«نكبة» الرواية الفلسطينية!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 02.11.2016
ليس ثمة جديد في الإشارة إلى الأدوار المُعقدة والمُركبة التي تلعبها الأسطورة في تشكيل الهويات القومية الحديثة. كل قومية إثنية أو دينية احتاجت وتحتاج إلى جملة من الأساطير كي تبني عليها هويتها: تهاجر إلى الماضي، حتى لو كان ماضياً قريباً، لتبحث في أركيولوجيا التاريخ المنسي عن حدث هنا، أو بقايا معركة هناك، فتجلبها إلى الحاضر بكل قوة ومبالغة، وتحولها عماداً لما تريد تعزيزه وأدلجته. فجأة تصير لملمة شظايا وقائع وشبه وقائع متناثرة مكانياً وغير مترابطة زمنياً «تأريخاً» عضوياً ومتسلسلاً مكرساً للقومية المعنية، أو للأيديولوجيا، أو للفكرة المتوترة التي تبحث عن عراقة وشرعية مفقدوتين. كتابات المفكرين الذين تأملوا في الآليات المدهشة لتصنيع الهويات، منهم جان لوك، وإرنست رينان، وبندكت أندرسون، وهيو سيتون واتسون، وإرنست غلنر، وإريك هوبوزبوم، تشير كيف يُفبرك التأريخ المُتخيل أمجاداً وبطولات وهويات لا قاسم بينها سوى الاصطناع والانتقائية، من دون اختراع وإعادة اختراع أساطير الماضي، البعيد والقريب أيضاً، لا تقوم قوميات وهويات الحاضر، وعلى وجه التحديد الصلدة منها والمتوترة. هذه الأخيرة على وجه التحديد لا تعيش إلا على تخليق عدو خارجي تظل تستثمر تهديداته سواء الحقيقية أو المتخيَّلة، كما نظر «يوهان فيخته» البروسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك بهدف استنفار ميكانزمات الدفاع الجمعي لقومية معينة بما يبقي هويتها دائمة الحضور وحادة القسمات.
المثال الأبرز سطوعاً هو القومية والهوية «الإسرائيلية» التي نبش مخترعوها، وما زالوا ينبشون كل زوايا التاريخ لتخليق علاقة هوياتية ودينية وارتباطية بفلسطين. الفلسطينيون لم يحتاجوا إلى ذلك الرحيل المضني في التاريخ لإثبات ذاتهم الجماعية وعضوية علاقتها بالأرض. لم يكن هناك هوس مرضي بقصة الهوية والقومية، وغياب ذلك الهوس هو البرهان الأكثر سطوعاً على عفوية وعمق العلاقة بالمكان. ضربة محراث الفلاح البسيط في الأرض كانت تختصر الحكاية، فيضيق صدر المهاجر اليهودي الأوروبي الذي يلبس بدلة ورابطة عنق ويراقبه من وراء السلسلة الحجرية، فيشعر بالغربة والسرقة: من توصيف، على سبيل الأمثلة فقط، إميل حبيبي في«المتشائل» إلى المشاهد الأخاذة لإبراهيم نصرالله في «زمن الخيول البيضاء»، وليس انتهاءً بالتقاطات «ربعي المدهون» في «كونشيرتو النكبة والهولوكوست». في مشهد دراما المقارنة الجماعية، هذا لم يكن الفرق الرهيب بين «حداثة المهاجر» و«محلية» الفلاح ليبعث على الاطمئنان الهوياتي في دواخل اليهود الأوروبيين، رغم ما يوفره هذا المشهد من إحساس حاسم بالتفوق المادي والعسكري. في قلب المحلية وعفوية الارتباط بالأرض وربما اللا مبالاة الساذجة إزاء الغرباء التي وسمت الفلاح كان ثمة تجذر عميق أقلق ديفيد بن جوريون وعذَّبه، وهو يجول في الأرض مُدّعياً تملّكها الحاضر وامتداد ذلك التملك في التاريخ. كان مشهد الفلاحين الفلسطينيين وهم يحرثون أرضهم، بلبساهم التقليدي، ومحاريثهم البسيطة، لا يحتاج إلى تقعر تاريخي وأسطوري ينتحر يأساً لتأسيس علاقة عضوية بفلسطين. بن جوريون قادته الرغبة الفاضحة في الالتفاف على القلق الوجودي الذي بعثه فيه مشهد فلاحي فلسطين إلى إطلاق مقولة مُنهِكة ومُنتهِكة للتاريخ بشكل فجّ ملخصها أن فلاحي فلسطين وآباءهم وأجدادهم وكل أسلافهم ليسوا إلا يهوداً قدامى، تعود جذورهم «إلى اليهود الأصليين الذين كانوا في فلسطين» لكنهم تحولوا إلى العروبة والإسلام في مراحل لاحقة من التاريخ!
في التأريخ للهوية الفلسطينية الحديثة تأتي النكبة لتلعب دوراً ملتبساً في إعادة التشكيل، ليست أسطورة، وليست ماضياً بعيداً، أو تاريخاً مشكوكاً فيه. حدث حقيقي، ممهور بالدم والمأساة والحسرة، ثم الثورة. على عكس الأسطورة الماضوية المُستدعاة قسراً لتخليق هوية راهنة، تحضر النكبة كواقع تاريخي طازج وحار يفيض بالراهنية، ويعمل على تشكيل وإعادة تشكيل هوية استُفزت للدفاع عن حضور أصحابها. على هذا تتموضع النكبة كواقعة وسيرورة وكارثة ورافعة تاريخية في قلب كل ما له علاقة بفلسطين الحديثة، وفلسطينييها، وتاريخها، وتحولاتها. وفي كثير من المقاربات تواجهنا مفارقة حقيقية، ذلك أننا كلما اعتقدنا تعقلاً أعمق لواقعة النكبة، كحدث مأساوي مؤسس في التاريخ الفلسطيني، والهوية الفلسطينية، والتاريخ العربي الحديث، والهوية العربية، اكتشفنا خطأ ما اعتقدناه.
النكبة تحولت إلى شيء معقد في الوجدان والوجود الفلسطيني: وهي خليط من أشياء. هي حدث حقيقي تناسل عنه واقع وترتب عليه هجرة وتهجير، وقيام دولة للعدو الذي تسبب في النكبة. وهي زمن بواباتي مركزي أغلق حقبة وفتح حقباً أخرى تختلف تاريخياً، وسياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، ووجدانياً. هي أهزوجة حزينة للجيل الذي ذاق مرارتها مباشرة. وهي الترتيل الليلي لفاجعة جماعية على وطن ضاع. هي الصدمة النهارية الدائمة للواقع الجديد. ثم هي بداية التمرد على الذات الجمعية التي سلمت قرارها لقيادات رخوة محلية أو عربية، فكان أنْ اكتملت الكارثة على أيديها. بذلك التمرد تحولت كارثية وتحسرية النكبة إلى طاقة فدائية وثورية أرادت أن تمحو العار، وتعيد صوغ الزمن. لكن تذرّى جزء كبير من تلك الطاقة، أو كمُن. صارت النكبة صندوق الذاكرة المليء بالمتناقضات: بالحنين إلى ماضٍ لا يعود، بالهزيمة، بالتراخي، بالبساطة والسذاجة، بالجهل والتسرع في مغادرة الوطن، بجلد الذات ولومها وتحميلها جزءاً من مسؤولية ضياع البلاد، وبالنقمة على الشقيق الذي تخاذل عن المناصرة، أو قدمها مشلولة وشالة.
تولد عن النكبة عشية وقوعها أحد أكثر الوجوه الملتبسة والمكثفة والمحيرة في السردية الفلسطينية: المخيم.
أمام كل هذا الالتباس النكبوي وما تولد عنه من التباس مخيماتي وقف الإبداع الروائي الفلسطيني يتأمل ويفكك وينخرط. مركزية النكبة في أوجه الإبداع الفلسطيني لا تحتاج إلى تدليل أو شواهد، وكذا مركزية ابنها المخيم: اللقيط أولاً والمنتزع شرعية الأبوة ثانياً. توزع معظم ذلك الإبداع على مقاربة جوانب الكارثية، والحزن، والحنين، وأقله على جوانب النقمة والتأمل في المسؤولية الذاتية، والثورة على الذات والآخر. وقصّر كثيره في الغوص في محرمات «نكبوية» لا تزال بحاجة إلى جرأة للتناول مثل هجرة ولجوء أهالي قرى وأرياف عديدة من دون أي صدامات عسكرية بل خوفاً من وصول المنظمات العسكرية الصهيونية وجنودها، مضحّين بالأرض حفاظاً على العرض! تناول تلك المحرمات روائياً ودرامياً صار أمراً ضرورياً لأن فيه درساً راهناً كبيراً يشير إلى ضرورة البقاء في الأرض رغم أي حدث وأي نكبة.
www.deyaralnagab.com
|