قراءة أولى في ديوان “أرتّب..الفوضى”.. للشاعر التونسي الهادي العثماني!!
بقلم : محمد المحسن* ... 10.08.2016
القصيدة تكتب شاعرها..موريس بلانشو
“أرتّب..الفوضى”إبحار في سراديب الذات،ومصباح في زجاجة من الأرق والألم،والقلق،والسؤال،إنّه ايغال في واقعنا الحاضر لا يملأه إلا الفضاء،وهو أيضا بحث عن دفء الرغبة في ظل سكون،وصمت،رهيبين يقلان صخب الرعشة والحلم.
تطلّ علينا هذه النفس المتشظية والهادرة من عتبة هذا المجموع الشعري،وعتبته عنوانه،وعنوانه يؤجج الإحساس فينا بوجع صاخب يهجع خلف الشغاف..إنّ صيغة عنوان هذه القراءة النقدية لنصوص هذه التجربة الشعرية،مستوحاة في جوهرها ممّا تتأسّس علي تلك النصوص الشعرية من مرجعيات كتابة وأسئلة متن ومستويات كلام تُسهم مجتمعة في تشكيل الكون الشعري وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية.فالذاكرة حاضرة بكثافة في تشكيل مُجمل نصوص هذا العمل الشعري..نصوص تستعيد الذاكرة أفق خلاص من حرائق الراهن،ترتحل عبرها إلى زمن ماض يبدو أرحم وأرحب..هي ذاكرة فرد:الذات الشاعر،وهي ذاكرة جمع:مجتمعة،وهي ذاكرة الإنسان:الإنسانية…فالشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة،ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق..ويبقى الشعر رسما بالحروف والكلمات..ينفتح على الرسم التشكيلي فيستعير بعض ألوانه وأشكاله ورؤاه الجمالية تشكيلا بصريا للكتابة الشعرية على بياض ورقة الكتابة..بعد أن تداعت الحدود بين الفنون فتداخلت التخوم..
تتثاءب الحروف..وتتململ الكلمات كي تتشكّل ابداعا شعريا يلامس نرجس القلب،وذلك في شكل فضاءات دالة على ما يشكل هذا العمل الشعري من عوالم إبداع..يتقاطع فيها وَجِدُ العشق بوجَع الحصار…
تتعدد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع،بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل،ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة،بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق،والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر..توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..
وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص هذه المجموعة مدعاة للتأمّل عبر عنوانها:أرتّب..الفوضى،بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.فالعنوان،رغم ما يشي به-بعده المجازي-،إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري،والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم،وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية،تبقى دوما متغيرة،ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى،وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة..فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك،للكائن من الأشكال،والراهن من أسئلة الشعر..
أما المتن الشعري الذي ترسم معالمه نصوص هذا العمل الإبداعي وتحدّد المفيد من سماته الفكرية والجمالية في آن،فإنّه يقوم على تيمتين أساسيتين تشكّلان محوري القول الشعري،وهما الحلم والإغتراب،محوران يتنوّع حضورهما داخل المكوّن الشعري،إذ تأخذ علاقتهما أشكال التوازي أو التحاور أو التقاطع.وقد وزّع الشاعر-ببراعة واقتدار-قصائده بينهما.
فثنائية الحلم والإغتراب هي التي تؤثث العالم الشعري وتمنحه أبعاده الدرامية،ذاتا وموضوعا،إذ يرسم الحلم حالات الذات الشاعرة المتشظية وجدانا بسبب تداعيات الزمن المؤلمة،ومن هنا،فالحلم بلسم لتشظيات الرّوح في زمن الإنكسار والتشظي،يحلّق بالشاعر في الأقاصي،أو ينعطف به إلى الذاكرة سبيل خلاص من عقال الراهن،ويكون الرحيل إلى رحاب الكون الفسيح ملاذا وخلاصا من عذابات الواقع وانكساراته،مما يحوّل حياة الشاعر إلى-أحلام لذيذة-وذكريات لطاف تؤمل ولا تستعاد،فالمناجاة والذاكرة والحلم،تمثل المرايا التي تنعكس عليها الحالات-النفسية-للشاعر:”..أفتّش عني،فألفيتها خلوة مقفرة..لا شيء ينسيني طقس البلاد،وذكرى البلاد..لا شيء يحرسني بين رجع الصدى والمدى….فيا شجر الحلم أزهر قليلا.. ! (ص20/21)..سنظلّ نرتحل حثيثا خلف أطياف الأماني..ونظلّ نرفع راية السّفر المعلّق بالرجى..والصدق أغنية تليق..ونظلّ نحمل حلمنا-أو وهمنا-تمضي بنا الأشواق..تسبقنا السحابة والبروق..وأغني آلامي التي لا تنتهي..وأنا المدجّج بالهوى..وأنا المضرّج في النوى بمشاعري وسط الحريق(ص101).فعبر المناجاة يتحوّل الخطاب الشعري إلى نوع من البوح،ومن خلال الذاكرة يحقّق اختراقه لتخوم الزمان والمكان،وبواسطة الحلم يتحوّل الواقع المترجرج إلى أمان مشتهاة تجدّد كيان الشاعر وتُبقي على حالات وَجده نابضة..وهو الوَجْد الذي يستمدّ منه نُسغ الحضور..وتستمدّ صورة الأنثى في النصوص-العشقية-بلاغة حضورها من غيابها.فهي الغائبة-الحاضرة أو الحاضرة-الغائبة بإمتياز،بلاغة التجلي في التخفي أو التخفي في التجلي..فهي أنثى الشعر أكثر منها أنثى الواقع،أنثى الحلم أكثر منها أنثى الحقيقة،أنثى الماء أكثر منها أنثى الطين،أنثى الوله أكثر منها أنثى الإمتلاء،أنثى الأمنية المهدورة لا الأمل المتبغى..يوغل الشاعر في استحضار طيفها إلى المدى الذي تتداخل تخوم المكان وحدود الزمان،وكل عناصر الوجود المتقابلة:الليل والنهار،الدياجير والضياء،الخصب والجدب،الصقيع والقيظ،الحضور والغياب..وهي الثنائيات المتقابلة التي تسهم مجتمعة في تعميق جراح الشاعر/المحب،والكشف عن خباياها الهاجعة في كيانه..وهي كذلك صور التشظي وقد تحوّلت إلى-لهيب-شعري يحرق ،ويتعالى النداء ولا رجع لصداه..
كلّ هذا يفسّر حالات الشكوى والأسى والإغتراب التي تلوّن المناخات الشعرية لهذه الإنجاز الإبداعي المتميّز:”..لك أن تدخلي في ارتباكي،وفي دهشتي..في تخوم السؤال..هي الآن أغنية العائدين من الصّمت،ظل الأماني التي..على قلق أعلنت بوحها في السكون..على رفّة من جناح الحمام..جميل،جميل سناؤك يبدو كبدر أضاء جنوب البلاد..كسوسنة للصباح تعرّت ومدّت بأجنحة للسلام..على وجنتيك سناء من الشرق..والشوق،والأغنيات..وبوح الفصول وحلم المنام..”(ص 78).
إنّ مسعى الشاعر إلى اقتفاء تضاريس النص،هو محاولة ايقاف حركة زمنه الشعري عبر محاولة استقراء حلمه،في رؤيا تستبطن كشوفاته،وتشكّل تواصلا مضادا إزاء زمنه المجهض المغمور بالغرابة وإلتماس المعنى الشمولي عبر وعي إشكالي يمكنه أن يكشفَ جوهر هذا الزمن بكل ما يحمله من اضطراب وغياب..وموت..إنه زمن خام..قلق..غير مبرّر أحيانا،يتوخى فيه الشاعر فكرة الجوهري/الشعري المشرع على احتمالات التأويل والمبني على (الهمس والتلّمس والحس )وهذا الزمن الذي يحاول قراءته الشاعر يحيل حتما إلى محاولة كشف استبطانات اللغة التي تعتبر الشعر ضرورة كما يقول جان كوتو في استحضار الحلم والرؤيا والإحتفال..”..لي ما يؤثث في زوايا القلب أغنية الشجا..والحلم تجدله المرايا..لي في الدجى،أحلام ليل مدلهم غاسق،للعازفين على ترانيم الكلام الحلو..توشيح الملامح والرؤى..من لوعة الأشواق..من وجع يسلمني إلى وجع سرى في أضلعي..يمحو الخطايا..”(ص60)
..إنّه حلم تقيم الدهشة والغرابة طقوسه التي تحيل اللغة احتفالا له طابع هلامي يتوغّل أحيانا عبر الذاكرة المفزوعة بالخراب والفوضى،وذكريات الراحلين..
جمالية البنية الصوتية:
من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذا الخطاب في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة،وفي تحقيق قدرتها التأثيرية،فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة(1)،والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية،تضيف بعضا من الإيقاع،أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر،بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري،تنفر منه،وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما،وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف،فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة،واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث،وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2).
وإذا كان الأمر كذلك فليس بوسع الدارس أن يتجاهل ظاهرة أسلوبية لافتة ساهمت في إنجاز جمالية التجربة عند الهادي العثماني كما ساهمت في تحديد معالم رؤاه وهذه الظاهرة هي تعويله على المدود أو الصوائت الطوال،وهو ما يلمسه المرء في الخطاب الشعري على مستوى المفردة،وعلى مستوى التركيب،إذ تتجلى هذه الظاهرة الصوتية في هيمنة مفردات حافلات بالمدود الطوال على هذا الخطاب،وذلك من قبيل:حزين-دفين-ثخين-مبين-حنين-يقين-مدى-هوى-سدى-ردى-رؤى-شذى-قذى-جوى-نوى-صدى-شريد-قصيد-بعيد-سبيل-رحيل-نخيل-رذيل-دليل-طويل-صهيل-بخيل-أصيل-خيول-ذهول-مَحول-فصول-غريب-قريب-قمر-وتر-صباح-رماح-نواح-براح-رياح-جراح-صبايا-مطايا-حشايا-سجايا-حميم-نديم..إلخ
والجدير بالذكر أنّ غير قليل من هذه المفردات المصوّتة كرره الشاعر غير مرة في تجربته هذه مما يعني أنّها ظاهرة أسلويبة صوتية محروص عليها،وموظفة في خطاب هذا الشاعر،وكثيرا ما تهيمن هذه الظاهرة عل بعض المقاطع بوضوح،ومن هذا القبيل قول الشاعر:
..من وجع يسلمني إلى وجع سرى..في أضلعي
يمحو الخطايا..
ها أنا يا موعد الشوق الموشّح بالجوى،متسللا من جرحي،من أحزاني
يخترق الدّجى..
أشتاق في وهج المنى
ذكرى تلائم غبطتي،كي أستعير مجازها
حلما تسامق في صبايا..
ومن هنا،يبدو واضحا أنّ التعويل على الصوائت الطوال ظاهرة أسلوبية صبغت الخطاب الشعري عند الهادي العثماني الذي حمّل هذه الصوائت عميق أحاسيسه وانفعالاته مما يجعل خطابه في كثير من الأحيان قائما على ما يسميه جان كوهن بالكلمة الصرخة،ويذكر أنّ العلاقة وثيقة بين الصُّراخ والشعر،فالصراخ حالة هيولية من حالات الشعر،وفي ذلك يقول جان كوهن:”الشعر يتميّز عن الصّراخ،لأنّ الصراخ يستخدم جسدنا على النحو الذي أعطتنا إيّاه الطبيعة،أما القصيدة فتستخدم اللغة،إنّ الشعر يستخدم المسند الذي تستخدمه اللغة غير الشعرية،إنّه يقول كما تقول:إنّ الأشياء كبيرة أو صغيرة…حارة أو باردة لكنّه يصنع من كلّ واحد من هذه الألفاظ الكلمة الصرخة،إنّ الشعر ذو جوهر تعجبي”(3)
على سبيل الخاتمة:
قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون المجاميع بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر،إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذا الخطاب الشعري الذي فيه كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد يغري متلقيه بجسور التواصل معه،مما يشجع على المزيد من التفاعل،ومعاودة القراءة والقول،فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذا الخطاب مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها،كما سعت إلى تلمُّس معالم الرؤيا في هذا الخطاب الذي تراءت معالم رؤياه غربة فكرية تعاني وتعاين وتحلم،ولكنّها لا تهرب،بل تواجه بغير قليل من الصمود،وبغير قليل من المعاناة تماهيا مع وجدان تعتمل في داخله الأحاسيس وتحتدم المشاعر..
الهوامش:
*”أرتّب الفوضى”:مجموعة شعرية من الحجم المتوسط،عدد صفحاتها:242 صادرة عن الدار التونسية للكتاب الطبعة الأولى(2013)،تحمل إمضاء الشاعر الهادي العثماني.
1-اللغة العليا ص:116جون كوبن.ترجمة أحمد درويش.ط2 القاهرة 2000
2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص:38-ط-الإسكندرية 1990
3-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص:74.
**تنويه:الشاعر الهادي العثماني أصيل منطقة بني خداش من ولاية مدنين (الجنوب التونسي).رجل تربية متقاعد . *شاعر وناقد وكاتب صحفي-عضو في إتحاد الكتاب التونسيين
www.deyaralnagab.com
|