logo
قراءة في رواية «تنزروفت» للجزائري عبد القادر ضيف الله!!
بقلم : الجيلاني شرادة ... 16.03.2015

صحراء «تنزروفت» أو أرض العطش والموت في الربع الخالي الجزائري بجنوبه الغربي، ذلكم هو هاجس «بوتخيل» بطل الرواية في محيطها الصحراوي مع مجموعة من شبابها، أولئك الذين تقطعت بهم السبل وتملكهم التيه؛ نتيجة مخططات سياسات فاشلة وتهميش عشوائي أرعن لجغرافية هذه المناطق التي قدمت الكثير – عبر تاريخها الضارب في الأصالة – لسيادة هذا الوطن ومناعته – قديما وحديثا- مُجنَّدة كلما دعاها الواجب إلى ذلك.
هذا ما نستشِفُّه من مغزى رواية «تنزروفت.. بحثا على الظل» للكاتب عبد القادر ضيف الله، وهي الرواية الصادرة حديثا والواقعة في 246 صفحة. مقسمة إلى فصول بداية بالفصل «صفر» ونهاية بالفصل «في البدء»، مرورا بثلاثة عشر فصلا مرقما بينهما، وواضح أن الكاتب قصد ربط النهاية بالبداية، لتجري الأحداث بشكل دائري، كما لو كانت حياة هؤلاء الأبطال الذين يتحركون في دائرة الفراغ الذي يقتل أوقاتهم ويبدد أحلامهم.
الفشل، اليأس، الكبت، القنوط، ضربات قاسية موجهة لمصائر هؤلاء الشباب الذين يحركون أحداث الرواية. سعى الكاتب إلى تعليق مجرى هذه الأحداث على خيط عاطفي متميز يجمع بين البطل «بوتخيل» والبطلة «آسيا»، وعلى الرغم من قوة وتدفق هذا الرابط الرومانسي الحالم، إلا أن هناك ما ينخره من الداخل ويسعى إلى إجهاضه. والخيط الإيجابي في القصة هو بريق الأمل وهو كذلك الرفض والثورة على هذا الواقع المُكرَّس، فالبطل «بوتخيل» مع من معه من الشباب المثقف يطلقون رصاص الرفض في اتجاه كل السياسات الفاشلة، وفي وجه كل السياسيين النَّهمين الذين يستبيحون حقوقهم، معلنين موقفهم الثوري إزاء الاستغلال السيئ لمنطقتهم، إلى جانب مظاهر الفساد والاستغلال الفاحش للسلطة وتهميش الكفاءات وأصحاب الحقوق في هذه المناطق الجنوبية..
يحاكم الكاتب، من خلال بطله «بوتخيل»، التاريخ، كما يحاكم الواقع السياسي، مثلما يثور على التقاليد والخرافات التي كرست الخنوع والاستسلام، ففي الرواية بُعد تاريخي يحتكم إليه الكاتب ويبحث فيه عن جذور ما يحدث في الحاضر، وفي الرواية احتجاجات سياسية يكشف فيها الكاتب فشل البرامج التنموية الصورية المحسوبة على هذه المناطق، ويعرج الكاتب على طموح الشباب في العيش الكريم؛ حلمهم المشروع الذي يصطدم كذلك ببطش المسؤولين السياسيين، الذين يمثلهم «المير الأحدب»، لتنتهي أحلام بعض الشباب في قارب مجنون يرمي جُثثهُ على شاطئ مدينة وهران.
وظف الكاتب بشكل عابر الثورة التحريرية وما قدمت لهذا الوطن، وانتقد بعض قياداتها التي حادت على خط الشهداء «.. جرح الشهداء الذي لا يلتئم، بدأ في قبورهم بعدما حرفت وصاياهم وخرجت ثورتهم عن مسارها الصحيح» (ص 92). كما وقف الكاتب على الأحداث الدامية للعشرية السوداء من خلال فقد بطليه (المشري) و (وبومجان) لأسرتيهما حيث لعب بهما سلاح الإرهاب في ليلة من ليال الغدر الذي مس الكثير من أبناء هذا الوطن. وربط الكاتب بين ذلك وبين بعض الفتاوى (التاريخية) التي بها غُلـوٌّ، بما فيها فتوى الشيخ التلمساني التي قضت بطرد اليهود من منطقة تمنطيط، «.. أكبر خطأ ارتكبه التلمساني الذي ورث قسوة غُلوِّهِ لأولئك الذين أفتوا بقتل شعب بأكمله» (ص 76).
وفي الرواية دعوة للتسامح الإنساني والديني، نلمسه في هذا الموقف. لامست رواية «تنزروفت» العديد من القضايا والإشكالات، وكأني بالكاتب أراد أن يفرغ كيس الحقائق المختلفة التي تزعج الجيل الجديد، هذا الجيل الذي فتح عينيه على وقع الإرهاب من جهة، وعلى السياسات التلفيقية و الترقيعية الفاشلة من جهة أخرى، فهذا صوت البطل وهو يقلب الطاولة على بعض الساسة الذين هربوا من الشمال خوفا من الإرهاب: «الساسة الهاربون من الموت في الشمال بعد أن سطو على كل شيء في غفلة الوطن وتركونا.. في عراء الصمت نتوسل الوقت الضائع من مقهى إلى آخر» (ص61).
وهو موضوع جديد تعرض له الرواية بكل جرأة، ويؤكده «بوتخيل» في قوله: «صارت البلاد اليوم معروضة للبيع لكل قوادي الشمال وللقوادين القادمين من وراء البحر والصحراء، بعد أن سقطت كل المعاقل التي كان «بوخروبة» يستمد منها ثورته في العالم» (ص67). مثلما عرضت الرواية لعديد المواضيع في الداخل والخارج، كموضوع العولمة، والسياسة الأمريكية في المنطقة وعلاقتها بأصحاب العمائم والدولارات الخضراء (ص67). كما عرضت للعلاقة بين اليهود والصهاينة ونجاتهم من محرقة الإسبان ومحاكم تفتيشها» (ص77). ومن الأساطير الشعبية المحلية، عرضت الرواية لحكاية «مروشة» (الجنية) التي عشقت «الشلالي» الهارب بدمه (المُهْدَر) إلى عمق الصحراء، حيث انقطعت أخباره ولم يعد يصل منه إلا أغنية (لزرق اسْعَاني) المعروفة..
هذه بعض التيمات المُلحَّة وذات الوقع القوي في رواية «تنزروفت»، إذ من الصعب الوقوف على كل القضايا المطروحة في هذه الرواية، خاصة أن الكاتب أسند أحداثها إلى دعائم أساسية ثرية ومهمة، يمكن تلخيصها في ثلاث محاور: التاريخ كمرجع ومسند أساسي، الثورة التحريرية، خاصة وجهها المُهرَّب، الواقع السياسي والاجتماعي بما يحمله من انزلاقات أمنية وفساد إداري وما إلى ذلك.
صاغ الكاتب روايته هذه في أسلوب لغوي جميل يحسب للكاتب عبد القادر ضيف الله، وهو الذي استفاد من تجربته السابقة في كتابة القصة القصيرة، ليُطوِّر أسلوبه القصصي تماشيا وأسلوب الرواية الجديدة، ذلك الذي يلامس الشاعرية ويرتقي على التقليد النمطي للأساليب المتداولة، وقبل التفصيل في الأسلوب ينبغي الإشارة إلى الطريقة الفنية التي عرض بها الكاتب أحداث روايته، فإلى جانب الطريقة الدائرية لعرض الرواية، التي ذكرناها سابقا، فهناك ما يمكن تسميته؛ بالعرض الأفقي للأحداث، حيث اختار الكاتب لذلك منطلقات ثابتة أسس لها مكانيا كمنهل لانطلاق الأحداث، نذكر منها؛ المقهى الشعبي ـ المؤسسة التي يعمل فيها البطل ـ وبيت بوتخيل وأسرته، إضافة إلى الفلاش باك الذي يستعمله البطل كل مرة، خاصة عندما يربط العلاقة مع البطلة آسيا أو مع نقيضها (المُعارضة) أمه، أو عندما يعود إلى الماضي (المسند التاريخي) فهذه المحطات هي منطلقات تتداول على تدفق الأحداث، ينتقل فيها البطل (الراوي) بالتناوب، وما يلاحظ على الكاتب أنه كثيرا ما يوقف السرد الحدثي الجزئي في منتصفه، لينتقل إلى محطة أخرى وحدث آخر وهكذا، مما يُحدث ما يشبه التقطعات السردية غير المكتملة، وتتداخل مع الفلاشات الجاهزة عند البطل (السرد العاطفي) مع توظيف التذكير بالأحداث كل مرة، وهو ما يشبه التكرار في السرد؛ ذلك الذي يحدث عند العودة إلى الأحداث المسرودة سابقا؛ عند التناوب الأفقي المذكور، إذ يشعر القارئ أحيانا بالرتابة وعدم انطلاق الأحداث بالشكل الفني المطلوب. أما السرد «العمودي» الذي نقصد به عملية تصاعد خيط سردي ما، بطريقة متنامية ومستقلة، فقلما يوظفه الكاتب ويمكن أن نلمسه ـ مثلا ـ عندما تسرد البطلة «آسيا» للبطل «بوتخيل» بداية ونهاية علاقتها بالأستاذ الفلسطيني، بداية بدراستها عنده وتعلقها به إلى الحمل منه والسفر إلى الخليج ثم الحياة الجديدة هناك ، العمل، العلاقات الإدارية والأمنية، ثم العودة إلى نقطة البداية ونهاية هذه العلاقة المغشوشة، حيث عرض الكاتب هذه الأحداث، بتدفق متواصل، وبأسلوب سردي جميل، كما لو كانت قصة مستقلة بحد ذاتها، نظرا لعدم تقطع أحداثها أو لعدم التناوب السردي فيها. كما نسجل ـ من جانب فني آخر ـ إتقان الكاتب في اختيار أبطاله، خاصة في دقة إطلاق تسمياتها، فهي من جهة مأخوذة من البيئة الاجتماعية المحلية، ومن جهة ثانية فهي موحية بتركيب الشخصية وموقعها الاجتماعي، مثل تسميات: (بحوص، بوتخيل، النوار، مسعودي، أم قرين، مروشة…) مع ملاحظة أن هناك أبطالا تعمَّد الكاتب عدم تسميتهم، وهناك من أطلق عليهم كنية تتماشى وصفة خِلْقِية فيهم مثل: (الأحدب، الطاعن في السن، بوعكاز..) مع ملاحظة أن إهمال التسميات – وهي ظاهرة روائية جديدة – ليس اختيارا صائبا دائما، فقد يختلط الأمر على القارئ، خاصة عندما تكون الشخصيات؛ التي لا تحمل أسماء، متقاربة؛ وكمثال على ذلك؛ زوج أم البطل بوتخيل، وأبوه الحقيقي في ما بعد، وعلاقة كل واحد منهما بأمه.
وبالعودة إلى أسلوب الرواية، يمكن التأكيد على أنه كان نقطة القوة الأساسية في هذا العمل الإبداعي المتميز، إذ استطاع الكاتب بتمكُّنِه أن يتصفح أوجه اللغة، ويُسخِّر مفرداتها في تراكيب موحية ومعبرة فيها تجديد وظلال شاعرية تشد القارئ لينساب خلفها مستمتعا، مع خصوصيات يمكن الوقوف عند بعضها. فالكاتب يستعمل العامية بطريقة طَـيِّعة ويوظفها مقبولة موحية كقوله، يحث من معه: «..اجْرِ معايا يا بوقلب» (ص24). وهي تعابير مألوفة شعبيا، ومنها كذلك؛ أول جملة افتتح بها الكاتب روايته: «باش ما انفوتكش بالحديث سيدتي»(ص05) كما قد يزج الكاتب ببعض الألفاظ غير الفصيحة في جمل فصيحة، كقوله: «التي رفعتها من صَاكِك اليدوي» (ص09)، إضافة إلى استعمال الحوار بالعامية، بما فيها العامية الفلسطينية على لسان أحد أبطاله (الفلسطيني). كما لاحظنا بعد الاقتباسات من التراث العربي أو من القرآن الكريم كقوله: «فتمثل لي طيفك بشرا سويا»(ص32). وكذلك قوله: «تَزَّاورين عن قبلتي ذات اليمين وذات الشمال وقلبك باسط ذراعيه» (ص39).
ولم يغفل الكاتب عن توظيف التراث العربي، خاصة الفني منه والغنائي بصورة خاصة؛ انطلاقا من أغاني «الراي» وصولا إلى «أم كلثوم»، وهي لمسات فنية خاصة تعكس أسلوب الكاتب ومرجعياته الفنية، كما نسجل هنا ملاحظة لغوية مُلحَّة يمكن أن يلاحظها القارئ بقوة، والمتمثلة في جرأة الكاتب على استعمال بعض المصطلحات أو التسميات الجنسية كما هي، يستعيرها الكاتب في حالات الغضب والثورة، كما يطلق مسمياتها في الحالات السردية العادية..
وفي الأخير نؤكد على جمالية أسلوب الرواية، وعلى معالجتها الثورية للواقع الجزائري، وعلى تعدد التيمات بتعدد الرسائل التي تحملها الرواية، كما نؤكد بأنه من الصعب الوقوف على كل الجوانب الفنية المختلفة لهذه الرواية، نظرا لثرائها الفني وعمقها الدلالي والاجتماعي وخلفياتها التاريخية، وهي المحاور التي تتطلب وقفة خاصة لكل منها. كما نشير إلى أن هذا النص الإبداعي هو بالتأكيد صوت روائي شبابي يقرأ الواقع الاجتماعي، وكذا الفني، بلغة جديدة، ويُحَلله بنظرة الجيل الجديد، الجيل الذي أراد رواية جديدة، شكلا ومحتوى.

كاتب جزائري

www.deyaralnagab.com