logo
أيام لن أنساها في سوريا!!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 18.01.2025

صحيح أنني لست من هواة السفر ومن عادتي أن أشعر بالتوتر قبل أي سفرة، إلا أن السفر إلى سوريا بعد أربعة عشر عاماً من الغياب القسري كان ربما الأصعب في حياتي، فقد انتابتني على مدى أيام كل أنواع المشاعر، الجميل منها والسيئ. لقد تذكرت أنني محكوم بالإعدام، وقد صدر بحقي من النظام الساقط عشرات الأحكام وكلها كانت تنتهي بحكم الإعدام، وقد شاهدت الأحكام بأم عيني بعد أن حصلت على الملف الأمني الخاص بي من فرع الأمن العسكري بالسويداء بمساعدة الأخ داني الأشقر مشكوراً. وعندما ترى الملف ستشعر برعب شديد فهو مكتظ بالتقارير الأمنية والعقوبات المرعبة، فعلى ما يبدو أن برنامجي ومنشوراتي كانت تصيب العصابة الساقطة في مقتل وتسبب لها كل أنواع الجنون، فكل حلقة كانت بالنسبة لهم بمثابة «خازوق مبشم» من حمد الله، خاصة وأنني كنت أستهدف دائماً رأس النظام شخصياً وبقية أعوانه القذرين من كبار ضباط الأمن والمخابرات بطريقتي الخاصة. ولأنني كنت أعرف مدى غضبهم وحنقهم مني فقد كنت وللأمانة أتعرض لكوابيس في بعض الليالي بأنني ذهبت إلى سوريا خلسة وأنهم ألقوا القبض علي لكنني تمكنت من الهرب، وكم كنت أشعر بالفرج عندما أستيقظ من النوم لأكتشف أنه كان مجرد كابوس فقط. لقد تذكرت كل تلك الكوابيس وأنا أفكر بالذهاب إلى سوريا بعد سقوط النظام، وكنت أتشجع للذهاب أحياناً وأتردد في كثير من الأحيان، خاصة وأن لدى النظام وشبيحته معي مئات الثارات. لكنني تشجعت أخيراً بعد أن بدأت الخطوط القطرية تسير رحلاتها من الدوحة إلى دمشق، ففتحت خزنة الجوازات والوثائق المهمة في البيت ورحت أبحث عن جوازات السفر السورية الخاصة بي وبالعائلة، خاصة وأنها كانت مدفونة في الخزنة منذ أربعة عشر عاماً، فأخرجتها من الخزنة مع هويتي السورية، وشعرت لأول مرة في حياتي أن تلك الهوية وذلك الجواز هما أغلى من كل الجوازات الأخرى في العالم، فوضعت جوازات العائلة في حقيبة خاصة وكأنها أثمن من كل المجوهرات والساعات الفاخرة، وقد أصبح لجواز سفري السوري الآن أهمية لا توصف بعد التحرير، فقد شعرت للمرة الأولى بأن لي وطناً حقيقياً وليس مزرعة كانت تمتلكها العصابة الساقطة. وقد كانت ابنتي صبا من أكثر المتحمسين في العائلة لزيارة سوريا، وكانت في غاية الفرحة، ومن حمد الله وصلت بصحبة زوجتي أم أصيل وصبا وأخي محجوب إلى مطار دمشق بعد أن كنت على مدى ساعات الرحلة محط اهتمام كل المسافرين من سوريين وغيرهم، فقد كانت سعادتهم بذهابي إلى سوريا مثل سعادتي وأكثر. وفي مطار دمشق كان المستقبلون أمام قاعة الشرف الأولى، وعندها تبددت الكوابيس التي كانت تلاحقني على مدى سنوات، فدخلت القاعة الدمشقية وسط بريق فلاشات التصوير، فسألني المستقبلون: ما هو شعورك الآن، فقلت: «إنني أشعر بسعادة غامرة أن أكون الآن في قاعة الشرف، بينما هرب عديم الشرف خارج سوريا».
ورغم فرحتي الغامرة وأنا في طريقي إلى الفندق، شعرت بالأسى لأن دمشق بدت شاحبة حزينة في مبانيها وطرقاتها ومحياها، لكن الاستقبال الحافل في الفندق واندفاع الجميع للترحيب بي وبعائلتي والتقاط مئات الصور معي أنساني منظر العاصمة الحزين. للأمانة لم أتوقع مطلقاً أن الأخوة في سوريا كانوا يتابعون كل برامجي ومنشوراتي على مواقع التواصل بهذا الشغف العجيب، فكانوا يذكرونني بما قلت في هذه الحلقة أو تلك أو بهذا المنشور أو ذاك رغم أنه قديم جداً. وبعد ساعات وجدت نفسي في قصر الشعب على جبل قاسيون لأول مرة في حياتي، ويا له من قصر لم أر مثيلاً له طوال عمري، ولا يمكن أن تتنقل في جنباته من دون سيارة، دخلت القصر دون وجل أو خوف، وقبل أن ألتقي بالسيد القائد أحمد الشرع في جلسة خاصة، دعاني للانضمام إلى اجتماع خاص مع كبار رجال الأعمال والاقتصاديين، فسمعت كلاماً مفرحاً جداً، ثم تناولنا الغداء في القصر، وأنا أنظر من النافذة إلى جبل قاسيون الذي حُرمت من رؤيته لأربعة عشر عاماً، وبعدها كان لي لقاء خاص مغلق لساعات مع السيد القائد أحمد الشرع الذي وللأمانة كان يتحدث بثقة وهدوء شديدين في شتى المجالات بمعرفة مذهلة ثم انضم إلينا وزير الخارجية السيد أسعد الشيباني الشاب الذي أخبرته فور رؤيته بأنه صنع لنفسه بصمة دبلوماسية جميلة خلال فترة قياسية.
**أصبح لجواز سفري السوري الآن أهمية لا توصف بعد التحرير، فقد شعرت للمرة الأولى بأن لي وطناً حقيقياً وليس مزرعة كانت تمتلكها العصابة الساقطة
ثم توجهت بعد ذلك لتقديم واجب العزاء بصديقي الشيخ الجليل الفاضل سارية الرفاعي في مسجد الرفاعي بكفر سوسة بدمشق فاستقبلتني الحشود بوافر المحبة والشوق، وفي داخل المسجد رأيت سوريا الحقيقية بعد سقوط الكابوس الذي كان يجثم على صدرها منذ أكثر من نصف قرن، رأيت كل مكونات الشعب السوري تشارك في تقديم العزاء بإخاء ومشاعر جياشة وكأنها كالبنيان المرصوص، فسلمت على شيوخ الشام الكرام وعلى المطارنة وعلى شيوخ الموحدين الدروز الذين جاءوا من سوريا ولبنان للمشاركة في العزاء، وفي اليوم التالي، قررنا أن نذهب لتناول الغداء في مطاعم دمشق القديمة، لكن يا فرحة ما تمت، فعندما وقفت السيارة خلف سوق الحميدية فتحت النافذة، فإذ بالمئات من المارة وقد حاصروا السيارة لالتقاط الصور، وتحول المشهد إلى تظاهرة من أجمل التظاهرات، لكنني لم أستطع الوصول إلى المطعم واضطررت للبقاء داخل السيارة حتى جاءتنا الفزعة من الحراسة للتمكن من الخروج من المنطقة. لقد كان بودي أن أنزل من السيارة لمعانقة الجميع لولا أن المرافقة طلبوا مني أن لا أنزل خوفاً من الاختناق وسط الحشود، وفي اليوم التالي تكرر مشهد مشابه على سفح جبل قاسيون، لكن الأخوة في المرافقة نظموا الأمر هذه المرة ببراعة مشكورين عليها، ثم قررت مرة أخرى أن أتبارك بزيارة المسجد الأموي، وهناك قابلت حشداً كبيراً من الزوار تشرفت بالتقاط الصور مع المئات منهم.
وعندما بدأت أستعد لزيارة السويداء مسقط رأسي عادت كل أنواع المشاعر والهواجس لتلاحقني فلم أنم سوى سويعات بانتظار اليوم المشهود، فما الحب إلا للحبيب الأول، وبقيت صامداً عاطفياً وأنا في طريقي إلى السويداء حتى وصلت إلى منتصف الطريق، وإذ بحشد من المستقبلين مدنيين وعسكريين وقد بدأوا يطلقون وابلاً من الرصاص في الهواء ثم انهمروا على السيارة فخرجت لأعانقهم فرداً فرداً خاصة وأن معظمهم كانوا من أهلي وأقاربي الأعزاء، وقلت في نفسي الحمد لله ها قد أنجزت قسماً من لقاء السويداء، لكن ما أن وصلت السيارة إلى قرى المحافظة حتى شاهدت الناس تتجمهر على قارعتي الطريق وبعضهم كان يطلق الرصاص في الهواء والبعض الآخر كان ينثر الرز على سيارات الموكب، وكانت دقات قلبي في تلك اللحظات تتجاوز المائة وخمسين دقة في الدقيقة، بينما كنت أحاول أن أقمع دموعي لكن دون جدوى، وكذلك زوجتي، وكانت الفرحة الأكبر عند ساحة العنقود في السويداء حيث تجمهر الآلاف في مشهد جعلني غير قادر على الكلام، فقلت لزوجتي: يا إلهي ماذا فعلت ليأتي كل هؤلاء الطيبين لاستقبالي، والله لم أفعل شيئاً سوى أنني كنت أتكلم وأكتب ولا أستحق كل هذا الاستقبال، قلت ذلك وأنا أغالب دموعي، وبسبب الحشود والسيارات استغرق الوصول من ساحة العنقود إلى ساحة الكرامة في السويداء حيث الاحتفال الرئيسي حوالي ساعة مع أنه لا يستغرق عادة بضع دقائق، وعندما شاهدت الحشود في ساحة الكرامة، لم أصدق عقلي، وشعرت برهبة غير مسبوقة، وقلت في نفسي، يا جماعة الخير والله لا أستحق كل هذا الاستقبال فأنا مجرد إعلامي لا أكثر ولا أقل، ثم وجدت نفسي فوق أكتاف أبطال جبل العزة والكرامة ليطوفوا بي وسط الحشود التي اكتظت الساحة بالآلاف منهم، وبصعوبة وصلت إلى المنصة لأقابل أهلي الذين أمطروني بوابل من المحبة والأهازيج والزغاريد والأشعار والأغاني وتذكرت في تلك اللحظات أن هذه الساحة التي تستقبلني اليوم هي نفس الساحة التي كنت أتردد عليها في طفولتي وأنتظر أحداً من أصحاب ورش العمل كي يشغلني معه في حمل البلوك والرمل والباطون والإسمنت والحديد وتنظيف الطرقات. يا لها من مشاعر، يا الله ما أكرمك يا الله. بالأمس كنت محكوماً بالإعدام والآن محمول على الأكتاف.
ولا يمكن أن تزور السويداء دون زيارة دارة العزة والكرامة دارة الشيخ حكمت الهجري الزعيم الروحي للموحدين بقرية قنوات، حيث تشرفت بزيارة تلك الدارة التاريخية المجيدة، ثم كان لا بد أن أتوقف لالتقاط بعض الصور أمام بيتي في القرية نفسها البيت الذي صادره بشار وأعطاه للجيش كمقر عسكري، وبعدها كان لا بد أن أهنئ أخي وصديقي الشيخ سليمان عبد الباقي بالسلامة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال غادرة، فزرته في بيته العامر بالعز والكرم، ثم همس أخي بأذني قائلاً: لا تنس أن أهل الثعلة ينتظرونك منذ الصباح في موقف القرية، فتوجهنا إلى هناك بمشاعر لا مثيل لها، فالقرية التي ولدت فيها لا يوازيها شيء، فاستقبلني أهالي القرية الكرام محمولاً على الأكتاف مرة أخرى وطافوا بي بين أهل القرية شيوخاً ونساء وشباباً وأطفالاً، وأنا غير مصدق أن الطفل الذي عاش حياة بؤس وذل وفقر مدقع في تلك القرية يعود إليها اليوم محمولاً على أكتاف شبابها. يا الله ما أكرمك. ولا يمكن أن أغادر القرية قبل أن أزور بيتنا القديم لأعانق حجارته السوداء كعناق الحبيب لحبيبته للتوجه بعدها لتناول المناسف في دارة دكتورنا الغالي ابن العم هاني القاسم بصحبة الأهل والأصدقاء. يا له من يوم لن يتكرر في السويداء، فألف شكر وألف تحية لأهلنا الكرام أهل العزة والكرامة والنخوة والشهامة، وأدعو إلى الله أن يقدرني على الوفاء.


www.deyaralnagab.com