الحبّ شرير… في فلسطين! !
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 19.09.2019
لم يكن خطأً ولا صواباً
كان ذئباً
وهذا أجملُ ما فيه: حبُّكِ
في الثمانينيّات من القرن الماضي، كان لديّ طموح إلى كتابة قصيدة ملحميّة، ولم يتحقّق ذلك إلا خلال زيارة قمتُ بها لفلسطين عام 1984، حيث ولِدتْ بذرةُ قصيدة «الحِوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق»، التي غدت واحدة من أكثر القصائد حظًّا من حيث استقبالها، قرائيًّا، ونقديًّا، ونشرًا متعدّدًا، ولم تزل واحدةً من أكثر القصائد قربًا إلى قلبي!
تلك القصيدة التي صدرت في ديوان مستقلّ حمَل العنوان ذاته، استعادتها فلسطين مباشرة بعد طبعتها الأولى في عمّان، إذ صدرت، فلسطينيًّا، في طبعتين متتاليتين.
لقد حقّقتْ لي فلسطين حلم كتابة تلك القصيدة التي تناسلتْ -من خبرة كتابتها- قصائد ملحميّة كثيرة منذ ذلك الوقت.
وما لبثت فلسطين أن ألهمتني «الأمواج البرّيّة»، تلك الرواية، السيناريو، النصّ المتمرّد، بعد ثلاث سنوات، حين زرتها أوائل صيف 1987، قبل انتفاضتها الأولى بشهور. وقد احتضنت فلسطين هذا الكتاب ككتابة عن الانتفاضة ذاتها، لا عن مقدّماتها، مع أنّه كُتِبَ قبلها، ونُشر بأعجوبة في رام الله خلال الشهور الأولى للانتفاضة، بعد نشره كاملا في مجلّة «فكر» المصريّة؛ وهكذا كانت طبعته الأولى فلسطينيّة.
كان حُلمي، منذ زمن طويل، كتابة أوﭘـرا شعريّة يمكن أن تُقدَّم على المسرح، موسيقى، غناءً، وتمثيلا، ولكن ذلك لم يتحقّق، أيضًا إلا بعد زيارة لفلسطين عام 2016 لتقديم رواية «أرواح كليمنجارو»، وتوقيعها، حيث تفتَّحت بذرة هذا الديوان («الحبّ شرّير») في تلك الأيّام، وكُتِبَتْ بعضُ قصائده في فلسطين، هنا، على الرّغم من أنّ كتابة قصائد أثناء السفر، أو حتّى قصيدة، من الأمور النادرة جدًّا في تجربتي الشعريّة. وفي ما بعد، ويومًا بعد يوم، وعلى مدار عام، ظلّت الفكرة تنمو وتتّسع وتُعاش وتتوالد قصائدَ تُكمِلُ الواحدةُ منها الأخرى. كان ذلك العام أجمل الأعوام الشعريّة التي عشتها في حياتي؛ إذ لم يسبق لي أن كنت ممتلئًا بالشعر لفترة طويلة مثل تلك الفترة التي شهدتْ ميلادَه.
وإذا كانت فلسطين في العملين الأوّل والثاني هي أمُّ ذلك الحسِّ الملحميّ الوطنيّ الإنسانيّ، فهي هنا أمُّ هذا الديوان، الذي تحقق فيه حلم كتابة الأوﭘـرا، وتحقّق فيه شيء لم تشهده تجربتي، وهو كتابة ديوان حبٍّ كامل، من الغلاف إلى الغلاف، كما يقال، وهذا نوع من الدواوين (أعني دواوين الحبّ) لم يزل نادرًا في تجارب الشعراء الفلسطينيّين بخاصّة، والعرب بعامّة، إذا استثنينا نزار قبّاني.
تستعيدك فلسطين، شعريًّا، وأنت تكتب أعمالا إنسانيّة، ملحميّة، وتستعيدك حين تُرشدكَ إلى قلبك، وتمضي به إلى أصفى وأجمل المشاعر الإنسانيّة التي تمتلئ بها كلمة «حُبّ».
ثمّة حياة امتلأتُ بها، ولولاها لما حظيتْ بها هذه القصائدُ؛ فالشكر للحياة، لكلّ ما منحتْه لي من حياة في الحياة، بحيث أصبح الاختيار بين الحياة الحقيقيّة والحُلم الحقيقيّ أمرًا مستحيلا، فكلاهما واحد… إذ من حسن الحظّ أنّ الحياة تحقّقت حُلمًا، والحُلم تحقّق حياة، فكان هذا العمل الشعريّ الذي ملأني بسلامٍ داخليٍّ، وسعادة كبيرة، وبعث فيَّ تلك الأسئلة التي أرَّقت البشريّة وأرّقتني، من جديد، فتحمَّلتِ الذئابُ عنّي في هذا العمل الشعريّ رحلة القلق والبحث عن ذلك الجوهريّ، عن تلك الإجابة التي قد تكون شافية، مع إدراكي أنّ كلّ إجابة تدّعي أنّها شافية تمتلئ بنقصانها، ومنذ بداية وجودنا على هذا الكوكب. لقد تكثَّفتْ هذه الأسئلة في حكاية حبٍّ بين ذئب وذئبة، هما بطلا هذا العمل؛ فشكرًا للذئب، وشكرًا للذئبة، مُحرِّضته وملهمته وعثوره على أصفى ما فيه، وأروع ما فيه، في طريقهما لكينونتهما الواحدة، أو «أَنْتِنا»، كما تَرِدُ في الديوان.
نحلم بحرّيّة لا تتحقّق، أو تتحقّق ذات يوم، كالسجناء، ولكن لنتذكّر أنّ الحلم بالحرّيّةِ حرّيّةٌ نسكنها مثلما تسكننا، وهي قيمة لا يستطيع القطيع السّطو عليها، لأنّ القتَلة والسجّانين -بمختلف أشكالهم- لم يستطيعوا، بعد، أن يخترعوا تلك الأجهزة التي تُمكِّنهم من القبض على أحلامنا بالحرّيّة، مثلما امتلكوا كلّ الوسائل اللازمة لزجّ أجسادنا في الأقبية.
كلّ ما سبق، لأقول إنّ هذا العمل الشعريّ بقدر ما هو ديوان حبٍّ هو ديوان عن الحرّيّة والوجود، وهو محاولة للإمساك بذلك الجمال الذي كتبتُ عنه في رواية «تحت شمس الضحى» (2004)، التي تدور أحداثها في رام الله، الرواية التي جاء فيها: «نحتاج شيئًا جميلا، صورة جميلة، إنسانًا جميلا… مثل هذا الشخص الذي كتبتَ عنه، هذا ما نحن في حاجة إليه هذه الأيّام، أكثر من أيّ شيء آخر. نحن في حاجة إلى أن نقول لأنفسنا، قبل سوانا، إنّنا لم نـزل جميلين، رغم كلّ سنوات الموت التي عشناها تحت الاحتلال. بصراحة، جمالٌ كهذا، ولو كان رمزيًّا، يجعل الإنسان يحسّ بأنّه كان فوق الاحتلال لا تحته».
لقد سعدتُ، ذات يوم، حين التقطتْ هذا إحدى شابّاتنا، أو أحدُ شبابنا، وكتبتْ أو كتَبَ -بعد سنوات من صدور الرواية- على سور في غزّة: «غزّة فوق الاحتلال».
ويمكن أن أعيد صياغة تلك الفقرة من الرواية لأقولها بصورة أوضح: فلسطين فوق الاحتلال، وستبقى ملء الجَمال بكلّ أطيافه. لذا، لا أستطيع إلا أن أُعبِّر عن سعادتي، لأّن فلسطين تستعيد اليوم هذا الديوان مكتملا، وقد تفتّحت بذرته الجميلة فيها، بل لولاها لَما كان، كما استعادت ذلك «الحِوار الأخير» وتلك «الأمواج البرّيّة» حين نشرتْهما، كلّ واحد في طبعتين، فور صدورهما… فلسطين التي تستعيدنا في كلّ ما نحيا ونحلم… حيثما كنّا.
وبعد… كل الشكر للأصدقاء الأعزاء الذين سعوا منذ عامين لأن تكون هناك طبعة خاصة من «الحب شرير» لفلسطين، ولم يفقدوا الأمل، على الرغم من الصعوبات التي واجهتنا، ولم يتراجعوا عن «حبهم» لهذا العمل، مثل كلّ العشاق الرائعين.. فديوان عن الحبِّ يحلم بالوقوع في الحبِّ أيضًا!
٭ مقدمة الطبعة الفلسطينية من الديوان الذي يصدر اليوم، الخميس، في رام الله عن دار طِباق للنشر والتوزيع.
www.deyaralnagab.com
|