logo
كيف بنى الأمريكيون نظاما طائفيا في العراق؟!
بقلم : يحيى الكبيسي ... 21.06.2024

تشكل إعادة قراءة وثائق المعارضة العراقية، فضلا عن التقارير والمذكرات التي تحدث عن احتلال العراق، والمرحلة التي تلت ذلك، أهمية كبيرة في فهم لماذا انتهينا (بعد 21 عاما من لحظة الاحتلال) إلى دولة فاشلة، والأهم إلى دولة طائفية بامتياز؛ سواء على مستوى النظام السياسي، أو على مستوى بناء الدولة، أو على مستوى التحيزات الطائفية المعلنة للقابضين على الدولة!
لا يمكن لعاقل أن يتوهم أن بناء نظام حكم على أساس جماعاتي/مكوناتي/ هوياتي كان اختراعا أمريكيا، أو أنه كان نزوة شخصية لرئيس سلطة الائتلاف المؤقتة بول بريمر. بل كان ذلك من البداية مشروعا تبنته المعارضة الشيعية والكردية بشكل صريح بداية التسعينيات على الأقل. ولا يمكن هنا إغفال نصوص رئيسية جاءت في هذا السياق، لعل أهمها «إعلان شيعة العراق» الذي نشر عام 2002حيث شكل المانفيستو الأخير في سياق إدارة الحكم على أساس هوياتي!
إن مراجعة خطاب مؤتمرات المعارض العراقية، بداية من مؤتمر بيروت في 1991، مرورا بمؤتمري فيينا في 1992، وصلاح الدين 1992، وصولا إلى مؤتمر نيويورك في 1999، ولندن 2002، ثم مؤتمر صلاح الدين 2003، ومراجعة الجهات التي شاركت في الاجتماعات الأولى والجهات التي هيمنت على تمثيل المعارضة العراقية في المؤتمرات الثلاثة الأخيرة (نيويورك ولندن وصلاح الدين) تكشف بوضوح أن الخيار الهوياتي هو الذي فرض نفسه في النهاية.
فالبيان الختامي لمؤتمر لندن أكد على «وضع دستور دائم للبلاد يراعى فيه تركيبة الشعب العراقي»! وعلى ضرورة «إشراك جميع مكونات الشعب العراقي من العرب والكرد والتركمان والآشوريين والكلدان وغيرهم، ومن المسلمين الشيعة والسنة والمسيحيين والإيزيديين… في صناعة القرار السياسي» أي التعامل مع الجماعات/ الهويات الدينية والقومية والمذهبية بوصفها «جماعات/ هويات سياسية» وهو المقدمة الأساسية لتطييف الدولة، والتعبئة الهوياتية للجمهور!
كما تكشف مراجعة أسماء «لجنة المتابعة والتنسيق» التي أقرها المؤتمر، والمكونة من 65 شخصية، عن توزيع جماعاتي/ هوياتي صريح، يستند إلى تصورات المجتمعين للأوزان الديمغرافية للمجتمع العراقي؛ لأجل هذا أصر السياسيون الشيعة على أن تكون لهم الحصة الكبرى في اللجنة!
وتكرر الأمر نفسه في مؤتمر صلاح الدّين الثاني الذي عقد 2003؛ حيث تحدث البيان الختامي لاجتماع لجنة التنسيق والمتابعة، عن انتخاب مجلس قيادي للمعارضة العراقية على أساس هوياتي ضم كلا من: أياد علاوي وأحمد الجلبي وعبد العزيز الحكيم (شيعة) و مسعود البارزاني وجلال الطالباني (كرد) وعدنان الباججي (سني)!
**لم يكن بإمكان الأحزاب التي شكلت نواة المعارضة العراقية، سوى أن تكون ممثلة لجماعات وهويات، فجميعها تأسست على فكرة أن العراق يتكون من جماعات عرقية ودينية ومذهبية
يقول بول بريمر في مذكراته أنه اجتمع مع المجلس القيادي للمعارضة العراقية، وأطلق عليهم تسمية «مجموعة السبعة» يوم 16 أيار في بغداد (بعد إضافة إبراهيم الجعفري ممثلا لحزب الدعوة إلى المجلس القيادي، واستبدال عدنان الباججي بنصير الجادرجي) أي قبل اعلان قرار مجلس الامن الدولي رقم 1483 في 22 أيار 2002، وأن الفاعلين السياسيين الشيعة والكرد أظهروا إصرارهم على تشكيل «حكومة عراقية انتقالية» ونقل السلطات اليها، أو بالأحرى إليهم! لكنه، أي بريمر، شرح لهم أن التقدم في مسار حكومة تمثيلية سيكون تراكميا، وهو ما يعني عمليا أنه لا تسليم قريب للسلطة، مؤكدا أن هذا المجلس السباعي لا يشكل تمثيلا حقيقيا للمجتمع العراقي!
لم يكن بإمكان الأحزاب او التجمعات السياسية التي شكلت نواة المعارضة العراقية، سوى أن تكون ممثلة لجماعات وهويات، فجميعها تأسست على فكرة أن العراق يتكون من جماعات عرقية ودينية ومذهبية، وعمدت إلى تحويل هذه الجماعات/ الهويات إلى هويات سياسية؛ فالحزبان الكرديان يتبنيان، بشكل صريح، هوية قومية، فيما يتبنى المجلس الأعلى وحزب الدعوة هوية مذهبية (كان لحزب الدعوة دور مركزي في صياغة «هوية شيعية» ذات بعد سياسي). وبرغم من أن كلاّ من حركة الوفاق (أياد علاوي) والمؤتمر الوطني العراقي (أحمد الجلبي) تشكلا في بدايتهما دون هوية طائفية/ مذهبية صريحة، لكن الحركتين انتهيتا إلى أن تكونا كذلك حين قبلتا أن تكونا عضوين في مجلس الحكم بوصفهما كيانين شيعيين، وتأكد ذلك بعد إعلان أحمد الجلبي تأسيس «البيت الشيعي». ومراجعة أسماء أعضاء هاتين الجماعتين قبل وبعد 2003، تكشف بوضوح عن البعد الهوياتي الذي حكمهما فيما بعد!
وكانت الخطيئة الأكبر للولايات المتحدة الامريكية، بعد خطيئة الاحتلال، هي فشلها في ضمان عدم عودة العراق مرة أخرى إلى حكم ذي طبيعة طائفية أولا، وفشلها في منع العودة إلى الاستبداد مرة أخرى، ليس عبر ديكتاتورية الفرد، بل الديكتاتورية باسم الأكثرية!
كرر بريمر في مذكراته في موضوعين مختلفين أنه كان يرى أن العراق كان في حاجة إلى تطوير مؤسسات سياسية متينة، وضمانات للحقوق الأساسية للأفراد، وحقوق الأقليات، وتثبيت حكم القانون، والزواجر والضوابط في للحماية من الانزلاق إلى الاستبداد ثانية. وبالفعل سعى قانون إدارة الدولة/ الدستور المؤقت، إلى محاولة ضمان ذلك، ولو بالحد الأدنى، لكن التوقيتات الأمريكية المرتبطة بالأوضاع داخل الولايات المتحدة نفسها، والرغبة في التخفيف من العبء الذي بات يشكله العراق، وتأثيره على الرأي العام الأمريكي، أطاح بذلك كله!
فالشيعة الطائفيون في مجلس الحكم (كما كان يسميهم بريمر) عمدوا إلى استخدام فتوى السيد علي السيستاني التي صدرت يوم 25 حزيران 2003 والمتعلقة بإجراء انتخابات عامة لمجلس دستوري من أجل كتابة الدستور، وذلك لغرض ابتزاز الأمريكيين الخاضعين لضغط تلك التوقيتات، سواء الضغوطات المتعلقة بتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية والمقرر في نهاية حزيران 2004، أو توقيت انتخاب الجمعية الوطنية الذي كان يجب أن لا يتجاوز 31 كانون الثاني 2005، أو توقيت اكمال كتابة الدستور في منتصف شهر آب. وبالفعل شُكلت انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت في كانون الأول 2005. لكن القوى السنية الرئيسية قاطعت هذه الانتخابات، فكان ذلك بمثابة الانتكاسة الأكبر للمشروع الأمريكي في بناء ديمقراطية حقيقة في العراق؛ فعلاقات القوى المختلة التي نتجت عن هذه الانتخابات، هي التي حكمت مسألة كتابة الدستور، الأمر الذي أطاح بكل الضمانات التي حاول قانون إدارة الدولة توفيرها بالحد الأدنى لمنع العودة إلى الاستبداد ثانية!
ينقل السفير الأمريكي الذي عمل في العراق بين تموز 2005 وكانون الأول 2007 أنه التقى في بغداد زعيما شيعيا أواخر 2006، وأنه تحدث معه عن أهمية التعددية، فأجابه ذلك الزعيم: «أوافق على كل ما تقوله عن المصالحة والتعددية، لكنني أنظر إلى ذلك بشكل مختلف، لقد سيطر علينا العرب السنة لمئات السنين، ونحن نريد أن نهيمن عليهم لبضع مئات من السنين، وبعد ذلك سنطبق التعددية»!

*المصدر : القدس العربي

www.deyaralnagab.com