قراءة في رواية "زهور تأكلها النار" للروائي السوداني أمير تاج السرّ!!
بقلم : حسن عبادي ... 14.03.2018
"من والدتها الإيطالية ورثت الجمال، ومن والدها الثراء. كانت تخطو إلى العشرين حين عادت من مصر حيث درست علم الجمال فأشرق حسنها على مدينتها "السور" بمجتمعها المتنوع.
تظهر فجأة على الجدران كتابات لجماعة "الذكرى والتاريخ" التي أعلنت الثورة على "الكفار" مستبيحة المدينة قتلاً وذبحاً وسبياً باسم الشريعة.
اقتيدت النساء إلى مصيرهن أدوات متعة لأمراء الثورة الدينية، زهورًا ملونة تأكلها النيران.
الآن انتهى زمن وابتدأ زمن، وخميلة الجميلة التي صار اسمها نعناعة باتت سبيّة تنتظر أن تزفّ إلى أمير من أمراء الثورة لعله المتّقي نفسه".
هذا ما جاء في تظهير رواية "زهور تأكلها النار" للروائي السوداني أمير تاج السرّ(الصادرة عن دار الساقي اللبنانية، في 189 صفحة) ولوحة الغلاف بريشة الفنانة التشكيلية العُمانية عالية الفارسي.
أمير تاج السر روائي سوداني، تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية. صدرت له عدة روايات "منتجع الساحرات"، "إيبولا 76"، "اشتهاء"، "مهر الصياح"، "صائد اليرقات"، "زحف النمل"، أرض السودان.. الحلو والمر" وغيرها.
عنوان الرواية "زهور تأكلها النار" دلالة رمزية عن وشم على ظهر ماريكار، عبارة عن زهور ملونة تأكلها نيران كثيفة، يدلّ على خسارة الأريج والرونق، ذكراه تأتي مخيلة خميلة وهي سبية مع ماريكار أيضاً عند جنود المتّقي فتقول: "الزهور التي تأكلها النار، لشد ما يمثلنا الشعار، لشد ما يصبح نحن ونصبح هو.. ثلاثون يوماً مضت ونحن أسيرات بيت أم الطيبات، زهوراً تتربع في النار".
تُصوّر الرواية حكاية مدينة السور الواقعة غرب البلاد "محاطة بكثير من القرى المبعثرة، وحاضرة لمنطقة ممتدة وغنية، كانت في الحقيقة، ميدان فوضى كبير، ولم يعرف أحد أبدًا أن هناك علمًا للجمال، يدرّس لعيدًا، ومن أساسياته محاربة الدمامة، والكاتم النابي والسيطرة على الفوضى، حتى لو صدرت من حمار مخمور، أو ديك يطارد دجاجة ساعة النزوة" (ص. 23) ، مدينة غير معرّفة وتصلح لتكون في أيّة بلد عربي، علنت الثورة على من سمتهم "الكفار"، مستبيحة المدينة، قتلاً وذبحاً وخطفًا وسبياً باسم الشريعة، الالتحاق بالمسلحين لا يمُت للدين بصلة وبعيد عن دين الاسلام، دين الفطرة والرحمة والرأفة والأمن والسّلام، حيث قتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعدها الشرك بالله، فالله عزّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها وجاء في القرآن الكريم (وّمَن يقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمدًا فجزاؤُهُ جهنّم خالِدًا فيها وغضِبَ الله عليه ولَعَنَهُ وأعَدَّ لهُ عذابًا عظيمًا)(سورة النساء – الآية 93).
إنها قصة خميلة، ابنة مدينة السور، في أربعة فصول : شغف ومدينة (يُعتبر فصل البدء، الذي يصف عالم خميلة وأسرتها، قصة حبها ودراستها علم الجمال في مصر... ويصف البلدة بعاداتها وتقاليدها، والعلاقات بين المسلمين والأقباط والبوذيين)، ليل (تتصاعد الأحداث، تُطعن جيلال السبعينيّة الودودة على يد ملثم مجهول، يعثرون على اتاب عيسى مذبوحاً، اغتصب الملثمون رسامة تدعى كاترين جو اتخذت من السور مكاناً لها كي ترسم الحياة الشعبية من دون خوف، صفقات وتسويات تُعقد بين زعماء الميليشيات وتجار الحــروب المنتفعين منها، فينجو إيزاك اليهودي تاجر الذهب ولم يُقطَع رأسه، وكذلك فندوري تاجر الخمور، وولهان الخمري - قواد حيّ ونسة - ظل ولكنه لم يفقد رأسه!)، النار (في هذا الفصل تقع خميلة سبية في يد جنود المتّقي، فصار اسمها نعناعة عندهم، ترافقها فتيات أخريات فيبدأ عالمها بالتحول الكبير، تُجبر السبايا على الصلاة والصيام، على العمل في الطبخ والغسيل وإعداد الشاي، ويتحولن إلى أدوات متعة لنزوات متوحشة فترغب خميلة بدراسة الشريعة لتعرف موضعها من فتوى المتقي وجنوده، لكنها تكتشف أنها عالقة في شرك لا علاقة له بالعقائد)، والنار أيضاً ( في هذا الفصل تظهر التحولات التي حصلت لمدينة السور ككل، ليس للفتيات المسبيات فقط. البيوت مهدمة، الأشجار مجتثة من عروقها، والحرائق تتجدّد. تصف خميلة/نعناعة حياة السّبي، حياة الخصيان، اختيارها "وليمة" للمتقي. ولكن من هو المتقي؟ هل هو موجود حقاً أم مجرّد فكرة ووهم وفزّاعة؟ هل تم استغلال اسمه لانتهاك المدن، وسبي النساء وتحقيق المآرب وطمعًا بالسلطة؟ .
وتأتي النهاية ضبابية " هل فرّت خميلة من السبي؟ "أسمع صوتاً عجوزًا غاضبًا يأتيني من بعيد: من لولو يا نعناعة؟" أو أنها كانت تحلم؟ ليبقى مصيرها ضبابيًا كعشرات آلاف النساء والرجال والأطفال من الضحايا.
إنها قصّة جياع سمّوا جهاديين، أجّجهم من سُمي بالمتقي، قائد الثورة، كانوا ينتهكون القرى، بيوتًا وحقولًا ومساحات رعي. ثمة قتل وذبح، وشهوات مراقة هنا وهناك، وثمة معسكران لا ثالث لهما، معسكر الإيمان، ويمثله المتقي وجماعته التي تأتمر بأمره، وتفتك بآفات الأرض، في تغلغلها الفوضوي. ومعسكر الكفر الذي نمثله كلنا مسلمون وأقباط ويهود وبوذيون... ما دمنا خارج جنون الثورة، وخارج مشروعها العنيف" (ص.60) مدينة السور، في كل أيامها، منذ أن وُجدت، لا تخشى أن تكون وطنًا يضم فئات المجتمع، وطوائفه كلها. الأعياد كلها واحدة، حفلات الأعراس، والختان: تقام غالبًا في العراء، ويحضرها هؤلاء وأولئك. الأمراض المهلكة والبسيطة، تصيب سكان أرض الكوثر الفقير المعدم، وفي الوقت نفسه، تصيب سكان لونا وراجيف، وحي كاهير، أرقى حيَّين في المدينة" ، فالثورة لا تبدو انتقامًا لدين معين، بقدر ما هي فوضى.
يتساءل الكاتب : "لماذا كل هذا؟ لماذا هناك في الدنيا، من يتبنى التدمير، والخراب، وسحل الدم، وتوجد آلاف الطرق التي يمكن أن تسلك من أجل تعمير المدمّر أصلًا، آلاف الحيل لصناعة ضحكة، لاختراع ابتسامة، لردم سكة موحلة؟" (ص.82) فتجيبه خميلة: ”تذكرت أن هناك من ردد بصوت متشنج، أن الحيات قد قصت رؤوسها، وفي معمعة بليدة كهذه، أي قبطي قد يكون حية، أي بوذي قد يكون، وأي مسلم مسالم، لم يعتدِ أو يسمح بالاعتداء، قد يكون حية كبيرة، ويقص رأسها بلا تردد".(ص.100)
نجح الكاتب في توظيف الأسطورة مع كيوبيد، إله العشق، دون إقحام أو تكلّف، واليوتوبيا، وكذلك توظيفه للسخرية السوداء حين تناول ذكورية الشرقي "الآباء قد ينتبهون إلى بقع الزيت الصغيرة، غير المرئية، على صدر قمصانهم الداكنة، وعدم وجود مزهرية، دفعوا فيها مبلغًا من المال، في مكانها المعتاد من صالة البيت، والعرج الطفيف الذي قد يصيب فرسًا غالية، من جراء حصاة علقت بحافرها، وربما نظرة خادمة بريئة، وبلا أي معنى، لكنهم نادرًا ما ينتبهون، أو لا ينتبهون مطلقًا، لخطوط ريشة الأرق على عيون أبنائهم، والشيخوخة التي تنخر قلوب نسائهم بفعل الحمل والولادة، وترتيب الأولاد حتى يكبروا"(ص.17) والتقليد الأعمى للغريب واستنساخ نهجه ليراه محاكاة غير ملائمة "ما أقبح السرج حين يوضع على ظهر بقرة"! ، بيع الذنوب في سوق الآخرة وشراء الغفران بالدم!، وحين صوّر تجيير اسم خميلة فصار "النعنانة" وخرجت مع نساء البلدة ليشاهدن "البيوت المهدمة، والأشجار المجتثة من عروقها، والحرائق التي لا يزال رمادها يتجدد باستمرار، والعقارب والثعابين تزحف علانية، والقطط والكلاب الضالة كسيرة الجناح بلا مواء أو نباح، أو حتى قمامة فيها رائحة طعام".، وكل ذلك بلغة شاعريّة انسيابية بعيدة عن التعقيد والدبلجة، مليئة بعنصر التشويق.
يظل الكاتب متفائلا، ف"نعرف كلنا، كيف دمر الغضب العقائدي أوروبا في عصر من العصور، واحتاجت لسنين عجاف طويلة، حتى استيقظت من جديد" .
إنها مدينة السور يا خميلة، إنه الوطن كله!!!
*** من الجدير بالذكر أن الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة "البوكر" لعام 2018
www.deyaralnagab.com
|