logo
التحولات الصامتة تحت الركام …غزة كمفكك للنظام العالمي الراكد!!
بقلم : حسام بوزكارن ... 11.06.2025

أنا لا أروي خبرا، بل أناقش لحظة تتحول فيها غزة من جرح إلى مفصل. من بين الأنقاض والدخان والعتمة، تخرج غزة كفاعل يعيد طرح الأسئلة الجوهرية على النظام العالمي: من يملك الحق في الحياة؟ من يضع معايير القانون؟ من يقرر من هو الضحية ومن هو المذنب؟ لست محايدا في هذا النقاش، لأن الحياد هنا خيانة معرفية وأخلاقية. ما أراه هو انقلاب ناعم يحدث في قلب الجغرافيا السياسية، انفجار صامت تعيد فيه غزة، من تحت الحصار، ترتيب خرائط النفوذ، وتحرك أوزان العواصم.
الحصار كأداة استراتيجية … سلاح بلا معادلات
منذ مارس 2025، صعدت إسرائيل منسوب الحصار على غزة حتى بلغ أقصى درجات الخنق، مانعة دخول المساعدات الطبية والغذائية، في تحد مباشر لقرارات المحكمة الدولية التي دعت إلى تسهيل المساعدات الإنسانية. ما تمارسه تل أبيب ليس مجرد حصار تقني، بل هو محاولة لإنتاج معادلة جديدة : الإبادة كوسيلة ضغط سياسي. وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا لم يخفوا انزعاجهم، واعتبروا الحصار "خرقا صريحا لقانون الحرب"، لكن السؤال الذي يطرح هنا ليس موقفهم فقط، بل عمق الخلل في بنية النظام الدولي الذي يسمح لإسرائيل بأن تمضي بهذه الانتهاكات بلا ردع. غزة لا تختبر فقط صمودها، بٍ تختبر أيضا صمود المفاهيم القانونية الغربية أمام الضغط الإسرائيلي.
مواجهة رمزية في البحار… اعتراض سفينة "مادلين"
في 9 يونيو، اعترض جيش الاحتلال سفينة "مادلين"، التي لم تحمل أسلحة، بل حليب أطفال وأرز ووجوها من ضمير العالم، من بينهم الناشطة غريتا تونبرغ ونواب أوروبيون. إسرائيل سخرت من الحملة ووصفت السفينة بأنها "يخت سيلفي"، لكنها أخطأت التقدير؛ لأن هذه المواجهة لم تكن مجرد حدث بحري، بل لحظة رمزية أحدثت شقوقا في جدار الحصانة الأخلاقية الإسرائيلية. دول مثل تركيا وإسبانيا أدانت الاعتراض واعتبرته انتهاكا صارخا للقانون الدولي. غزة في هذه اللحظة خرجت من موقع الضحية الصامتة، لتصبح مركز مواجهة بين مشروع استعمار قديم ومقاومة جديدة، عابرة للحدود.
أوروبا تتجاوز الخطاب الرمادي وتلجأ إلى العقوبات
شيئا فشيئا، تتخلى أوروبا عن خطابها الرمادي الذي دام لعقود. منذ مايو، أوقفت بريطانيا مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرضت عقوبات على مستوطنين، بينما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علناً إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وتدرس المفوضية الأوروبية مراجعة اتفاق الشراكة مع تل أبيب. هذه التحركات ليست مجرد تغيير في المواقف، بل هي بداية تآكل في مفهوم "الاستثناء الإسرائيلي" داخل الدبلوماسية الأوروبية. أنا أرى أن هذا التحول ليس أخلاقيا فقط، بل استراتيجي أيضا، فاستمرار الدعم لإسرائيل بات عبئا سياسيا على الأنظمة الليبرالية التي تخسر ما تبقى من شر؍ يتها الأخلاقية أمام شعوبها.
المؤسسات الدولية تصعد … المحكمة الجنائية والمنظمات الحقوقية
مع اشتداد الحصار، عادت المؤسسات الدولية لتتحرك، ولو متأخرة. المحكمة الجنائية الدولية تنظر في مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، على خلفية الجرائم المرتكبة في غزة، فيما وصفت اللجنة الأممية المستقلة الحصار بأنه "منهج حرب بالتجويع". أنا لا أقرأ هذه التصريحات كمجرد إدانات، بل كمؤشرات على تحول في المزاج الحقوقي العالمي. إسرائيل التي طالما تعاملت مع هذه المؤسسات كصوت هامشي، بدأت تواجه خطرا وجوديا على مستوى الشرعية الدولية. ما يبنى هنا ليس فقط ملفا قضائيا، بل سردية قانونية مضادة قد تتحول إلى أداة ضغط في العواصم الكبرى.
غزة لا تواجه فقط الاحتلال، بل تعيد فتح النقاش العالمي حول معنى السيادة والمقاومة والشرعية. حتى تحت القصف، استطاعت المقاومة السلمية كما في نموذج سفينة "مادلين" أن تفرض إيقاعها على مراكز القرار. ما نراه اليوم هو تحول غزة إلى مرآة تعكس عجز النظام الدولي، لكنها في ذات الوقت تنتج عقلانية جديدة: لا مركزية المقاومة، والربط بين المعركة الميدانية والمعركة الرمزية. في هذا السياق، تتحول غزة من موقع المفعول به إلى فاعل يعيد صياغة المعايير.
ما بعد الركام
ما يحدث ليس فقط نهاية مرحلة، بل بداية مشهد دولي جديد. غزة، التي أرادوا خنقها، فجرت معادلات صمتهم. هي اليوم مساحة اشتباك قانوني، أخلاقي، ورمزي، أعادت من خلالها ضبط اتجاهات النظام العالمي المتكلس. ومن موقعي هذا، أرى ضرورة قصوى في الآتي : أن تواصل أوروبا مسارها نحو العقوبات، أن يفعّل المسار القضائي الدولي بلا مساومات، أن تحمى المبادرات المدنية التضامنية، وأن يتحول الاعتراف بالدولة الفلسطينية من مطلب رمزي إلى سياسة ملزمة. فقط حينئذ، لا يعود الركام مجرد شاهد، بل بداية سردية جديدة تصوغها غزة من تحت الحصار.


www.deyaralnagab.com