في الهجرة: للعصافير حظوظ أوفر من البشر وآينشتاين يولد من جديد في الجزائر!
بقلم : مريم مشتاوي ... 20.07.2023
الهجرة هي الرحيل من مكان إلى آخر، بحثاً عن الأمان والاستقرار والحياة. هكذا تهاجر الطيور إلى بلاد دافئة، هاربة من برد الشتاء القارس وباحثة عن طعام. ولكن البلاد الدافئة قد تصبح خطراً على حياة الطيور في ظل موجات الحر المتدفقة، خصوصاً بعد تغيّر قاس في المناخ حول العالم.
لقد انتشر مؤخراً فيديو مؤثر لعصفور أتعبته أشعة الشمس الحادة، فحطّ على حديد شرفة أحد البيوت، وكأنه ينادي أهل البيت لإغاثته، فلم يعد يقوى على التحليق أو الحراك، أو حتى الارتعاش، ولكنه كان يفتح عينيه بين إغماءه وأخرى، وكأنه كان ينتظر أحدا.
رآه أحد سكان البيت، ثم هرع مسرعاً إلى داخل البيت، ليعود بإبريق من الماء. بدأ يقطر حبات من الماء في فم العصفور المنمنم. كان العصفور يرفع رأسه عالياً، وهو يشرب الماء بشغف، ثم يدير عينيه نحو منقذه وكأنه يشكره. لم يتأخر المنقذ أيضاً بدلق القليل من المياه فوق العصفور الصغير لإنعاشه. وينتظر ليتأكد أنه أفلح في مهمته.
انتشر الفيديو بشكل كبير بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، لما يحمله من إنسانية فطرية، وإشفاق عال ومحبة. كانت لحظات مؤثرة تغلّبت فيها الحياة على الموت. انتعش العصفور الصغير، وسرعان ما استعاد عافيته، ثم طار إلى فضائه الفسيح.
إن هجرة العصفور ولجوءه إلى شرفة آمنة، حيث تمكن من استعادة قوته والتحليق من جديد، ذكرتني بآلاف المهاجرين المتعبين، المستنزفين والمضطهدين، الضائعين في أصقاع الأرض، بعيداً عن أرضهم وديارهم وأحبابهم، هؤلاء المنسيون الذين لم يحالفهم ربع حظ العصفور. عشرات من أفارقة جنوب الصحراء المهاجرين ما زالوا عالقين في الصحراء بين تونس وليبيا، بعد رميهم على الحدود الليبية، تحت حرارة الشمس التي تخطت الأربعين درجة، وترتفع في بعض الأيام إلى نصف درجة الاحتراق.
يقول موسى خالد، وهو مهاجر من الكونغو: «عندما حاولنا دخول تونس في محاولة أخرى ضربونا (في إشارة إلى السلطات التونسية) ضرباً متواصلا مبرحاً. لقد كسروا يدي وأصابوا رأسي.»
هذا التعامل الوحشي غير المبرر، أكده أيضاً أيمن القادري، وهو قائد دوريات حرس الحدود الصحراوية، في تقرير مصور، أعدته صفحة «أنا العربي» الإخبارية: «هناك أناس تضرروا نتيجة القسوة أو الضرب الذي تعرضوا له من قبل الجيش التونسي الحدودي، وهذا حسب تصريحات المهاجرين عند استجوابهم على الحدود الليبية – التونسية». ونشرت وكالة الصحافة الفرنسية عن محمد أبو سنينة، وهو من حرس الحدود الليبي أن عدد المهاجرين في تزايد مستمر مع مرور كل يوم جديد.
هذا التعامل الفض، المخجل، يتعرض له أيضاً مئات من اللاجئين السوريين والفلسطينيين في مخيمات تشويها الشمس، وتلهو بها العواصف الرملية.
وكانت منظمة «سبوت لايت» الإنسانية قد نشرت أخيراً تقريراً مصوراً للاجئين في المخيمات، لم يأكلوا اللحم منذ أكثر من سنة، بسبب ارتفاع أسعاره، ورأينا صوراً لأطفال يمشون مسافات طويلة في لهيب الحرّ، حاملين غالونات فارغة ليملأُنها بالمياه، ثم يعودون إلى خيمهم وهم على وشك السقوط من الإعياء لثقلها، ولسع الرياح الصحراوية لجلودهم الرقيقة، المتيبسة أصلاً. لك حب الحياة يضخ في أجسادهم الصغيرة قوة غير مرئية تدفعهم لمسافات بحثاً عن مصدر ماء بعيد، حتى يطفئوا عطشهم، وعطش أهاليهم.
للأسف، إنهم ليسوا محظوظين، مثل ذلك العصفور الصغير المهاجر، الذي حط على يد حنون. هؤلاء اللاجئون تركوا بلدانهم وبيوتهم، التي دمرتها الحرب ليحطوا في بلاد ترفضهم، لتبدأ رحلة جديدة من الموت والعذاب والذل.
في لبنان على سبيل المثال ارتفعت الأصوات مراراً وتكراراً، مطالبة بعودة النازحين إلى بلادهم، لأن «اندماجهم يشكل خطرا كبيراً على الشعب اللبناني»، كما يدعون. متناسين أن هذا الشعب هاجر معظم سكانه عبر السنوات إلى بلاد أخرى، بحثاً عن حياة أفضل، ولم تتأخر تلك البلاد بدمجهم وإيوائهم، وتوفير فرص العمل والطبابة والتعليم لهم ولأبنائهم.
يبدو أن كرتنا الأرضية لم تعد صالحة للسكن، بسبب وحشيتنا التي تزداد ضراوة يوماً بعد يوم. وقد يكون تغير المناخ محاولة من الأرض للفظنا بعيداً واستبدالنا بسكان أكثر رحمة وإنسانية ومحبة.
ومن أخبار محزنة إلى قليل من الفرح. إنها قصة طفل جزائري صغير يدعى سعد سعدودي. وهو اسم على مسمى.. لقد جلب السعد والفخر لأهله ولأبناء وطنه. لُقّب بآينشتاين الصغير، لقدرته على حل العمليات الحسابية المعقدة والطويلة في ثوان معدودة. حلم سعد أن يعمل في شركة نفط عالمية.
يقول «من سنتي الأولى وقبلها بأشهر كنت أعرف الجمع والطرح. وحاب نكون نخدم في شركة متع بترول ولا الغاز.»
لقد تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي أخباره وحظي بإعجاب الآلاف من جزائريين وعرب. ففرحة الآخرين فرحتنا حين تثقلنا الأحزان. قد يكون أي خبر مفرح، ولو في آخر بقعة في الكوكب محط اهتمامنا لنلتهي به عن آلامنا المتراكمة والمتنوعة من هجرة وفقر وحروب وموت وتشرد. لقد أضاء سعد شمعة، ولو ضئيلة في نفقنا المظلم. فلنتمسك بالأمل قد يكون الجيل القادم أكثر قدرة على فعل الخير وترميم خرابنا!
*كاتبة لبنانيّة..المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|