|
متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟!
بقلم : د.فيصل القاسم ... 15.11.2025
يبدو أن بعض النخب العربية مصابة بحالة من «الانبهار الانتقائي» بالديمقراطية الغربية. يرددون صباح مساء شعارات الدولة المدنية، والعلمانية، والديمقراطية، وكأنها مفاتيح الخلاص المطلق، دون أن يفكروا لحظة واحدة في مضمونها الحقيقي أو في كيفية تطبيقها عند من اخترعوها. لكن لنضع العواطف جانباً ونسأل ببساطة: هل الغرب، الذي يطالبنا دائماً بتطبيق «الديمقراطية»، يطبقها فعلاً كما نتصورها؟ أم إنه يحتكم في عمقه إلى قاعدة واحدة لا تتزحزح: حكم الأكثرية العددية والثقافية والدينية؟
تصوروا لو أن في بريطانيا أقلية طائفية لا تشكل ثلاثة بالمئة من السكان، تسيطر على الجيش والاقتصاد والإعلام منذ ستين عاماً. أيمكن أن يقبل البريطانيون بذلك؟ مستحيل. هل يمكن أن يتخيل أحد أن طائفة صغيرة من المهاجرين المسلمين أو الهنود أو السيخ تتربع على مفاصل السلطة في لندن لعقود؟ الجواب: لا. لأن البريطانيين، مهما تحدثوا عن «التعددية» و«الاندماج»، يعرفون جيداً أن الحكم في النهاية للأغلبية الأنغليكانية البروتستانتية البيضاء، وهي التي تمسك بكل مفاصل الدولة.
خذوا أمريكا مثلاً: منذ تأسيسها وحتى اليوم، لم يحكمها إلا رؤساء بيض أنغلوساكسون بروتستانت باستثناء حالة رمزية واحدة (باراك أوباما) الذي اضطر لأن يكون أكثر «أمريكياً أبيض» من البيض أنفسهم كي يُقبل. من يحكم الكونغرس؟ من يسيطر على البنتاغون؟ من يمتلك الإعلام العملاق؟ كلهم من ذات البنية الاجتماعية والثقافية التي تمثل الأكثرية الحاكمة منذ قرنين.
انظروا إلى ألمانيا: هل يحكمها الأتراك المسلمون الذين يشكلون أكثر من 5 ملايين من سكانها؟ هل نجدهم في مفاصل الجيش أو السياسة العليا؟ بالطبع لا. الألمان الأصليون الكاثوليك والبروتستانت هم أصحاب القرار.
وفي فرنسا، من يملك الإعلام والمال والسياسة؟ الفرنسيون الكاثوليك أبناء الأغلبية التاريخية، لا الأقليات المسلمة أو الأفريقية أو اليهودية.
حتى في الديمقراطية الإسرائيلية المزعومة، التي يصفق لها الغرب ليل نهار، هل تحكم الأقلية العربية المسلمة أو المسيحية؟ لا. اليهود الأشكناز هم الطبقة الحاكمة، يسيطرون على الجيش، والاقتصاد، والسياسة، بينما تُترك الفئات الأخرى لتزيين المشهد فقط.
إذن، الغرب الذي يعلّمنا الدروس في الديمقراطية لا يطبق إلا ديمقراطية الأكثريات العددية والثقافية، بينما يترك للأقليات مساحة محدودة للحضور الإعلامي والرمزي لا أكثر.
في المقابل، ماذا عن بلادنا العربية؟ في غير بلد عربي، حكمت أقليات لا تتجاوز نسبتها 3٪ من الشعب، وتحكمت بالجيش والمخابرات والاقتصاد والإعلام لعقود طويلة. مارست الإقصاء، والتمييز، والتهميش بحق الأكثرية الساحقة. ومع ذلك، لم يجرؤ أحد في الغرب على وصف ذلك بالديكتاتورية الطائفية، بل كان يُصفق لتلك الأنظمة لأنها تخدم مصالحه. لكن حين حاولت الأكثريات في بعض الدول أن تستعيد دورها الطبيعي عبر صناديق الاقتراع، انقلب العالم رأساً على عقب. قيل لهم: «أنتم حكومة اللون الواحد!»، «أنتم تهددون الأقليات!»، «أنتم ضد الدولة المدنية!». وكأن ديمقراطية الغرب لا تقوم كلها على اللون الواحد والهوية الواحدة والأكثرية المتماسكة!
*الديمقراطية ليست زينة تضعها الأقليات لتجميل استبدادها، وليست قناعاً يستخدمه الغرب لتبرير انقلابات تخدم مصالحه
خذوا مثالاً صارخاً: عندما فاز الإخوان المسلمون في مصر عبر انتخابات ديمقراطية شهد بها العالم كله، قامت الدنيا ولم تقعد. انقلبت الدول «المدنية» عليهم، وباركت عودة الحكم العسكري، فقط لأن الأكثريات الشعبية أوصلت من لا يُراد لهم أن يحكموا.
وفي العراق، تم قلب المفهوم رأساً على عقب: فحين كانت أقلية محددة تحكم بالقوة، لم تكن هناك مشكلة. لكن عندما صارت الأكثرية هي التي تصوّت وتفوز، بدأ العويل عن «تهميش الأقليات» و«التوازن الطائفي».
إنه نفاق صريح، باسم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية. الغرب يريد لنا ديمقراطية مشروطة: ديمقراطية تحكم فقط إن كانت نتيجتها كما يشتهي.
لاحظوا ازدواجية المعايير بين ديمقراطية الغرب وديمقراطية الشرق. في الديمقراطيات الغربية، لا أحد يجرؤ على المطالبة بمناصفة الحكم بين الأكثرية البروتستانتية والأقلية الكاثوليكية أو المسلمة أو اليهودية، لأن الجميع يعرف أن هذا ضد المنطق السياسي الطبيعي. لكن في بلادنا، إذا طالبت الأكثرية بحقها الطبيعي في إدارة البلاد، تنهال عليها الاتهامات: «أنتم ضد التعددية»، «أنتم خطر على التعايش»، «أنتم تهمشون الأقليات».
تأملوا المفارقة: في أمريكا، حكم الأبيض البروتستانتي البلاد أكثر من مئتي عام، ولم يقل أحد إنها «حكومة اللون الواحد». وفي فرنسا، كل الرؤساء من جذور فرنسية كاثوليكية. وفي بريطانيا، العائلة المالكة أنغليكانية، ولا أحد يتحدث عن «الاحتكار الديني».
لكن عندما تطلب أكثرية سنية أو عربية أو إسلامية أن تحكم في بلادها، يقال إنها «تهدد التنوع» أي منطق هذا ؟
الديمقراطية ليست زينة لغرف الصالونات يا متعلمين يا بتوع المدارس. إذا أردتم دولة مدنية علمانية ديمقراطية، فلا بأس. لكن لنكن واضحين: الديمقراطية لا تُنتقى على الطريقة الشرقية «على المقاس». إما أن نطبقها بالكامل، فتكون حكم الأكثرية عبر الصندوق، وإما أن نعترف أننا لا نريد ديمقراطية، بل نريد «حصصاً طائفية» و«ضمانات طبقية» تخدم فئة صغيرة على حساب الملايين.
في الغرب، لو فاز حزب المحافظين البريطاني بالأغلبية، يحكم دون أن يطالبه أحد بإدخال الهندوس والسيخ والملحدين واليهود في حكومته لضمان «التوازن». ولو فاز الحزب الجمهوري الأمريكي، يحكم البلد كله ببرنامج يميني إنجيلي محافظ، ولا أحد يصرخ بأنهم «يقصون الأقليات». أما في بلادنا، فحين تفوز الأكثرية يُقال لها: توقفي، لا بد أن تتركي للأقليات نصف الحكومة، وربع الجيش، وثلاثة أرباع الإعلام! هذه ليست ديمقراطية، بل هندسة اجتماعية لتكريس الهيمنة المقنعة باسم المدنية.
أخيراً: إما ديمقراطية حقيقية أو ديكور للطغيان. نعم، نريد دولة ديمقراطية علمانية إنسانية، لكن بشرط أن تكون كما هي في الغرب لا كما تُراد لنا: من يحكم هو من يملك الأغلبية العددية والسياسية.
أما أن تُفرض علينا ديمقراطية شكلية يتحكم بها أقل من 3٪ من الشعب، فهذا ليس تحضّراً، بل استعمار داخلي مغلف بالكلمات الناعمة. الديمقراطية ليست زينة تضعها الأقليات لتجميل استبدادها، وليست قناعاً يستخدمه الغرب لتبرير انقلابات تخدم مصالحه. هي ببساطة حكم الناس لأنفسهم. وإن كانت الأكثريات هي الناس، فلتحكم، كما يحكم البيض في أمريكا، والألمان في ألمانيا، والبريطانيون في بريطانيا.
أما غير ذلك، فليُسمَّ كما هو: خداع باسم الحرية والديمقراطي
www.deyaralnagab.com
|