"سفر الترحال":رصد التعايش الديني في مصر بتقنيات روائية وسردية متعددة!!
بقلم : سعاد العنزي* ... 05.04.2014
ثمة أعمال أدبية قادرة على اختراق واستلاب مشاعر متلقيها وتعاطفه مع شخوصها، وتحفيز عقله لفهم حياة موازية له، يقرأ عنها، ويتابع شخوصها بشكل مستمر، إلى أن ينتهي من قراءة العمل الأدبي، ويصل إلى مرحلة من القراء الواعية التركيبية لما تم تفكيكه في الرواية أثناء عملية السرد، لتصل لخلاصة رؤية الكاتب من عمله، هنا في النهاية سنكون بين كاتب فعلي، ونص متخيل وقارئ فعلي يقرأ النص، ويتعاطى العالم الذي تم رسمه من خلال الوسيط النص الروائي إلى قارئ مفترض، قد لا يقرأه، ولكن من يقرأه هو القارئ الفعلي الذي يستلم النص بين يديه.
قراءة رواية ‘سفر الترحال’، قراءة تودي بقارئها إلى بستان معرفي وإنساني جميل، ومثالي، وقبل الوصول إلى هذا البستان الذي يعيش فيه أفراد متصالحون، كان هناك طريق طويل من السعادة والشقاء، والراحة والتعب، وسلسلة من العقبات التي تهز قناعات المرء، وهو يحاول أن يمر بسلام وبأقل الخسائر حتى يصل إلى نهاية أكثر تصالحا مع الماضي، توافق بين ماآل إليه الفرد أو المجتمع، وبين ما صنعه المجتمع في طريق نموه وازدهاره، و الثمار التي جناها هذا المجتمع.. لن أتحدث عن هذا البستان إلا في نهاية القراءة، لكي لا أفقد القارئ متعة التلقي.. كل ما أستطيع قوله إننا أمام رواية فيها رائحة العمالقة من كتاب الأدب، بموضوع وتقنية متميزتان، وفيها قيمة تعبيرية عالية جدا، عن ذاكرة أجيال متعاقبة من المصرين تنقلت بهم الأهواء والموجات السياسية إلى مالا يشتهوون، وهذا لم يمنع فاعليتهم وحركيتهم التاريخية والثقافية في مصر.
في هذه القراءة سيتم الحديث عن كل من دلالة العنوان، والتعايش الديني بين المصريين، وتقنية الرواية السردية، وآلية تقديم الصوت السردي.
1ـ سفر الترحال عتبة لأسفار طويلة:
بما ان الرحيل والشتات المستمر كان تاريخيا سمة اليهود، قبل ماحدث لفلسطين، فإننا لابد أن نفهم ونحلل العنوان من خلال فهم دلالة الترحال في النص الروائي. من خلال العنوان ستتضح لنا بعض تفاصيل السرد في القصة بشكل عام التي تدور حول اسرة يهودية تعيش بمصر باستقرار الى أن يتم تكوين اسرائيل وحروب مصر معها مما اضطر الكثير من اليهود للرحيل إلى أوربا وأمريكا، وقليل يهاجر إلى اسرائيل.
في البحث في الدلالة المعجمية للعنوان، العنوان مكون من كلمتين : سفر أي الكتاب، أو الكتاب الكبير، وهو كما هو متعارف عليه دينيا ينسب لكتاب اليهود المقدس المقسم على أسفار متعددة. بحثت فيما إذا كان هناك اسم لسفر الترحال في أحد أسفار اليهود ولم أجد سوى سفر العدد الذي يتحدث عن ترحال اليهود لمدة أربعين عاما. إذن الدلالة الأولية للعنوان وفقا للمعجم اللغوي ومن دون الاطلاع على متن الرواية، هو كتاب السفر الكثير نسبة لكلمة ترحال.
عند قراءة الرواية، ومعرفة حالة السفر المستمرة في الرواية من مكان إلى آخر، بسبب ظروف اقتصادية، اجتماعية، وسياسية، فإن الرواية تكون قدمت لحالات كثيرة من السفر، المجبول عليه الانسان والمفروض عليه كرحيل مستمر، رحيل من الدنيا، لكثرة حالات الموت الطبيعي في الرواية، ورحيل في الحياة وذلك من خلال الظروف المتعددة للشخصيات التي تصفها الرواية.
وعند تحديد أنواع الترحال في الرواية، فإنه قد أتى لعدد من الأسباب والأشكال، كما يلي تبيانه:
السفر السياحي: وقد حدث بكثرة في الرواية، داخل مصر وخارجها، من بين القاهرة واسكندرية، بسبب زواج سارة، بطلة القصة، وكاتبة المذكرات من هارون المحامي، أو سياحة للخارج، وهذا الخارج كان متمثلا في فرنسا وإيطاليا، لزيارة الأبناء والأحفاد.
السفر للدراسة: حيث سافرت ناولة بنت سارة وهارون مع زوجها مراد للدراسة في فرنسا، بعد ذلك بعقود سافرت أمينة الساردة الرئيسية للقصة للدراسة، حفيدة سارة، وابنة ناولة.
السفر بدوافع العلاج: وهذا كان في سفر سارة إلى فرنسا عندما أصيبت بالزهايمر، وسفر هارون لأمريكا عندما أصيب بسرطان المعدة.
السفر بسبب الظروف الاقتصادية : حدث عندما سافرت اخت هارون لاتويا هي وزوجها إلى اسرائيل بسبب وضعهم الاقتصادي في مصر، وهي بالمناسبة يهودية. وسفر أصدقاء مراد زوج ناولة ابنة هارون، للعمل طلعت سافر للخليج، السعودية تحديدا، والوقاد إلى أمريكا للبحث عن فضاء اقتصادي جديد.
السفر شبه الإجباري: وكان هذا وقت عهد جمال عبدالناصر حيث تم التشدد على يهود مصر واعتبارهم خونة، وتقليص فرص التعايش السلمي والطبيعي في مصر، والقبض والتحقيق مع الكثير منهم، و مصادرة جزء كبير من أموالهم، وغني عن الذكر هذا كان بسبب حالة الحرب مع اسرائيل، وماترتب على ذلك من نتائج، إضافة على تورط بعض يهود مصر في مساهمة الصهونية في تأسيس اسرائيل، والتي لم يأت تفصيلها في الرواية فقط التلميح لها، ولكن تم تسليط الضوء عليها في روايات أخرى، من مثل رواية ‘سيناجوج’ الراصدة لتمثيل نظرة المصري اليهودي الأيديولوجي ضد العرب والمسلمين. وكما توضح رواية ‘سفر الترحال’ إن أغلبية من هاجروا كانوا يهاجرون إلى أوربا وأمريكا، وقليل منهم ذهب إلى اسرائيل، مثل سفر عم سارة واختها وزوج اختها إلى فرنسا والولايات المتحدة .
طبعا كثرة الترحال في الرواية تقابلها ثيمة هامة وهي البقاء والاستقرار، وهذا ما قام به كل هارون وسارة وأبو سارة حيث اختاروا الصمود والبقاء والدفاع عن حقهم في البقاء في مصر لأنهم مواطنون مصريون يرفضون أن يرتحلوا إلى اسرائيل على أساس هوية دينية، ومع التعددية الدينية والسياسية، وكانوا يعارضون تأسيس دولة اسرائيل لانتفاء منطقية الدولة، فكيف يتم انشاء دولة على أساس ديني، وأين الفكر التعددي.. فهذا البقاء والمقاومة هو المقابل الإيجابي لفكرة الرحيل، وهذا ما كان ثمره متضحا في نهاية الرواية، في نجاح هارون وسارة في التعايش في مصر والحفاظ على هويتهم الدينية.
فيما يخص العنونة، يلاحظ على إن الرواية لم تشمل عناوين فرعية للفصول، ولكنها عملت على تضمين بداية كل فصل من الفصول بآيات من القرآن الكريم، والأسفار اليهودية لها دلالات مهمة في قراءة الفصول، كأن تقدم سببا لما يحدث في الفصل إلى غيره من الدلالات المكثفة التي تفهم من خلال قراءة التناص، فعبر التناص الديني قدمت الرواية فكرة إن كل شيء قد كتب في النصوص الدينية، ومايحدث في الوضع الراهن ماهو إلا نتيجة التفسيرات الخاطئة، والانحراف عن المسار المرسوم للبشرية عبر النص الديني.
الرواية عرضت لأشكال عديدة من الترحال، لأسباب متعددة، كان أكثرها إيلاما السفر الاجباري من مصر بسبب الصراع مع اسرائيل، قابلته ثيمة الصمود والمقاومة الذي قامت به أسرة هارون .. بقاء أسرة الساردة في مصر على الرغم المضايقات المتزايدة لهم، أعطت السرد فرصة لعرض تفاصيل حياة الأقلية اليهودية بين أكثرية مسلمة..
ـ التعايش الديني بين الأديان الثلاثة في مصر:-
في الرواية، تم عرض تحول فكرة التعايش الديني في مصر خلال أكثر من ستين عاما، وكيف تحولت فكرة التعايش الديني من حقبة لحقبة تبعا للسياسة وليس لهوية الشعب.الحقيقية، فالشعب المصري متصالح مع ذاته، ومتجانس على الرغم من القرارات السياسية التي حاولت فلم تفلح التفريق بين أبنائه..
في البداية عرضت الرواية لكافة شرائح المجتمع من عدة طوائف، وبينت التمازج والتصالح بينهم و ومشاركتهم لبعضهم البعض تفاصيل حياتهم اليومية، وقدمت هذه في عديد من العلامات الدالة على ذلك.
فالعلامة الأولى كانت في طقوس في الفرح ومناسبات الأعراس إذ تم عرض زواج كل من اليهودي (ساره وهارون) والمسلم (زواج نوال ابنة العاملة) والمسيحي ميرفت، وكيف يؤدي كل فرد واجبه تجاه الآخر، من دون رؤيته على إنه من فئة أخرى ومختلفة عنه، أو معادية.
وقد أحسنت اللغة في وصف مشاعر الفرح للآخر وقوة التمازج بين هذه الطوائف، والنسيج المصري المتآلف وقتها بشكل كبير.
العلامة الثانية هو تعايش اليهود سارة وزوجها مع المسيحية مدربة الباليه الروسية والمسلمين أسرة مراد زوج ابنة هارون، تعايشت هذه الفئات الثلاثة في عمارة واحدة كأنها أسرة واحدة.
أما الثالثة فهي زواج المختلفين دينيا سواء بالدين نفسه أو المذهب، فبمنتصف الرواية تزوج مراد المسلم ابنة هارون اليهودي، رغم معارضة اهله وموافقتهم على مضض، كما تزوجت ابنة هارون الأخرى من مسيحي، وابنة مراد وناولة المسلمة المصرية السنية من ياسين اللبناني الشيعي..
لم تشأ الروائية أن تقول إن هذا التصاهر من الممكن حدوثه بسهولة، ولكنه يعاني معارضة من بعض التقليدين من أفراد هذه الطوائف. فمراد تزوج ناولة رغم عدم استحسان والديه، وكأن المسلم يحسن التعامل مع الآخر الديني بالأمور المعيشية العادية، ويعجز عن مصاهرته واختلاط نسبه بنسب الآخر اليهودي أو المسيحي رغم إنه ليس محرم، ولم ينجح الزواج، إلا بفضل تسامح كل من الطرفين المسلم، مراد، واليهودية ناولة وأسرتها.
على كل فعلى الرغم من إصرار أسرة هارون الليبرالي المتصالح والمتسامح والمتقبل للآخر على التسامح، فإن الشعب المصري في 2012م، كما بينت الساردة انه نبأ فيه تيار الإخوان المسلمين الذي يعتبرون اليهود كفارا، وكان هذا صوت نادية المصرية المقيمة في باريس التي تمجد الثقافة الفرنسية، وتهاجم يهود مصر، كمفارقة تحملها هذه المثقفة المنصهرة في الآخر والرافضة للعرب من بني جلدتها على أساس طائفي.
تقاطعت الرواية مع أحداث تاريخية كثيرة، من مثل بروز المد الناصري، والثورات السابقة له، وفترة جمال عبدالناصر، والسادات، ومبارك حتى الثورة، وانعكاس ذلك على الهوية المصرية بشكل عام واليهودية بشكل خاص كون الساردة مصرية تتحدث عن أسرة أبيها المسلمة وأسرة أمها اليهودية، فأمينة تعيش حالة من الهجنة الدينية جعلتها تتمنى أن تنتمي لإحدى الضفتين.
الرؤية العامة للرواية رؤية مثالية حول التصالح الديني والتعايش فيما بينهم، وهو أمر مثالي قد لا نقبله في الواقع قبل أن نقرأ الرواية .. فإن الرواية بعوالمها الإنسانية المتسامحة تغري على هذا النوع من التمازج بين ابناء الشعب الواحد على أساس الهوية الوطنية لا الدينية.. ولعل الرؤية العامة في الرواية تتضح في مواطن عديدة، من أهمها العودة إلى الوراء، وفهم ثقافة التقسيم وتفكيك الشعوب على أساس تقسيمات متفرقة تخدم سياسة واحدة تعتمد مبدأ فرق تسد:
‘في البداية ظهر تقسيم القوي والضعيف، انتحى الضعفاء بأنفسهم جانبا وذهب الأقوياء إلى الجانب الآخر.. ظهرت القبائل والعشائر فانقسم العالم ثانية.. ثم أصبح اللون أداة تقسيم ثالثة، وتبعه الدين فقسم المقسم أصلا وانقسم الدين بنفسه على نفسه إلى أكثر من شرعة وشيعة فازداد التفتت ليدور بنا دورة كاملة’. (الرواية، ص 540)
الرواية حاولت تطبيق النظرة المثالية والمفترضة في أصل الوجود من خلال ذكر تفاصيل التعايش بين الأديان فيما بين شخصيات الرواية متعددة الأديان، تحيل إلى عالم مثالي قابل للتطبيق. وتصلح لأن تدرس في الجامعات والمدارس، لأنها تبين أهمية التصالح الديني لصالح الفرد والدولة والمجتمع حيث تتحقق سعادة الفرد بتصالحه مع ذاته والآخرين..
ـ التقنية الروائية ابداع صاحبها:
تقنية الرواية في عملية سرد الحكاية أراها عاملا مميزا في الرواية، فهو أضاف الى جمالية الموضوع جمالية تقديمه.. وما أقصده من إن التقنية ابداع صاحبها، هي من تأليفه وابتكاره الخاص الذي يقدم من خلاله الرواية، مثلما قدم سعود السنعوسي في روايته ‘ساق البامبو’ تقنية مميزة في تقديم حكاية هوزيه عن طريق ترجمتها من الفلبيني إلى اللغة العربية، قدمت رواية سفر الترحال’ تقنية بديعة في عرض الحكاية. فالرواية مقسمة إلى متنين سرديين، أو حكاية داخل حكاية، الأولى في الزمن الحاضر وتسير وفق السرد المتساوق، اي يبدأ السرد مع الحكاية. والثانية هي الحكاية الرئيسية التي اخذت حيزا كبيرا من السرد، قدمت من خلال تقنية الاسترجاع، من خلال قراءة مذكرات جدة الساردة سارة بدءا من عام 1945 حتى عام2005م، بعدها تتوقف سارة عن تقديم مذكراتها المسجلة ليومياتها. والسبب في قراءة المذكرات، هو ان سارة وهي امرأة مسنة تصاب بالزهايمر بعد فقد زوجها هارون بعد وفاته، واقترح عليها الطبيب المعالج، أن تقرأ مذكراتها عسى أن تعود لها ذاكرتها.
حيث كانت المذكرات معادلا موضوعيا يستدعي الذاكرة ويستعيدها، وبالفعل قد تم تعافي الجدة في نهاية الرواية.. وهذا فسر لنا كقراء منطقية عرض هذه المذكرات .. وألغى الجانب الاعتباطي في الموضوع.
ـ تعدد الأصوات السردية وموضوعية السرد:-
الصوت السردي لم تهيمن عليه الساردة أمينة، بل تنوع بين مذكرات سارة، ودخول العديد من الشخصيات مثل: نيرفانا، مراد، ناولة في الرواية في المشاركة بالعملية السردية من خلال السرد متعدد الأصوات، أي البولفوني، الذي كان من أوائل من تحدث عنه باختين. وهو تقنية مستحدثة من الموسيقى، وتعدد الأصوات الموسيقية تهدف إلى استماع الأصوات المقموعة الأخرى كما يحدد ذلك ادوارد سعيد في مفهومه للقراءة الطباقية، التي تأخذ بعين الاعتبار جميع الأصوات في كتابتها لموضوع معية. وهو تقنية مابعد حداثية تحاول التشككيك بسلطة مركزية لسارد واحد للتاريخ، أو لحكاية مجموعة من الأفراد.
من الصعب، بهذه العجالة، الحديث عن تعدد الأصوات السردية في الرواية لكنه أسهم بتأكيد مصداقية مذكرات سارة، من جانب وأوضح زاوية الرؤية التي تنظر بها كل شخصية في الرواية من جانب آخر، ففي هذا الجانب كان الاختلاف والتعدد في تقديم تصورات الشخصيات للحياة مصدر غنى في الرواية، وكسر رتابة السرد.
ختاما:
الرواية، بالإضافة إلى تقنيتها المتفردة، فهي متميزة من ناحية الموضوع لأنها حفرت في حقبة مهمة ومفصلية من تاريخ العرب والمسلمين والمسيحيين، بالتطرق لحياة أسرة يهودية مصرية عاشت تقلبات السياسة المصرية بكافة أشكالها ورصدت لتحولات علاقة المسلمين باليهود في مصر من حيث الانسجام التام في الماضي إلى ماهو أشبه بالتنافر في المرحلة الحالية. هذه الأقلية اليهودية تعرضت لهزة قوية وفقا للتحولات السياسية منها من رحل عن مصر ولم يتحمل واختار اسهل الطرق، ومنهما من ناضل عن حقه في البقاء مثل أسرة سارة جدة الساردة أمينة، التي فضلت البقاء في مصر والدفاع عن حق المواطنة المصرية، ونجحوا في ذلك في نهاية الرواية التي كانت تحمل شهادة الأقلية اليهودية في مصر تكتسب مصداقيتها من كون مؤلفة الرواية من مسلمين مصر الذين تعالوا على الطائفية الضيقة من أجل إستعادة وإنعاش النسيج المصري التسامحي كما كان عهده وأفضل قبل اختراع وجود اسرائيل.
**فاطمة العريض، رواية ‘سفر الترحال’، دار الطناني، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م. *ناقدة وكاتبة كويتية
www.deyaralnagab.com
|