"النبيذة" أنثروبولوجيا روائية ترثي أوطانا تقتل أبناءها!!
بقلم : ممدوح فرّاج النّابي ... 27.01.2018
استطاعت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي أن تلفت الانتباه بأعمالها الأولى “سواقي القلوب” و”الحفيدة الأميركية” و”طشّاري” التي قدمت من خلالها نماذج لواقع العراق المؤلم بعد الاحتلال، ثمّ ما أَصاب شخصياته مِن انقسام حاد، دَفَعَ بها للهروب إلى الشّتات أو اختراع المقابر الإلكترونية، وهو المشروع الذي تواصله في روايتها الجديدة “النبيذة”.
في الرواية الجديدة “النبيذة” تضعنا الروائية إنعام كجه جي في خضم عالم أوسع للتشظي؛ فالشخصيات جميعها تكتوي بنار الفقد والخسارة. فتجتر الكاتبة مأساة شخصياتها في سرد موجع، وقبلها تجتر مأساة أوطان مسلوبة بفعل آخرين.
ثيمات تكرارية
لا يخفى على قارئ إنعام كجه جي أن ثمَّة ثيماتٍ تُمرِّرها في كلِّ عمل، دون أن يشعر المتلقي بتكرارها، حيث تأتي هذه الثيمات عبر تنويعات مختلفة تؤكّد حالة الوجع التي تشعر بها شخصياتها، فدوما المكان يأخذ سمة الطارد وليس الأليف كما هو عند باشلار. ومن ثمّ تضطر هذه الشخصيات المهزومة والمكلومة إلى الوطن البديل / المنفى الاضطراري.
والوطن الطارد هنا تُقدِّم له تمثيلات مُتعدِّدة، تبدأ من العراق الجريح والمتشرذم، إما بسبب الحروب التي أنهكته وإما بسبب الطائفية والصِّراعات الأيديولوجية، وإما بسقوطه نهبا للاحتلال، مرورا بفلسطين الجريحة والمغتصبة بفعل الاحتلال، وصولا إلى إيران الواقعة تحت سطوة أيديولوجية دينيّة، مارست هي الأخرى قهرها وتنكيلها لكل مخالف لها. وبالمثل تتكرّر داخل أعمال أنعام كجه جي صورة المرأة المنقسمة الهوية كما كانت زينة بطلة “الحفيدة الأميركية” والطبيبة وردية بطلة “طشّاري” التي كانت تعمل في قرى وأرياف العراق قبل أن يحلَّ عليها التهجير، فتذهب إلى فرنسا في انتظار الهجرة إلى كندا عند ابنتها.
تتكرّرُ هذه الثيمة في روايتها الجديدة؛ حيث لدينا بطلتان منقسمتا الهوية، الأولى هي البطلة الرئيسية الصحافية تاج الملوك صاحبة الثمانين عاما عراقية وإن كانت ذات أصول إيرانية، وعاشقة لمنصور البادي الفلسطيني إلا أنها متزوجة من الفرنسي الذي أوقعها كجاسوسة، والثانية دَيان الملّاح عازفة الكمان الشّابة التي هي في نصف عمر تاج الملوك، والتي غادرت العراق بعد خسارتيْن الأولى تمثلت في خسارة حبيبها يوسف والوطن معا. والثانية كانت حاضرة في العاهة التي لازمتها وكان سببها الأستاذ أو الدكتاتورية التي تحيل إلى عصر بأكمله، وليس شخصا.
لم تخل هذه الشخصيات من أمراض الاغتراب والبعد عن الأوطان. فثمّة شعور بوجع الغربة كان ينتابها حتى في لحظة الفرح أو المكاسب، فالشخصيات تُعاني وتحمل أقدارها، وجميعها أشبه بسيزيف يحملون صخرة أوجاعهم دون أنين أو اجترار للمأساة إلا أن الوجع قد يكون طاغيا فينسرب دون رغبة عبر جملة أو عبارة تكشف عن حالة من الوجع المميت.
الرواية تميل في الكثير من جوانبها إلى تسجيل واقع التاريخ في حقب مختلفة عاشها العراق والبلاد العربية
فتاجي التي ولدت ونشأت في الكاظمية بالعراق كانت في شبابها “فرسة جامحة صهّالة تحرن ويستعصي ترويضها” تعتصرها آلام عدة، لا تبدأ بفقدان الأوطان (إيران، العراق) أو خيبات الحبّ وخسارة الأحبة (منصور البادي)، وصولا إلى الاغتراب؛ لذا حملت تاجي أسماء كثيرة “رقصت بها ثم خلعتها“. وقد ارتبطت بعلاقات مهمّة مع شخصيات نافذة بسبب عملها الصحافي، حتى استطاعت أن تكون لها صحيفتها الخاصة مجلة “الرحاب” البغدادية.
عاشت “ثلاثة أعمار في عمر واحد، فهي امرأة ذات ماض طويل، وعلى علاته هو وسام شرفها” كما يقول السارد عنها، وإن كانت “ما عادت تتوقّع المزيد من الأقدار والمُصادفات”. وبالمثل ديّان الملَّاح التي تغلبت على غربة اللغة الفرنسية إلا أنّ غربة الوطن قهرتها وجعلتها طريدة لا تَشْعُرُ بأمان في الوطن ولا بأمان في الحب. كانت وديان بمثابة المفتاح الذي أغلقت به تاج الملوك باب الماضي ونسيت في أيّ درج وضعته. فجاءت وديان لتفتح خزائن الماضي.
صناديق الذكريات
الشخصيات الأساسية في الرواية، الصَّادرة عن دار الجديد بلبنان، هي تاج الملوك وديّان ومنصور البادي، ومن ثم يتناوب السرد على هذه الشخصيات وما دار بينها من علاقات وتقاطعات، لكن يدير هذه الشبكة راويان؛ الأول هو الراوي العليم الذي يسرد عن قرب وهو ملتصق بهذه الشخصيات. وقد منحته المؤلفة صفات كثيرة من أهمها أن معرفته أوسع، ومن ثم لاحق الشخصيات في تنقلاتها وتابع أزماتها، بل كاد صوته يتطابق مع صوت شخصياته وهو يصف المعاناة التي عانتها الشخصيات الثلاث.
والثاني هو راوي أنا، سره أقرب إلى السرد المذوت حيث تسرد الشخصيات بالأنا البعض من الحكايات التي لا يستطيع وعي السارد الغائب/ الهو (العليم) أنْ يُدْرِكَها بحكم طبيعة الضمير واختصاصاته. الراوي الأنا كان أشبه بحيلة ثانية لفتح صناديق الذكريات لماضي الذي “رمى نفسه في المقعد المقابل”.
فتسرد تاجي به عن حياتها في الماضي العميق؛ منذ حكاية أبيها الإيراني الذي خسر كل أمواله وطلق زوجته، ثم مات معدما. وعن زوج أمها عبدالحميد الذي أُغرم بصوت أمها وهي تقرأ القرآن، وعلاقتها المتوترة به وأثرها حتى وصفت بأن “تاجي قهرتها غرامياتها والرجال الذين رفعوا لها قباعتهم إعجابا”. ورحلتها الحياتية في عالم الصحافة وعلاقاتها بالسياسيين، وما نتج عنها من أزمات بسبب تغيرات مزاج السياسية ثم انخراطها في الحركة الثورية.
وقد قادها كل هذا لرحلة من المطاردات والمنافي والاغتراب في أصقاع الأرض، وعندما شعرت بالوحدة، تزوجت في فرنسا من ضابط استخبارات فرنسي اسمه سيريل شامبيون، لكن هذا الضابط استغلها وبالفعل تمّ تجنيدها لاغتيال الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة في القاهرة. وعندما وصل إلى المكان، انصرفت مثلما جاءت “عابرة بسؤال عابر”.
لا يغفل السارد وهو يتتبع سيرة تاجي، السياق السياسي والاجتماعي الذي دارت فيه أحداث الرواية، فيقدم لنا صورة عن واقع العراق في تلك الحقبة بل والبلاد العربية، وحركات التحرّر بها التي نشطت أعقاب موجات الانعتاق من الملكية. كان لهذه الفترة الدور الكبير في أن تتحول تاجي التي كانت “ملكية أكثر من الملك” إلى معارضة؛ فانخرطت في صفوف المتظاهرين، وَحُملت على الأعناق، كما أنها سخّرت الجريدة التي تكتب فيها لنشر صور المتظاهرين ما آل بها إلى الهروب إلى إيران بعدما ساءت علاقتها بنوري باشا.
وإلى جانب هذا تقدّم الكاتبة صورة للمجتمع العراقي في ثلاثينات القرن الماضي. وهي صورة باذخة في جمالها ودلالتها. وكأنّ الكاتبة ترثي لما حلّ على هذه المدينة الأبيّة من تشوهات وخسف لتاريخها ومكوِّنها الثقافي بفعل الدواعش والطائفية وقبلها الحروب.
تميل الرواية في الكثير من جوانبها إلى تسجيل واقع التاريخ في حُقب مختلفة، حيث تعتمد الساردة إلى الحقائق والشخصيات التاريخية والثقافية الفاعلة التي كان لها إسهام كبير، بالإضافة إلى الاستشهاد بالمدونة التاريخية في تسجيل الوقائع المهمّة والأحداث التي هي مفصل مهمّ من تاريخ العراق في إشادة تامة بما حدث في الماضي.
كما أنَّ السَّرد يتناص مع المدونة الثقافية حيث تتردّد أشعار قديمة وأمثال شعبية ومقولات تراثية، بالإضافة إلى مقالات صحافية وتقارير إخبارية، وهو ما يدخل بالسّرد إلى رحابة معرفية تتجاوز حدوده الضيقة، تأكيدا للمستجدات التي لحقت بالرواية في عصر ما بعد الحداثة وقريناتها، فقد تجاوزت الحكاية الكلاسيكية إلى آفاق جديدة، فغدت الرواية أشبة بدراسة أنثروبولوجية للمجتمع والثقافة. بقي أن أشير إلى أن هذا الاطراد التكراري كان بمثابة احتماء باللغة خشية من ضياع الهُوية بعدما ضاعت البلاد. المصدر : العرب
www.deyaralnagab.com
|