لتقلبات الطقس إذ تأثرت هذه المحاصيل بالطقس البارد بشكل استثنائيّ خلال الشهر الماضي، بما في ذلك الصقيع الليلي الشديد، في حين تضررت نباتات الطماطم فوق ذلك بفيروس قضى على جزء كبير من الانتاج.
وهكذا فإن اختفاء طبق السلطة من موائد البريطانيين هو أحدث الانعكاسات التي أفرزتها الحرب الأوكرانيّة، والتي ما لبثت يتراكم ثقلها حتى بدأت تظهر كما تشققات في قبّة العولمة.
العالم لم يعد سوقاً واحدة تجمعنا
لفترة طويلة، لا سيما وبعد سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقيّة، والانفتاح الغربيّ على الصين، أصبح الاقتصاد العالمي مترابطاً وبشكل متزايد لفترة طويلة استمرت لعقود، وبدا لأغلب المراقبين أنّ ما يعرف بـ»لعولمة» طريق باتجاه واحد سيأخذ دول الكوكب جميعها تحت قبّة سوق كبرى عابرة للجغرافيا والسيادات المحليّة في انتصار حاسم لليبراليّة الغربيّة ونهاية مثاليّة للتاريخ. أعيد ترتيب أوراق العالم وتقسيم العمل الدّولي، بناء على تلك «العولمة». فلم يعد ضروريّاً لدول الغرب مثلاً الاحتفاظ بالصناعة التي تحتاج إلى أيد عاملة رخيصة، أو بالزراعة المكلفة، عندما يمكنها الحصول على البضائع والمحاصيل بتكلفة أقلّ من دول الجنوب.
وبريطانيا تحديداً كانت من أوائل الدول التي تصرفت باقتصادها وفق متطلبات العولمة الناشئة، فشطبت الجزء الأهم من صناعاتها الثقيلة، وزراعتها الكثيفة لمصلحة الاعتماد على اقتصاد المال والاستثمار والخدمات.
تسارعت عمليّة العولمة مع تحسّن مضطرد في تنظيم عمليات التجارة الدّولية، وانعدام شبه تام للقيود على انتقال رؤوس الأموال، وتقدّم مبهر لتطبيقات التكنولوجيا، وتطوّر شامل في عمليات الملاحة البحريّة والجويّة والنقل البريّ، كما هيمنة الدولار الأمريكيّ كعملة للتبادل الدّولي، وغلبة الثقافة الغربيّة الاستهلاكية على عقول قطاعات عريضة من الجماهير في معظم أرجاء المعمورة. لقد أصبحت واشنطن بمثابة نسخة القرن الحادي والعشرين من روما الإمبراطوريّة. ثمّ كانت حرب أوكرانيا.
حرب تهدد إنجازات عقود من العولمة
منذ انطلقت العمليّة العسكريّة الروسيّة في أوكرانيا (فبراير/شباط 2022) كان جليّاً أنّ المواجهة أبعد بكثير من حدود اقليم الدونباس المتنازع عليه، إذ سرعان ما تورط الغرب كلّه تحت رايات حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في حرب اقتصاديّة شاملة ضد روسيا، ففُرضت كميّة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر من العقوبات عليها، وقطعت أواصل التبادل التجاريّ معها، حتى في مجال النفط والغاز الحيويين لديمومة الحياة وعجلة الانتاج في القارة الأوروبيّة. وأوقفت سبل تدفق الأموال وصودرت أصولها في الغرب، فيما سارعت شركات معولمة كبرى إلى الانسحاب من السوق الروسيّة، بما في ذلك مصدرو المواد الثقافية من أفلام سينمائيّة وكتب وبرامج تدريبيّة وأنشطة فكريّة أو أكاديميّة. هذا في وقت تقاطر الدعم الماليّ والعسكريّ والإعلاميّ على أوكرانيا، مما مكن الأخيرة من تعظيم قدرتها على القتال والصمود، هو إطالة زمن الحرب.
وقد أدى ذلك بالطبع إلى اكتمال عمليّة إعادة توجيه الاقتصاد الروسي بعيداً عن الغرب، ونشوء محور تجاري عالمي حول روسيا والصين مع تجنب كثير من الدول المهمة في الجنوب اتخاذ مواقف معادية لروسيا، كما يرغب الغرب، وبدأنا نشهد محاولات لإزاحة الدولار الأمريكي عن عرشه كوسيلة تبادل عالميّ وانشاء نظام مواز للتحويلات الماليّة بعيداً عن نظام «سويفت» الأمريكي المالي.
ومع أنّ هذه التحولات ما زالت في بداياتها، وليست كافية حتى الآن لتقويض (قبّة) العولمة بالكامل، بالنظر إلى صغر حجم الاقتصاد الروسيّ من مجمل التجارة العالميّة، فإنّها مع ذلك أطلقت تشققات ظاهرة في جدار تلك القبّة، لا سيّما في أوروبا، حيث ضغوط تضخميّة هائلة تهدد بالمس برفاه الأغلبيّة – ومن ذلك فقدان مكونات طبق السّلطة في بريطانيا – ودفعت بالصين – أكبر اقتصاد عالمي – إلى الاقتراب أكثر من روسيا بسبب العداوة الغربيّة المتعالية تجاهها.
أين العقلاء: هذا العالم بحاجة للسلام
ليست العولمة بالأمر الايجابي المحض، ولا شكّ أن فيها جوانب من غياب العدالة في التبادلات، ومع ذلك فإن مرحلة السلام النسبي بين القوى الكبرى التي عاشها العالم منذ نهاية الثمانينيات كان لها أثر كبير في توسع التجارة الدوليّة على نحو تسنى معه لكثير من الشعوب في دول الجنوب كالصين والهند وإندونيسيا والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا بناء نهضة اقتصاديّة وصلت منافعها إلى بلايين البشر بشكل أو آخر.
لكن منذ نشوب الحرب الأوكرانيّة، وباستثناء تجار السلاح وشركات النفط والغاز، فإنّ الجميع انتهى في خانة الخاسرين: ليست روسيا أو أوكرانيا وحدهما، بل ومعهما الغرب، ودول الجنوب، وكثيرون منا كأفراد بمن فيهم البريطانيّون العاديّون، الذين أصبح طبق السلطة على موائدهم عزيزاً ودلالة جاه.
فأين عقلاء العالم من وقف هذه المأساة المتدحرجة، قبل أن تتحوّل إلى كارثة شاملة لا تطيح بقبة العولمة وحدها، بل وفي مجمل الكوكب. إن البشريّة برمتها بحاجة ماسة للسلام في (الدونباس) اليوم، وقبل أن يسير النزاع هناك نحو مستويات أكثر تعقيداً وأوسع رقعة جغرافيّة، قد تكلفنا جميعاً ما هو أكثر من انقطاع الخضار والفواكه. يا عقلاء العالم، اتحدوا.
٭ إعلاميّة وكاتبة لبنانية
www.deyaralnagab.com
|