رواية «موسم الحوريات» لجمال ناجي: الظاهرة…أو التفسير بوعي آخر!!
بقلم : رامي أبو شهاب ... 13.03.2016
مع طي الصفحات الأخيرة من رواية « موسم الحوريات» للروائي جمال ناجي الصادرة عن دار بلومز بري قطر 2015. نستنتج أن ثمة أقداراً تُصاغ من لدن قوى فوقية، أو عليا، غير أن المفهوم الفوقي لا يتصل بالقدر الإلهي، إنما بالإحالة إلى نظام طبقي وسياسي واجتماعي يصوغ مصائر البشر؛ ولذلك، فإنه يحتكم إلى مصالح ومقتضيات لا يمكن لها أن تترك بدون تخطيط مسبق.
هكذا نتقاطع مع رواية «موسم الحوريات» عبر بنية روائية تتكئ على تقييم الحدث، كما الحبكة، مع ابتعاد واضح عن التأمل القائم على الاستبطان الشعوري للشخصيات، ورسم ملامحها، فالشخصيات في المراكز الداخلية للسرد منزوعة التأثير، كونها ترتهن لمبدأ الحدث حسب التوصيف الكلاسيكي الأرسطي، الذي يجعل من الشخصية تابعة للحدث، فالشخصيات في بنيتها السردية لا تخضع للتكوين الشعوري المعمق القائم على بيان وجهة نظر كلية تجاه العالم والذات، إنها فقط تخضع لمنطق الحدث، وقوى البناء السردي المحكوم بمنظور الراوي غير المعاين. وهكذا، فلا جرم أن تنهض الرواية على تعدد الأصوات السردية، وهذا ما يحملنا إلى التسليم بأن جمال ناجي أراد أن يحيّد الراوي العليم الكلي كي يترك شخصياته تحتفي بنقل وقائع العمل عبر أصواتها، أو منظورها الخاص- أو هكذا يخيل لنا.
ولعل أشد ما يميز هذه الرواية تلك القدرات السردية على سياسة العمل برمته، بدون الاحتكام لناظم سردي قوامه شخصية تنهض بفعل الحكي، إنما الناظم حقيقة بنية اجتماعية لا مرئية تتخلل كل شيء، فالرواية في صنعتها ما هي إلا انعكاس لمضمون الحكاية، فالتمركز السردي غير وارد، إذ ليس هنالك من مركز سردي يتحكم في خيوط الأحداث، إنما الأحداث تحتكم إلى أفعال الشخصيات، وردود أفعالها، ومع ذلك فثمة دوماً من يحوك، ويقود كل شيء، إنه النسق الخفي، ذلك النسق المتواري عن الأنظار، وتسويغ ذلك بأن العمل يهدف في المقام الأول إلى مناقشة سياقات تبلور الجماعات الإرهابية، وما يحتمله هذا الوجود الطارئ والمباغت من تحولات باتت تطال بنى المجتمع، والواقع الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط حيث تنشط السماء ومعها الموت، ولاسيما في السنوات الأخيرة، كما تحدثنا الرواية.
من أجل فهم الرواية والقدرة على تحليلها، لا بد لنا من أن ننساق إلى نموذج تحليلي، يحتكم إلى توصيف وبيان الحبكة، وأحداثها، فضلاً عن تموضع الشخصيات، ومنها شخصية فواز الشرداح أو فواز باشا، وبعبارة أخرى، الفقير الذي أصبح غنياً بعد أن تزوج ابنة أحد المتنفذين من رجال الأعمال، أي الباشا الكبير، أو «نايف شحادة»، الذي لا نواجهه كثيرا في العمل، كما أننا لا نتعثر بكلماته إلا بمقدار محدد، ولعل ذلك يتصل بمقتضيات الحرفة السردية المدروسة بعناية، فأي خطابات زائدة يمكن أن تفسد هيكلية العمل. «نايف شحادة» الذي يبدو إحالة إلى توجيه الحدث، أو القوى المتوارية، وبدأ من تحويل الفقير فواز الشرداح إلى رجل أعمال، وبذلك أصبح «فواز الشرداح» باشا، غير أن عالمه يتقوض بعد قدوم مفاجأة عيد ميلاده، وتتمثل بعرافة تدعى «عروب « التي تحدث الأثر الأول في دفع عجلة القدر، حيث تتنبأ بأن فواز سوف يُقتل على يد ابنه، على الرغم من عدم وجود ابن له، فكما نعلم فإن فواز باشا لم ينجب ولداً من زوجته أي «ابنة نايف شحادة»، ومن هنا تبدأ رحلة فواز، ومدير مكتبه أو مساعده الأمين «ساري أبو أمينة» لتغيير القدر، ما يقودنا إلى الطبقة الثانية من الحكاية، ففواز باشا قبل ثلاثين عاماً أقام علاقة مع موظفة في إحدى شركاته خلال رحلة إلى باريس، تعود الموظفة حاملاً بطفل غير شرعي، ما يدفعها إلى إخفاء حملها، والمسارعة في الزواج من رجل بسيط بغية التخلص من تبعات علاقتها مع فواز، الذي تخلى عنها بعد العودة من باريس. تمضي السنون، وينسب الطفل إلى الزوج البسيط الذي يتحول بعد فترة إلى الالتزام الديني، مما يؤثر لاحقاً على نهج ابنه غير البيولوجي «وليد» الذي يصبح مجاهداً في أفغانستان، ثم يتحول إلى سوريا.
يتتبع فواز وساري الابن لقتله في أفغانستان، ومن ثم في سوريا، غير أنهم يفشلون، بل أن الشخص المكلف بقتل وليد، ينتقم من أسياده «فواز وساري» عبر تفجير السيارة التي كانت تقلهما. وإذا كانت الحبكة قد انتهت عبر عدد من الأحداث، تتمثل بإصابات بالغة لكل من فواز وساري، وموت وليد في سوريا بعد أن يكون قد علم بأنه ابن غير شرعي بواسطة رسالة يرسلها والده غير الحقيقي، أو الزوج المخدوع الذي تمكن بدوره من معرفة الحقيقة نتيجة اتصاله بمحض الصدفة ـ أو بتقدير مسبق بالمدير، أو كما ينعت «القنفذ»، الذي كان يعمل مديراً لأم وليد أو منتهى الراية، أثناء عملها في شركة فواز باشا، وعلى الرغم من أن الأخير كان يعتقد أنه يتحكم بكل شيء، غير أن والد زوجته «نايف شحادة» هو من كان يصمم اللعبة، وهو من حرك الأقدار التي بدأت مع وصول العرافة عروب، التي أفضت بسر وجود الابن الذي يسعى لقتل الأب، ورغم التنافذ النصي بين هذه الجزئية وعقدة أوديب، والقيمة التنبؤية غير أن العمل يتحدد، أو يتميز عبر تطبيق قراءة مغايرة، تتصل بتفسير ظاهرة الإرهاب، فالقيمة الجمالية للفعل السردي، تنهض على تكوين القدر وفهمه والتحكم به، فالرواية تدفعنا للتساؤل حول فهم القدر، ومسلكه فسعي فواز لتغيير القدر، قد أفضى إلى تفعيله، وهنا نتصل بقراءة جدلية عميقة، فيما يتصل بهذه الجزئية، وهذا ما يحفّز التساؤلات حول القدر الذي بدأ مع عروب العرافة، ووصولها إلى فواز، وتلك النبوءة، وما كان في ما بعد من فعل فواز لتغيير مسار القدر. لا شك في أن كافة هذه التساؤلات تتكشف حين نعلم أن عروب كانت من فعل «نايف شحادة» رجل الأعمال المتواري في الظل… وربما كان هو القوى الأكثر فاعلية في الرواية، ومنطقها الحدثي لكونه من العظماء والأثرياء: «إن حياتك وموتك ملك لمن يتأثرون بك، فإذا خرجت حياة من هم مثلك من دورة القدر، فإن السلسلة كلها قد تصاب بالعطب، وقد يختل النظام ويصير كوننا لا ضوابط».
إن أي قراءة تتصل بنسق تأويلي للنص، لا بد أن تحتفي بشيء من المخاطرة، أو المغامرة، فدلالات الأعلام أو « الأسماء» ومن ذلك اسم فواز الذي فارق الفوز، وبذلك فقد انتهك الاسم دلاليا، بل تحقق العقاب نتيجة استغلاله لموظفة بسيطة تنتمي إلى الطبقة الدنيا، وقام بإغوائها في باريس، وتخلى عنها، لتنجب طفلاً غير شرعي تحول في ما بعد إلى قائد في جبهات القتل في سوريا وأفغانستان، بل أضحى هذا الشاب رمزا قيادياً، ونموذجاً لتطبيق الشرع، والدين، وهنا تكمن المفارقة، بأبرز تجلياتها في توصيف التكوينات المؤسسة لهذه الظاهرة باعتبارها وليدة سياقات معينة.
في حين أن الأم» منتهى الراية» ما هي إلا امرأة من الطبقة الدنيا، أو «الأم» التي أنجبت الرايات السوداء ضمن قراءة تأويلية، إن القراءة ضمن النظام السردي للعمل برمته يحيل إلى نموذج، أو ظاهرة لتفسير نشأة الجماعات الإرهابية، وأحد أبرز دعائمه المكون الطبقي، كما الظلم انعدام الإنسانية فضلاً عن أنماط من الاستغلال، ومنه أن فواز وساري ساعده الأيمن، يستغلان حاجة ضرار الغوري – الجهادي السابق – للمال عبر تكليفه بقتل وليد، كما أن فواز باشا الذي نشأ فقيراً، والذي ارتقى عبر زواج مدروس إلى أن أصبح من كبار رجال الأعمال هو نموذج للفعل الوصولي، المحتكم إلى مبدأ المادة، وتقديم الذات، إنه نموذج الفقير الذي استغنى، وهكذا فإن وليد «الابن غير الشرعي» ما هو إلا نتاج مجتمعي، أو فعل خطيئة، ثمرة طبقية اجتماعية لمكونين متناقضين، يقومان على استغلال متبادل، فضلا عن كونه نشوءاً غير متوازن، كما أنه فعل استغلال متسلسل، فواز (الأب) استغل زواجه من ابنة رجل ثري «نايف شحادة» كي يرتقي اقتصادياً، كما أنه استغل الأم الفقيرة» منتهى الراية» لإشباع نزوة عابرة، والأم «منتهى» استغلت بدورها رجلاً بسيطاً لتنسب له ابناً غير شرعي، والزوج المخدوع يستغل ابنه غير الشرعي ليرسله إلى ساحات القتال، والجهاد، ولكي يحقق انتقامه من منتهى الراية وفواز- وهذا يتضح من خلال الرسالة التي أرسلت لوليد في سوريا من والده غير البيولوجي، حيث تكشف حقيقة الأمر برمته- ومع ذلك فإن دهاء السرد يكمن عبر الإشارات المضمرة لإعادة مركز الحدث، وخيوط القدر، وربطها بشخصية رجل الأعمال المتنفذ جدا أي « نايف شحادة»، وهو مما يعني أن ثمة تفسيراً لكل ما حدث من انهيارات لعالم فواز باشا.
هذا الانتقام الذي بدأ من رؤية العرافة، وبوساطة « والد الزوجة» كانت أدواته شخوصاً من العالم الأدنى، أو الطبقة الفقيرة التي تشربت خطابات افتعلها جمال ناجي عبر تقنية تعدد الأصوات، وهي التقنية السردية التي تنهض على حوارات تنتمي إلى حقول دلالية اجتماعية- دينية- ثقافية- اقتصادية، فمستويات الخطاب اللغوي قد حملت ذاكرة، أو خطابات أخرى، وهنا تكمن القيمة التعبيرية لأطقم لغوية فاعلة حسب منظور باختين في تكريس وعي شخوص أخذوا على عاتقهم تضمين رؤيتهم لعوالمهم فقط، لا العالم المطلق، أو المثال، وهي تنهض على إيمان راسخ بأن فعلها ما هو إلا أنساق من الجهاد، ونصرة الدين، وتحقيق العدالة المفقودة، كما تكريس الشرع بوصفه خلاصا لعذابات الإنسان، واستعادة متخيل موروث، بالإضافة إلى مقاومة، وهيمنة قوى عليا مجتمعية تتحكم بمصائر البشر مما تسبب بإفراز هذه التشوهات المجتمعية، وإطلاق نشاط السماء، حيث يحوم الموت فوق منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يدفعنا للقول بأن جمال ناجي لم يرغب في تقديم تفسيرات للظاهرة عبر استخدام أطقم من الحوارات الفلسفية، والفكرية، والاستغراق في خطابات أيديولوجية، إنما أراد أن يصف الظاهرة عبر نسقها الذي تشكل ظرفياً عبر منظور كل شخصية، وفعلها، والأهم فعل الحياة. وهكذا فإن العبارات المتلفظة عبر كل شخصية ومنهم «وليد»، أو باسمه الجديد «شرحبيل» كما ضرار الغوري، وأبو حذيفة ما هي إلا منظورات اجتماعية سياسية تحتكم إلى فضاءات وخطابات تمارس نشر وعي ما.
إن الرواية لا تحتكم إلى مبدأ الحقيقة، أو رفض هذه المتلفظات السردية بمقدار ما هي منظومات تتصارع، وتتموضع في السياق الذي نتجت عنه، فيه، واحتكمت إليه، إنها تلك المنظورات التي تنتشر في المتن السردي، وتمارس خطابات حوارية، أو نموذجا كرنفالياً كما يقول ميخائيل باختين، وهذا مما يفسر تلك المساحة البيضاء، أو الخلو الواضح من التدخلات السردية حيث يتوارى الراوي من مشهد الحكي، كما الحكم على الفعل، وردة الفعل الذي يترك للقارئ، وقدرته على تأمل الوقائع.
إن «موسم الحوريات» كما يتبدى من عنوان الرواية، يحيل دلالياً إلى «الحديقة» في بيت رجل الأعمال فواز باشا، فثمة تماثيل لحوريات تصطف، وهي تخرج الماء من كفيها، إن مركز النتائج، والمصائر، وكل تلك الخطابات تعني أن هنالك مصدراً لإنتاج تلك الخطابات التي تتصل بموسم الجهاد المتصل بمتخيل موروث، سلفي، أنماط من الاستعادة لمرويات دينية معينة، بهدف توظيفها، فالملاحظ أن الرواية تحتفي بمبدأ قوامه أن هذه الظاهرة ما هي إلا نسق عابر، سوف يمضي… ربما يطول، وربما يصل بنا إلى حدود النهاية، غير أنه يبقى موسمياً، سوف ينقضي يوماً ما، غير أن من يكمن خلفه ربما يحيلنا إلى جهة ما… قوى… مصالح ……. أعداء… مؤامرات… تسببت بإفراز الظاهرة … أي موسم الهجرة إلى الحوريات، ولكن من يعلم؟ فربما يكون هذا تفسيراً خاطئاً، فثمة دوماً قوى كبرى تتوارى عن الأنظار..! كاتب فلسطيني – أردني
www.deyaralnagab.com
|