مِمَن؟
بقلم : ميسون أسدي ... 13.07.2014
-1-
تنفعل غادة بلا حدود أو سيطرة عندما تكتب شيئا جميلا أو تنشر لها قصيدة جديدة، فهي حسّاسة مثل معظم الشعراء ولكن حساسيتها مفرطة.. في آخر مرة صدر لها ديوان جديد، قررت أن تقدمه هدية لصديقها زياد وهو صديق قديم ويعتبر أعز الناس إلى قلبها، بصفته المطلع على إبداعها الشعري ومراجعته من ناحية لغوية قبل نشره أولا بأول..
-2-
اتصلت بزياد وطلبت منه أن يلتقيا في مقهى "الوجوه" ليحتسيا قهوة الصباح معا وتقدّم له ديوانها الجديد هدية.. عادةً لا تلتقي مع زياد إلا وقت الحاجة لضيق وقتها ووقته وقد اختارت ساعات الصباح حتى يكون عندها متسع من الوقت لتوزيع عددٍ من نسخ ديوانها الجديد على بعض الأشخاص المنتقين.
وصلا إلى المقهى معا في الوقت المحدد، وما أن طلبا القهوة وبدأت بالرشفة الأولى، حتى رنّ هاتفه، فأجاب زياد للمتصل وعلى وجهه تعبير خبيث لاهٍ: بعد دقائق معدودة سأوافيك!
تراقصت أمعاؤها داخلها، وقالت في نفسها: يا لك من أفّاق يا زياد، فقد التقيتك أكثر من عشرين مرّة حتى الآن، لشؤون عمل بحتة. ولكن في كل مرة نلتقي، كان يصلك نفس الاتصال. فتشعرني وكأنني امرأة تلاحقك وهذا لم افعله في حياتي منذ أن تخطيت سن الخامسة والعشرين. ترى، إذا كان زياد لا يريد أن يكون في صحبتي، فلماذا يلبي طلبي ويأتي، أليس خسارة أن يشغّل سيارته ويقودها من اجل تمضية خمس دقائق واحتساء فنجان قهوة على عجل. ثم إن تصرّفه هذا يربكني ويشعرني بالخجل، لماذا يتهرب مني هذا المعتوه، مليون رجل يتمنى مجالستي، ماذا دهاك يا زياد؟ أنت تعرف أنني إنسانة حساسة جدا وأعاني من عقدة رفض الآخرين لي، وإن أقل الإشارات أو الأحداث توقظ شعور الألم والإهمال داخلي، كيف تجرؤ يا زياد على هذا التصرف أمامي وعلانية؟!
كانت قد أحضرت له نسختين من ديوانها الجديد ونسختين أخريين لنفسها فهي تحب قراءة ما تكتب في المقهى عشرات المرات وتشعر بأنها تطلع عليه من جديد.
بعد عشر دقائق من صحبته، سألها مباشرة قبل أن يتركها بحشرجات مبهمة: أأحضرت نسختين لي ونسختين لابن أختي؟
عادة، لم تكن تفشّله بل تكرم عليه فهو يستأهل ولكن بسبب عقدة الرفض التي تعاني منها فقد بيّتت نيتها على شيء. قالت له وابتسامة خجلى على شفتها: نسختان لك فقط والنسختان الأخرين هما لي.
-3-
تأبط زياد الكتابين مفنوسا وتصنع ابتسامة لزجة، وسار في دربه ونسي أن يدفع ثمن قهوته أو أن يعرض على غادة دفع ثمن القهوة. انتابها حزن شديد! خاصة وأنها تسجل ما يحدث معها في دفتر يومياتها ودائما يعاود نفس التصرف، لذا باتت تراقب أقل الإشارات المتناقضة والمتوقعة في سلوك الغير، فتنفعل عاطفيا، ويقل اطمئنانها وكأنها كائن متروك ومهمل، لا يهتم بها أحد فتتألم بسهولة من الأحاسيس التي تشعر بها والآخرون حولها لا يرونها.
طلبت من النادل أن يحضر لها حساب القهوة وكان شابا في العشرينيات من عمره. قدمت له مئة شاقل وأعاد لها الباقي، فقررت أن تترك له شاقلين إكرامية، أدارت ظهرها لتغادر المقهى لكنها عادت أدراجها مسرعة وأضافت عشرة شواقل أخرى للنادل فهي ربما الزبون الأول في المقهى والشاب ما زال في بداية عمره وما ذنبه بما تشعر به وما يصيبها من حالة يأس، تأسفت من ذاتها كيف أساءت بتصرفها لهذا النادل، فما ذنبه.
-4-
عند ساعات الظهيرة، اتصلت غادة بأحد الكتاب الكبار المعروفين في المدينة وهو إنسان مخضرم ولد في ثلاثينيات القرن الماضي وقررت أن تهديه نسخة من ديوانها الجديد.. فشكرها الكاتب قائلا: لا استطيع لقاءك، يمكنك وضعه في صندوق بريدي؟
- لكنني أحب أن ألقاك وجها لوجه وهذا شرف عظيم لي.
- نعم أحب ذلك ولكن زوجتي أصيبت في حادث طرق، وأنا اليوم منغمس في قراءة كتاب جديد، فأنا أقرأ ببطء شديد، لذلك يمكنك تركه في صندوق بريدي رقم 51 في البناية رقم 3.
بعد أن ناورت وكرَّتْ وفرَّتْ لم تنجح غادة بلقائه، فأخذت تتمتم: "لاقيني ولا تغديني"، فأنت اكبر من والدي سنا، ماذا ستخسر لو زرتك في بيتك لخمس دقائق، ثم ما هو المحفز الذي يجبرني أن آخذ كتابي واضعه في صندوق بريدك؟!
عادت الترهات إلى روحها، صَحَتْ في داخلها عقدة الرفض والإهمال وزادت حساسيتها المتطرفة بما تعانيه من القصور العاطفي ووسواس الابتعاد عنها. باتت كثور هائج يخور. قالت لنفسها: لماذا لا أحظى بأي حب أو اهتمام من الآخرين كما افعل أنا معهم؟ عندها قررت إلا تذهب إليه ولا تهديه ديوانها..
تخبطت بينها وبين ذاتها، وقالت: لا يستأهل كاتبنا الكبير أن اذهب إلى بيته.. ولكن قبل المغيب، أخذت الكتاب ورمته في صندوق بريده، بحجة أن المسامح كريم.
لم يتصل الكاتب ليشكرها أو ليؤكد بأنه تسلم ديوانها الجديد. هدأها زوجها بأن هذا الكاتب المعروف هو شخص مستفز صلف مغلف بتهذيب طقوسي زائف. فقد كانت تظن أن الكُتَّاب هم "ضمائر الإنسانية"، لكنها عرفت منهم أوغادا كثيرين، فقررت أن لا تلتفت إلى احد منهم بعد اليوم.
-5-
كان لغادة موعدٌ مع زميلتها الرسامة- وهي أجنبية الأصل- في احد المقاهي التي يديرها زوجها وقد بذلت غادة الغالي والرخيص من أجل كسب صداقتها ولكنها لم تقابلها بنفس المعاملة فهي دائما تصدها كأنها لا تريد صداقتها، وكانت توعز ذلك إلى أنها أوروبية الأصل، حضورها بارد يكاد يكون بلا أحاسيس، بينما غادة عربية شرقية، كالنار المشتعلة في الهشيم، وعليها أن تقبلها بعللها كما هي. طلبت منها أن يجلسا معا على احدى طاولات المقهى لتدارس لوحات ديوانها القادم، فقالت الرسامة بصوت منزعج: أنا على عجلة من أمري..
- كيف يمكنني تصفح اللوحات وأنا أقف على قدميّ، فالأمر يتطلب التمهل والتأمل في اللوحات وإبداء الرأي.
اقتربت من احدى الطاولات. جلست على احد مقاعدها وبقيت الرسامة واقفة تنظر إليها بتعالٍ، ولم تجلس وكأن إبليس "فسا" في وجهها، شرحت لها عن اللوحات التي رسمتها، ولم تركز غادة بكلمة واحدة مما قالت.. أبدت بعض الملاحظات وهي تشعر بأنها متوعكة وبعد أن أنهت، قالت لها وهي تعرف الجواب مسبقا وعقدة الرفض تدق أذنيها: هل يمكننا احتساء فنجان قهوة معا.
- لا استطيع! عليّ أن اذهب إلى الدكان واشتري بعض أقلام التلوين!
مدت يدها وتناولت احد الكتب الموجودة على رف زبائن المقهى المتثاقفين وهم كُثر ومن رواد هذا المقهى الذي تمقته. لفّت ذيلها بين ساقيها وذهبت إلى احدى الزوايا في المقهى وفتحت الكتاب وبدأت تقرأ. لكنها لم تستوعب كلمة واحدة.
جمعت قواها وأغلقت كتابها وقررت أن تكون ذكية هذه المرة وأن لا تتصرف بتلقائية وعفوية كفلاحي بلدها من زمان، وقررت أن ترسل للرسامة رسالة خطية عبر هاتفها لتشعرها بأنها محرجة وتشعرها بالحنق والمهانة من تصرفها، وبعد التفكير والتدقيق كتبت لها: "هل أنت بخير؟ شعرت بأنك كنت منزعجة من أمر ما، وبدوت غير لطيفة.. هل كل شيء على ما يرام معك؟".
كانت سعيدة بضبط مشاعرها هذه المرة رغم حنقها وغضبها.. اتصلت بزوجها تشكو له ضيق أخلاق الناس مع العولمة الجديدة، حيث لم يبق بينهم بشر حقيقيون فالواحد يبخل على الآخر بعدة لحظات يبذلها في سبيله، وعن حظها العاثر على آخر الزمن.. في اكتساب الأصدقاء، وعن عدائها للجميع. كونها مهملة وضعها في موقف صعب وقواها الدفاعية تعبت وخارت. اجتاحتها نوبة البكاء، وأنهت الحديث مع زوجها عندما رأت شابا أصلع في الأربعينيات من عمره يستمع إلى شكواها، وحتى لا يستمع الأصلع لحديثها، أخذت ترسل لزوجها رسائل الكترونية تشتم بها الرسامة وأقسمت على أن لا تتحدث إليها بعد اليوم، وان لا تعمل معها مرة أخرى وأسهبت بالكتابة وشرح مساوئها وبخلها وخبثها، وشعورها بعقدة الرفض لانها رفضت صداقتها.
مع الأيام، بدأت تبحر في عالمها وتقول لنفسها: هل أنا مرفوضة لأن عندي عقدة الرفض من جيل صغير، فأي تصرف صغير ومسيء يؤذي مشاعري، وهل عقدة الإهمال هي ما تجعلني ابحث عن الإعجاب من قبل الآخرين بتجميع أدلة الجدارة والاستحقاق أو القيمة الشخصية الثابتة؟
بعد أن أشبعت غرورها، وارتاح بالها بالحديث الذاتي، أرادت الاستمتاع أكثر بقراءة رسالتها الخطية الذكية التي بعثت بها للرسامة سابقا عبر الهاتف، وهالها أنها اكتشفت بأن الرسائل الكتابية التي بعثت بها إلى زوجها تشتم وتلعن بها الرسامة الخبيثة، كانت قد بعثت بالخطأ إلى الرسامة نفسها. فضباب كلماتها في البحث عن حب نقي وصداقة متينة، وقع حجابًا ثقيلًا غشي عينيها والحزن السريع غم على صدرها، ورياح الرغبة العاتية بقيت تهاجمها حتى تكيل للآخرين الصاع صاعين على إهمالها، فباتت تستطيب سرادق العزاء والاكتفاء الذاتي في عمل منعزل في بيتها.
-6-
نفض الكلام منها، زمت وانتفضت في مقعدها، عادت إلى بيتها لاهية منكسرة، وأقسمت أن لا ترسل رسائل مكتوبة بعد، عبر هاتفها لأحد، وأن لا تبحث عن الحب بين الأصدقاء بعد اليوم. نظرت إلى كتاب المقهى الذي بين يديها. دسّته في حقيبتها وسارت على مهل تبحث عن أصل المشكلة وسؤال يلح عليها: "مِمَّنْ؟" هل أنا هي السبب، أم الآخرون؟
www.deyaralnagab.com
|