زهرة الريح!!
بقلم : رفيقة المرواني ... 07.09.2016
أن أكبر وفي قلبي حسرة، أن تتغلغل رائحة الرماد في عروقي، أن يصير دمي الرطب مشرطا يجز شريان الذاكرة وأن أكتم بكائي بكفي الصغيرة ، يعني أن أموت ألف مرةٍ وأنا أحاول استرداد طفولةٍ مسلوبةٍ تركتها خلفي واستبدل فرشاتي الملونة ببندقيةٍ لأرسم خرائط البلاد وابني جسوراً ترتق أرضاً مزقتها السدود.
عندما كنتُ طفلةً أرضعوني الموت وحرموني الكلام، وحين كبرت خبأت خوفي (الحميم) تحت الحجارة وفي سرة الشجر، كي أمنع امتداد الوجع في داخلي حتى بات يستهويني الركض في دروبٍ سلكتها باتجاه كبد الخراب، كبرت بما يكفي لتذبحني أنفاس زهرة الريح التي دسستها في صدري قبل رحيلك. أنا الملعونة بالمسافة كلما وقفت على أطلال لحظات (بيضاء) سرقتها مني الحرب والمجازر، انحشرت في عيني سهام الرماد ومراثي الأهل والأحباب.
كأن ثمة دائماً سؤالا يستنهض عبث الغبار في ذاكرتي الهزيلة، يوقظ في ّالحنين إلى التراب، يعلقني بسرة الأرض ويزرعني في الهواء، هناك حيث تنصت النايات لعثراتي ويشدو الرعاة بأوجاعي. ما من إجابة قد تقطع شرود بدويةٍ مثلي كما يفعل بي السؤال، سؤالٌ يعجن لي من زفرة الجمر رغيفاً للأحلام ويحتطب لي من الأفق أغصاناً زرقاء لنساء احترقن في مواقد الظلال.
الأسئلة المغلقة على (الخراب) تفشل في حياكة سترةٍ تقيني أذى السقوط في جيب الأغنيات القديمة وأعراس القبيلة، أغفو في الصحراء وملامح الوطن شامة رملٍ على كتفي، أغفو وحديث البلاد عطر (حالك) يفتح القيامة على أذناي، عطرٌ يأخذني إلى حيث كانت «لعبة تصنعها لي جدتي من أثواب ممزقة» أعظم أحلامي، أنا الطفلة التي تدغدغ وحدتها بالبكاء، تداعب وجه السراب ثم تتوسده. لا شيء يبدد اضطرابها سوى إطراقها لوطء أقدام الغرباء وهي تتهجى الطريق لتلسعها شجرة الليمون التي نبتت قبل أعوام تحت نافذتها.
مازلت أخبئ أشلائي في معاطف الليل وفي صندوق رسائلي القديم، رسائل كتبتها لأبناء الجيران ورفاق الرصيف، رسائل أخبرهم فيها عن لون الثوب الذي أنوي ارتداءه حين أخرج في أول موعدٍ غرامي، عن رغبتي في انتعال كعبٍ عالٍ له شكل الحب، هناك أحذية تشبه وجه الحب، حب حين ترتديه يمكنك أن تلمس وجه غيمة خضراء فيما يداك المجعدتان تمسكان بلعبتك القديمة وتتشبثان بثوب أمك.
الحسرة أن تصير المنافي ملاذاً دافئاً للحمام، والأشجار محض أعشاش للرصاص، في حين تنهض الصباحات في قلبك كسولةً، تتنهد تُعِد قهوة للغائبين. كاتبة من تونس
www.deyaralnagab.com
|