زَفـَّة مَلاك!!
بقلم : ميسون أسدي ... 03.01.2014
وقفت فتاة في العشرينات، أمام عدد من البوابات، نظرت إلى الورقة التي بيدها وكان بها رقم ثلاثة، وقبل أن تدخل، لاحظت أن البوابة غير متعلقة بإطار ومفصلات، كأنها في الهواء يحيطها ما يشبه الغيوم الكثيفة.. مدت يدها لتفتحها وإذا بالبوابة تفتح لوحدها. دخلت ووجدت جمعا غفيرا جالسًا في أركان ديوان فسيح، وأبدانهم قريبة جدا للأجسام الهلامية بلون ضبابي.
اقتربت من أحد المقاعد وهي تتأمل وجوه الحاضرين، تحسست المقعد معتقدة بأنها ستغوص فيه بمجرد الجلوس عليه، جلست وشعرت براحة كبيرة.
أنعمت النظر في جدران الديوان، وإذ بها لا ترى أي مادة تصنع منها البيوت المعروفة، كأنها وسط غيوم رصفت ودكت على شكل حائط. كانت متوترة قبل دخولها، لكن ما أن وطأت قدمها أرض الديوان، حتى زال عنها التوتر، فقدت الشعور بالوزن والجاذبية، نظرت إلى وجوه الجالسين، كانوا من مختلف الأعمار، من الطفل الرضيع وحتى الكهل المسن. ولم تفهم ما هو المشترك بينهم في غرفة رقم ثلاثة، لاح لها شاب في جيلها جميل المحيا، منهمك في النظر إلى هاتفه النقال، ورجل آخر يبدو أنه تعرض لحادث خطير، لأن نصف وجهه اختفى وظهر ما بداخل جمجمته، لكن عينيه تعبران عن سعادة وهدوء نفسي!! وشخص لم تتبين هويته، فالحروق أتت على كل شيء فيه، يطالع صحيفة في يده ويخفي وجهه من ورائها، يسترق النظر إليها بين الفينة والأخرى من خلف صحيفته، وامرأة تجلس غير بعيد عنها مليئة بالرضوض والجروح، وكأنها تعرضت للرجم أو ما شابه، لكنها أيضاً سعيدة، مثل الجميع.
جلست امرأة بدينة ترتدي ثوبا أبيض وراء مكتب يشع نورا، مصنوع من الزبرجد الأخضر، أشارت إليها بيدها كي تقترب، فنهضت الفتاة وتوجهت نحو المرأة البدينة.
المرأة: ما اسمك وكم عمرك؟
الفتاة: أنا ملاك، عمري ثلاثة وعشرون سنة.
المرأة: تقصدين أن اسمك ملاك، ولست ملاكا حقيقا؟
هزت ملاك برأسها علامة الموافقة، وقامت المرأة بالتأمل بكرة بلورية أمامها، ثم قالت: كان يجب أن تأتي إلى هنا منذ سنوات عديدة، لماذا تأخرت؟ ماذا حصل؟
الفتاة: حكايتي ليست طويلة، جئت إلى الحياة قبل أواني وأنا ابنة ستة أشهر. كان وزني 580 غرام، فقال الأطباء إنني لن أصمد على قيد الحياة كوني خديجة وصغيرة الحجم، ومنذ ذاك الحين، تربص لي الردى في كل الزوايا.
المرأة: ماذا حصل؟
ملاك: لم تستسلم أمي المسكينة وأصرت أن تعطيني ثديها، وأنا رفضته، لكنها قامت بشفط الحليب من ثدييها وأدخلته عنوة إلى جسدي. وبقيت على هذا الحال حتى استوفيت الوزن المعقول.
المرأة: يبدوا أن الأمر طبيعي.. فالأطفال الخدّج يملأون العالم..
ملاك: بدأت المعاناة في سيرة حياتي من هذا التاريخ إلى أن وصلت إليكم.
المرأة: وكيف كان ذلك؟
ملاك: عانيت من مشاكل في التنفس في رئتيّ بسبب صغر حجمي، ولكن الأطباء طمأنوا والديَّ بأن مرضي سيرافقني حتى جيل ستة أعوام وأن مشكلة التنفس شائعة بسبب تلويث الجو في سمائنا.
عاش والداي في صراع مستمر، فأنا البنت الثانية في العائلة بعد أخي البكر، وتنازلت أمي عن مستقبلها المهني من أجلي. تركت عملها في التعليم وبقيت إلى جانبي. عقلي واع ومتزن ولكني متأخرة عن أترابي في المدرسة وأعاقتني مشكلة ساقيَّ، لدي ساق أطول من الأخرى.
المرأة: مشكلة الساق لا تؤثر!
ملاك: صحيح، لكني رقدت في المستشفى مرة أو مرتين في الشهر بسبب ضيق التنفس والتهابات في رئتي التي أنتجت البلغم والبلغم، بسبب الأدوية اللعينة التي تناولتها يوميا.. لم أعبر عن ألمي بصغري. لكن عندما وعيت، جاهرت بوجعي وباختناقي وضيق نفسي، فيسرع أهل بيتي لإحضار دوائي.. وعندما أصبحت في السابعة عشر من عمري، بدأت أتنفس عبر قارورة من الأكسجين تلازمني، فرئتي تعمل بنسبة عشرين بالمائة فقط.. استمرت معاناتي مع المرض حتى جيل العشرين، بعدها قرر الأطباء أن يزرعوا لي رئتين من متبرع.
المرأة: هذه هدية؟
ملاك: خفت في البداية ولم أوافق. ولكن الطبيبة أقنعتني، وكان عمري واحدا وعشرين. تم تسجيل اسمي في مركز التبرع بالأعضاء، وبعد سنة استدعوني للزراعة، لم تنجح محاولة الزراعة الأولى، لأن رئتي المتبرع لم تكن صالحة، فقد أجروا تجربة عليها قبل إدخالها إلى جسمي، ووجدوا أنها لا تعمل، فأوقفوا العملية وكنت قد خدرت تخدير كليا، وعندما استيقظت اعتقدت بأن الزراعة تمت، وبكيت بكاء مرا بعد أن اكتشفت ما حدث.. بقيت في المستشفى ثلاثة أيام. استدعيت مرة أخرى إلى المستشفى بعد أربعة أشهر وقد أصبح وزني تسعا وعشرين كغم وهذا الوزن غير مناسب للعملية، مما أزعج الأطباء.. دخلت للعملية التي استغرقت سبع ساعات ونجحت نجاحا تاما.
المرأة: شيء مفرح.. وهل تحسن وضعك؟
ملاك: رقدت في المستشفى عشرين يوما حتى استعدت صحتي. تحررت من أدوية الرئتين وقارورة الأكسجين. تقبل جسمي الرئتين، لكن الأدوية الجديدة أضعفت جهاز مناعتي.. جرى كل شيء على ما يرام لمدة خمسة أشهر. ازداد وزني، وكانت أمي تنبهني دائما بأن آخذ الدواء بانتظام خوفا من التهاب رئتي. وأن أضع الكمامة على فمي وخاصة عند خروجي من البيت. أحببت الحياة مثل أي صبية بجيلي وارتحت بين جنباتها، تصرفت في حياتي اليومية كأي إنسان سليم، إلى أن هاجمني فيروس، فدخلت المستشفى بصحة جيدة نسبيا. وأتساءل: لماذا كتبت علي هذه المعاناة؟ فأنا لم أؤذِ حتى ذبابة!
اقتربت منها سيدة وضمتها إلى صدرها بحنو وقالت: ما أصابك أيتها الفتاة لا شيء مقابل ما حدث لي، فقد رجموني أمام الناس وأمام أولادي لأنهم اعتقدوا بأنني على علاقة مع رجل غير زوجي، ولم يكتفوا برجمي إلا عندما همد جسدي. وأنا أيضا لم أؤذِ ذبابة في حياتي، وعندي نفس السؤال.. من هو المسؤول؟ لماذا لم يردع الشر عنا نحن الأبرياء؟!
صمتت المرأة هنيهة، ثم سألتها: هل أنت متزوجة يا ابنتي؟
ملاك: لا.. أحببت شابا، تعرفت عليه عن طريق الفيسبوك، لا يعرف شيئا عن وضعي الصحي، وعندما علم بمصابي، هجرني! والغريب، أنني تعرفت على شاب آخر، وقد تقبلني رغم عللي، لكن أهله رفضوني وأجبروه على قطع علاقته بي. فكنت أحزن وأمرض وأنتكس وينتابني ضغط رئوي وأدخل المستشفى. اقتنعت بكلام أمي أن أهلي فقط يحبونني ويتقبلونني كما أنا. وقفت أمي وأختي بجانبي في كل نكسة ألمت بي بسبب من أحببت. بقي بجانبي صديق واحد وهو ممرض. شجعني بأنني سأتجاوز المرض، اتصل بي دائما. حادثني وتتبع أخباري ربطتنا صداقة متينة.. أحببت السفر والملابس والسباحة والأصدقاء. أتاح لي أهلي تجربة الحياة الطبيعية بملذاتها وهزائمها.. وكنت أتساءل: هل المريض لا يَعشق ولا يُعشق، هناك معاقين نجحوا في الزواج وبناء أسرة ولكنني فشلت وتنازلت عن فكرة الارتباط حتى لا أكون فريسة لقصص الحب التعيسة.
التفتت ملاك خلفها، فرأت الرجل الذي اختفى نصف وجهه وظهر ما بداخل جمجمته، وكان يحمل كأس عصير برتقالي أرجواني اللون، تتطاير منه فقاقيع بلورية جميلة، ناولها الكأس لتشرب، ووضع راحته على كتفها وضحك بملء فيه وقال: أنا طبيب ومختص بالأمراض الرئوية، وأعرف تماما ما تعانينه..
اكفهر وجهه وقال: عشرة أعوام قضيتها في الدراسة لبناء مستقبلي وفيما كنت أمارس رياضة المشي، جاء أحد الشبان المتهورين ودهسني بسيارته، وسحبني وراءه بضع كيلومترات. حتى أنه لم يشعر بأنني علقت بين عجلات سيارته. أساء لي ولأولادي ولزوجتي.. أرى أنك فتاة جميلة، حلوة العينين والمبسم، وأنا ماذا أقول أيتها الفتاة؟ أنظري إلى وجهي، فأنا أيضا لم أؤذِ ذبابة في حياتي حتى يكتب علي هذه المعاناة!
لاحظت المرأة البدينة ذات الزي الأبيض، أن الفتاة، بدأت تبكي، لما شاهدت وسمعت، فأخرجت منشفة وردية تشع نقاء تفوح منها رائحة جميلة ونفضتها في الهواء، فتبخرت دموعها وشعرت بالسعادة ترفرف حولها. ثم سألتها: متى انتقلت إلينا؟
ملاك: أذكر بأنني أدليت بصوتي في يوم الانتخابات الأخيرة وأكلت مع أمي وأختي في أحد المطاعم، وفي الساعة الواحدة والنصف ليلا، ارتفعت حرارتي إلى 38,6، فأعطتني أمي الدواء وأعدت لي مغطس ماء لتخفف من حرارتي، ثم خلدت إلى النوم، وفي الساعة الرابعة فجرا، ارتفعت حرارتي مرّة أخرى ووصلت تقريبا 39,5، فأخذني أهلي إلى المستشفى، أخذوا لي صور أشعة، واتضح بأن لدي التهاب حاد في الرئتين.. عادة يكون مكوثي في المستشفى لمدة أسبوع، وبعدها أعود إلى البيت بطلب مني وليس من الأطباء. هذه المرة، لم تسعفني المضادات الحيوية، ذلك لأن مناعتي منخفضة. غلبني الفيروس ودخلت قسم العلاج المكثف وأوصلوني بالتنفس الاصطناعي. استعدت وعيي وأنا في العلاج المكثف. أوقفوا التنفس الاصطناعي، ونقلت إلى القسم العادي وبقيت يوما واحدا، ثم تدهور وضعي ورجعت إلى العلاج المكثف، فكليتاي توقفتا عن العمل وبدأوا يغسلون لي الكليتين، وبقيت عشرين يوما في العلاج المكثف.. كنت بحاجة إلى وجبات بلازما، كي يتغلب الجسم على الفيروس، وكثر أهل الخير من بلدنا وخارجها، ووقفوا موقفا مشرفا وتبرعوا لي بوجبات الدم، وتناولتها لمدة أسبوع، لكن الفيروس كان أقوى مني وأصبت بنزيف داخلي قوي.
وفيما استرسلت ملاك بالحديث، وقعت عيناها على الرجل المحروق الذي كشف عن وجهه، فانقطعت عن الحديث وارتاعت. فاقترب منها مرددا: لا تخافي، ستتعودين على شكلي، ولكنني لم أستطع أن أقف موقف الحياد وأنت تتكلمين بألم عن درجة حرارتك التي ترتفع، والتي ترديك طريحة الفراش. اسمعي عن حرارتي. أنا شابا بضعف عمرك ولكنني بلا عمل، دخلت أحد البيوت لأسرق بعض المال، فأمسك بي صاحب البيت. ربطني وأخوته من وسطي وعلقني في عريشة كرمه، وأضرم النار في كومة حطب تحتي، فاصطليت بالحرارة وذاب جلدي وتقلص عظمي ووقف لساني عن طلب الرحمة.. عن أية حرارة تتكلمين أيتها الفتاة. فأنا لم أؤذِ ذبابة في حياتي حتى ألاقي ما لقيت!
عاد المحروق إلى مقعده وألقى بصحيفته أرضا ونفضت المرأة البدينة- ذات الزي الأبيض- منشفتها ثانية في الهواء، فعادت السعادة إلى وجوه الحاضرين وواصلت الفتاة حديثها: حياتي مسافة تفيض بالتفاصيل المتعبة، والأمراض الثقيلة، وما بين هذا التوق لحياة الشباب وبين حالات البؤس، ينساب وجعُ جسدي وضمور روحي.. تمنيت الموت مرة واحدة بسبب الأوجاع الأليمة، وتساءلت ما الذنب الذي اقترفته؟! قضيت وقتي متنقلة بين المستشفيات. لكني بلغت راحتي في حفل زفافي!!
المرأة: كيف كان ذلك؟
ملاك: كان زفافي يوم الخميس ليلة الجمعة الساعة السابعة والنصف مساء. حينها قلت لابنة خالتي إنني سأنتعش، وهي لم تفهم إذا كان ذلك للأسوأ أم للأفضل.. توقفت دقات قلبي، فانتفضت وعادت دقات قلبي من الصفر حتى السبعين والثمانين. لو تعلمون كم أحب الحياة. قال الأطباء إنني أتعذب بسب النزيف الذي ملأ جسدي وسال دمي من أنفي وأذنيّ وفتحات جسدي. أخرجوا أمي من الغرفة وبقي أبي بجانبي. ثم سحب الطبيب الأنبوب من فمي.
***
نفضت المرأة ذات الرداء الأبيض منشفتها من جديد. ضغطت على كرة البلور بيدها، صفق الحاضرون لملاك تحية حارة. نظرت ملاك إلى الكرة البلورية، فرأت أمها تناديها: أنت معنا يا ابنتي عبر غرفتك وسريرك وخزانتك وملابسك وزينتك. ثلاثة وعشرون عاما وأنت أملنا وعملنا، والأفضل لدينا، ما زلت أخاف وأقلق عليك، أدخل إلى غرفتك لأتحسس جبينك خوفا من ارتفاع حرارتك.. هل يهتم بك غيري، كما اهتممت بك؟ أنا مطمئنة عليك وسامحيني إذا تأخرت عن مساعدتك بشيء ما، ولم أحقق لك أحلامك، وبأن تنامي آمنة خارج الزمن دون أن تكوني مضطرة للاستيقاظ وأن ترقدي دون أن تشعري ثانية بالبرد.
نفضت المرأة منشفتها من جديد، ثم قالت لملاك: حان وقت الطعام وعليك أن تتغذي جيدا وحين يصل وزنك إلى خمسين كغم سيتم زفافك الحقيقي.
***
اقترب من ملاك الشاب المنغمس في هاتفه النقال، أمسك بيدها وأدخلها عبر بوابة رقم ثلاثة.
www.deyaralnagab.com
|