الجامع الأموي وهندسة الفضاء الرمزي!!
بقلم : سمر يزبك ... 22.04.2025
في خطوةٍ مثقلة بالرموز، أعلنت إدارة الجامع الأموي قراراً يقضي بالفصل التام بين النساء والرجال. ورغم أن هذا الإجراء قد يبدو امتداداً لتقاليدَ مألوفةٍ في الثقافة الإسلامية، فإن دلالاته تتجاوز بكثير حدود التنظيم العبادي. نحن أمام لحظة يعاد فيها إنتاج المعنى، لا عبر النصوص فحسب، بل عبر خرائط التجمّع الإنساني وتموضعاته داخل الفضاء العام. إنّه قرار يُعيد توزيع الحضور والغياب، ويكشف أن الفضاء لا يُنظَّم فقط، بل من الممكن أن يُشكَّل مسرحاً للسلطة، فيُعاد إنتاج المعايير والتراتبيات وتوزيعات المشروعية.
لم يعد الجامع الأموي يُقارَب بوصفه مكاناً للعبادة فحسب، بل رمزاً تُعاد هندسته لصياغة ملامح السيادة المقبلة. في هذا السياق، لا يدور الصراع بين الدين والعلمانية، بل بين قوى تتنازع الحقّ في تعريف "ما هو لائق"، وفي ترسيم حدود الجسد والمعنى. قرار الفصل لا يُنظّم الفضاء، بل يُعيد إنتاجه، يُرسّم المركز ويُعيد صياغة الهامش. فالفضاء العام هنا ليس حيّزاً محايداً كما يجب أن يكون، بل هو بنية مُشيّدة مشحونة بالسلطة، تُدار، لا عبر النصوص القانونية أو الدينية (التي تحظى باحترام عموم السوريين) فقط، بل عبر إشارات رمزية، وتوزيعات تبدو "طبيعيةً"، بينما تُخفي وراءها خيارات سياسية وثقافية دقيقة. من هذا المنظور، لا يكون قرار الفصل مجرّد إجراء تنظيمي، بل خطوة ضمن مشروع أشمل لإعادة إنتاج الهرمية الرمزية التي ستشكّل قاعدة النظام المقبل، أيّاً كانت ملامحه أو خطابه المُعلن.
لا يقصي هذا الترسيم الرمزي التفاعل الاجتماعي بين أفراد المجتمع برجاله ونسائه فقط، بل يُعيد تأطيره ضمن منطق رمزي يضعه خارج مركز الشرعية. ما يُمارَس هنا ليس قمعاً مباشراً، بل شكلاً من "البيو-سلطة"؛ إذ تُدار الحياة عبر هندسة الفضاء، وترميز الأجساد، وتوزيع مواقع الرؤية والسمع والتمثيل. بهذا المعنى، يتحوّل الجامع الأموي مختبراً رمزياً لتجريب أنماط السلطة الجديدة. فالسيادة لم تعد تُعلِن نفسها بالكلمات، بل بطريقة الجلوس، ومسارات الحركة، وتوزيع الرؤية: من يُرى؟ من يُخفى؟ من يُمنح الحقّ في التمثيل، ومن يُعاد إنتاجه صمتاً وظلّاً؟... السلطة، هنا، تُمارَس عبر الجغرافيا لا عبر الخطابة، وعبر اللغة المعمارية أكثر من اللغة السياسية.
وفي لحظة انتقالية كالتي تعيشها سورية، تُملأ الفراغات الرمزية بسرعة. ومن هنا نفهم استعجال الإدارة في فرض الفصل، لا لتقنين الزحام فحسب، بل لترسيخ نمط سيادي ذكوري يتكئ على بنية أخلاقية تبدو تلقائيةً وغير قابلة للنقاش. إن المخيال العام يُعاد تشكيله بطريقة تُنتج عاداتِ نظر، وحدوداً رمزيةً تُرسَم بوضوح؛ الرجل هنا، المرأة هناك. لا حاجة للرقابة، فالخطّ الفاصل نفسه يصبح أداةَ سلطة، ويغدو الحضور فعلاً مقونناً بالصمت والترتيب لا بالمشاركة. غير أن احترام الدين والثقافة الإسلامية لا يعني القبول غير المشروط بكيفيات تجسيدهما داخل الفضاء العام. فالدين، في تموضعه الرمزي العميق، ليس بنيةً جامدةً، بل خطاباً يعيد إنتاج نفسه باستمرار عبر الأزمنة والسياقات. ومن هنا، فإن استدعاء الإسلام في إدارة الفضاء لا يجب أن يتحوّل أداءً شكلياً يُخفي خلفه منطقَ السلطة. إنّ ما يُحترم بحقّ (ويستأهل الدفاع عنه) هو الروح الكونية للرسالة الإسلامية، لا تمظهراتها المحكومة بتقنيات التوزيع السلطوي للأجساد والمعاني. فاحترام المقدّس لا يكون بتجميده داخل هندسات رمزية تُكرّس الهيمنة، بل بتحريره من التوظيف السلطوي الذي يجعله أداةً صامتةً لمأسسة الهيمنة. في زمن تعاد فيه كتابة الخرائط الرمزية للمجتمع، يصبح الدفاع عن الدين هو أيضاً دفاعاً عن حقّه في ألّا يُختزل في بُعدٍ إداري باسم التنظيم.
إن مستقبل سورية لا يُقاس بعدد الوزارات أو بنية الدستور فقط، بل بكيفية تصميم الفضاء الرمزي: الجامع، المدرسة، الشارع، الشاشة. فكل قرار، كالفصل في الجامع الأموي، لا يُنظِّم الأجساد فحسب، بل يُنتِج المعنى، ويُعيد توزيع الشرعية، والظهور، والصمت. وفي التفاصيل الصغيرة، التي تبدو إداريةً، تبدأ الدولة الجديدة بكتابة سرديتها الرمزية، لا بوصفها دولةَ أفراد، بل دولةَ إشارات، تكتب مواطنيها عبر الخرائط، لا عبر النصوص.
www.deyaralnagab.com
|