logo
من تحت ركام غزة إلى شوارع بريطانيا: ناجٍ يروي عطشه وراهبة بيضاء الشعر تحمل ضميرا!!
بقلم : مريم مشتاوي ... 11.09.2025

في غزة، ليست الحكايات مجرد أخبار عابرة تبثّ على عجل في نشرات المساء. هنا كل حكاية هي لحم ودم، ورعشة خوف تترك ندبتها في الروح إلى الأبد.
رجل بملامح أنهكها العطش، يقف أمام الكاميرا، ليس بصفة بطل ولا شهيد ولا مقاتل… إنه ناجٍ يتلمّس الحياة بعد أن عبر دهاليز الموت. عيناه واسعتان، تشبهان أبواباً نصف مفتوحة على عوالم الداخل: رعب، وحدة، انتظار، ودهشة أن يبقى الجسد حياً بعد واحد وعشرين يوماً.
لم يتحدث عن صواريخٍ ولا عن دبابات ولا روبوتات مسلحة، إنما عن كلاب بوليسية تنهش لحم الأحياء والأموات.
ظل محاصراً بين الركام. كان معه عشرون لتراً من ماء مالح يزيد اللسان مرارة. «شوية أكل معلبات»، كما وصف، بالكاد تبقي الإنسان واقفاً على قدميه. كل يوم كان يقيسه برشفة ماء، بلقمة يتيمة.
الرجل لم يكن بانتظار معجزة، ولا يزعم أنه كان أقوى من الموت. قالها ببساطة: «ما لك إلا تصبر… قعدت أصبر في حالي». الصبر هنا لم يكن فضيلة أخلاقية، بل ضرورة جسدية، كالأوكسجين الذي يتسلل من بين الشقوق.
قصفت الطائرات المنزل الذي احتمى فيه. تحول المكان إلى قبر مفتوح. لم يكن يسمع أصوات الناس، فقط أنين الركام وأنفاسه المتقطعة.
هكذا شبّه نفسه بمولود خرج للتو إلى الضوء، وبين الجملة والأخرى، يطل شعور داخلي بالدهشة: كيف عبرت كل هذه الأيام؟ كيف لم ينهشني الجوع؟ لماذا لم يختطفني العطش؟ ولماذا تركني الموت شاهداً بدل أن أكون جثة أخرى في سرداب غزة الطويل؟
لكن النجاة في غزة ليست خاتمة سعيدة. هي نجاة مشوبة بالكوابيس. لقد شاهد الكلاب البوليسية تنهش أجساد الشهداء. قال: «كنت خايف الكلاب تنهشني… وأنا بشوف الكلاب البوليسية تنهش في لحم الشهداء». لحظة النجاة إذن لا تنفصل عن لحظة الإدراك المرير: الجسد الذي صمد ليس أفضل من جسد آخر تركوه للكلاب.
واحد وعشرون يوماً.
هل يمكن أن تقاس الأيام بعدد الساعات؟ في الحصار، الدقيقة تتحوّل إلى دهر، والدهر يتحوّل إلى مقصلة. كل دقيقة كانت تمر عليّه، مات فيها ألف مرة ومرة.
حين خرج أخيراً إلى ضوء النهار، لم يخرج بصفة المنتصر ولا المهزوم. خرج كإنسان عار من كل شيء إلا التجربة. عار من الماء، من الطعام، من الأمان، حتى من اللغة. اكتفى بكلمات قليلة، كأنها كل ما تبقى له من مخزون الذاكرة: «كنت أشرب كل يوم نتفة ميّة… أقضي حالي فيهم». تجدر
الرجل الفلسطيني لم يرفع شعاراً، ولم يصرخ «الموت ولا المذلة». لم يكن في وضعية الخطابة. كان يحكي ببساطة عن كابوس ممتد، عن العطش، عن الخوف، عن دقائق تشبه آلاف المقاصل. لكنه في عفويته رسم صورة لا يرسمها أعظم الروائيين: صورة الإنسان حين يساق إلى حدوده الأخيرة، وحين يتحول الصبر من قيمة روحية إلى غريزة عضوية تحفظ الجسد من الانهيار.
غزة دائماً تعيد صياغة المفردات. «كلمة الصبر» عندها ليست مجرّد فضيلة يوصي بها الشيوخ على المنابر، إنما حبل دقيق، إن انقطع سقط الجسد في هاوية الموت. كلمة «الماء» لا تعني الارتواء.. هي مجرد إبقاء الحلق رطباً بما يكفي كي لا يلتصق اللسان بسقف الفم. كلمة «الأمان» لا وجود لها إلا في الذاكرة البعيدة.
حين روى قصته، لم يكن يبحث عن تعاطف أو بطولة. كان يروي كي يخفّف العبء عن ذاكرته، كي يشارك الآخرين بشيء من الرعب الذي عاشه وحده. في عينيه، كان هناك صدى سؤال أبدي: لماذا أنا حيّ وهم تحت الركام؟ لماذا لم تنهشني الكلاب كما نهشت غيري؟ وما معنى أن تخرج من الحصار لتشهد على الحصار الأكبر المستمر منذ عقود؟
غزة لا تمنح الناجين فرصة للراحة. الناجي ليس نهاية الحكاية.. هو شاهد جديد يضاف إلى قائمة الشهود. كل واحد منهم يروي، والآخرون يحملون الرواية إلى العالم. لكن العالم اعتاد الصور حتى فقدت قدرتها على الصدمة. وحدها اللغة البسيطة لذلك الرجل تعيد إلينا رعب المشهد: «كل دقيقة كنت أموت ألف موتة».
كأننا نحن الذين نستمع إليه نموت معه.
في النهاية، يقف الرجل بجسده النحيل تحت الشمس، يحدّث الكاميرا كمن يحدّث نفسه. لا يبحث عن خلاص ولا يطلب إنصافاً. في غزة، الإنسان أكبر من الموت، حتى وإن بدا مكسوراً. في غزة، النجاة نفسها فعل مقاومة، حتى لو جاءت محمولة على «شوية معلبات» و»نتفة ميّة».
الرجل الذي خرج من الركام لم يخرج بوسام ولا ببطولة معلّبة. خرج بشهادة حيّة، وأعطاها لنا كما هي، دون تزيين. كأنما يقول: «هذه هي غزة، وهذه هي حياتنا: موت يقترب في كل دقيقة، وولادة جديدة في كل صباحٍ ننجو فيه.
راهبةٌ بيضاء الشعر… وضمير العالم
لم تكن تلك اللحظة مشهداً عابراً في شوارع بريطانيا. الكاميرا التقطت صورة تختصر تاريخاً بأكمله: راهبة في الثانية والثمانين، ينحني ظهرها تحت ثقل السنين، ويشع رأسها ببياض العمر، بينما أيدي رجال الشرطة تطبق على ذراعيها الهشّتين.
هي لا تشبه المقاومين الذين اعتدنا أن نراهم يحملون البنادق، ولا تشبه الثوّار الذين يهتفون في الساحات. إنها راهبة، امرأة قضت عمرها في الأديرة وبين الصلوات، فإذا بها تخرج إلى الشارع، لتضع جسدها الواهن في مواجهة سلطة مدججة. ما الذي يدفع ثمانينية إلى أن تعتقل للمرّة الثانية؟ ليس سوى ذلك الشيء الذي يسمّى: الضمير.
كانت ترتدي صليبها، وحول عنقها يتدلّى رمز الإيمان، لكن على أذنيها علّقت علم فلسطين. كأنها تقول إن المسيح الذي آمنت به لم يكن إلا نصيراً للمظلومين، وإن المحبة الحقيقية لا تكتمل إلا إذا عبرت من القدس إلى غزة، ومن بيت لحم إلى كل بيت يقصف ويهدم.
بين يدي الشرطة، لم تقاوم بالعنف. لم تصرخ. لم تتوسّل. كانت تمشي ببطء وهدوء، كأنها تعرف أنّ المسافة بين ذراعي الشرطيّ والسماء قصيرة. صورة الجسد المنحني لم تخفِ قوة الروح، إنما جعلتها أكثر سطوعاً.
في تلك اللحظة، تحولت الراهبة إلى مرآة للإنسانية كلّها. ماذا يعني أن يتجاوز إنسان الثمانين عاماً، وقد شارف على الخروج من الدنيا، ثم يختار أن يقضي أيامه الأخيرة في المعتقل نصرة لأرض لم يولد فيها؟ ماذا يعني أن تخاطر بكرامة الشيخوخة كي تحفظ كرامة أطفال غرباء؟
المشهد يذكّرنا بأن العمر ليس عدد السنوات التي نعيشها، إنما اللحظة التي نقول فيها «لا» في وجه الظلم. كثيرون أصغر منها سناً وأكثر منها قوة، لكنهم يلوذون بالصمت أو يتوارون خلف المبررات. أما هي، فقد علّمتنا أن الشيخوخة حين تمتزج بالحق، تتحوّل إلى ربيعٍ أبدي.
العالم من حولها صاخب: إعلام مشغول بتفاهاته، سياسيون يحسبون كل كلمة بميزان المصالح، وجماهير أنهكتها أخبار الموت اليومي. وسط هذا الركام من اللامبالاة، تخرج راهبة بريطانية لتقول بملء التجاعيد: «أنا هنا. لن أصمت». لقد صارت هذه الراهبة جسراً بين الأديان، وبين الأجيال، وبين القارات. جسراً يذكّرنا أن القضية الفلسطينية ليست شأناً محليّاً.. إنها قضية تمتحن إنسانية كل واحد منا. في صمتها المضيء، كانت تعيدنا إلى المعنى الأول للعدل، ذاك الذي لا تحدّه حدود ولا أعمار.
هي لم تحمل لافتة ضخمة، ولم ترفع صوتها في خطابات حماسية. حملت فقط جسدها المتعب، وأسلمته لشرطة تعرف أنّها تعتقل أكثر من عجوز: تعتقل روحاً تعرّت من الخوف.
أجمل ما في المشهد أنّه يفضح التناقض: سلطة مدججة بالعصي والقيود، في مواجهة جسد هشّ لامرأة مسنّة. أي خوف يمكن أن تثيره ثمانينية تمشي ببطء؟ أي خطر تشكّله سوى خطر الحقيقة؟ الحقيقة التي تقول إن العدالة لا تموت بالشيخوخة، بل تزهر معها.
وهكذا، تحوّلت الراهبة البريطانية إلى رمز لا يخصّها وحدها. إنّها رمز لكل الذين يرفضون أن يشيخوا بالصمت، ولكل الذين يعرفون أنّ الحياة بلا مبدأ ليست حياة.
*كاتبة لبنانية


www.deyaralnagab.com