الهمس لأغصان الأشجار!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 17.04.2020
تيقنت أن مرضته هذه المرّة هي مرضة الموت، رغم أنها تتشبث بالأمل وتدعو الله أن يشفيه حتى لا تبقى وحيدة بعده.
تراه يتلاشى تحت نظرها فيتفاقم حزنها عليه كثيرا، فمعاناته لم تنفع معها الأدوية المهدئة، وأنواع الأدوية التي يبتلعها يوميا، وحالته تردّت إلى حد اليأس من شفائه، وقد صارحها الطبيب وهو يفرك يديه بحالته الميئوس منها داعيا الله أن يرحمه ويلطف به.
يرحمه الله ويلطف به! هذا يعني أنه لا شفاء له، وانه لن يسعفه أي دواء، بل إن الطبيب نصحها: لا تتعبي نفسك، وادخري فلوسك لما بعد رحيله.
اتصلت بأبنيهما وابنتيهما، وأبلغتهم أن والدهم يرقد ميئوسا منه، وأنه في آخر أيامه، وأنه يتأوه كثيرا، ويبدي حزنا كثيرا لا يبوح بأسبابه، وإن كانت تعرف أن بعدهم عنه، وعدم حضورهم لزيارتهما، سبب تأوه وحزنه، وصمته الدائم، وأنه يتجنب الحديث عنهم نفورا من جحودهم.
حضروا وتعانقوا معا بلهفة، فهم يقيمون في عدّة بلدان عربية، وبعد السلام قرروا إعادة نقله للمستشفى رغم ممانعته، ربما تعبيرا عن ندمهم وتقصيرهم.
في المستشفى جلسوا في قاعة الانتظار، وتناوبوا المغادرة خارج المستشفى للتدخين، بانتظار رحيل الأب، الذي أبغلهم الطبيب أنه لا أمل في شفائه، رغم أن رحمة الله كبيرة..ولكن!
جال بعينيه على وجوهه البنتين والشابين، ولم يسأل عن زوجتي ابنيه وزوجي ابنتيه، ولا عن الأحفاد، فهو اعتبرهم منذ سنوات غرباء، فسبع سنوات مرّت على عمل الابنين في الخليج، ورحيل البنتين مع زوجيهما، لم ير وجه أي منهم جميعا، جعلت قلبه يتحجر من جهتهم، ويتجنب ذكر الجميع، رغم محاولة أمهم تخفيف غضبه، والتماس العذر لهما ولهن، فالغربة تشقي، وتنسي، وتفسد القلوب، والمجيء مكلف، والحياة صعبة التكاليف يا ابن الحلال!.
فتح فمه وشهق وارتجف بدنه والتوى رأسه على الوسادة وهمد بدنه. ناحت المرأة بما تبقى فيها من قوّة بدن هي التي نيّفت على السبعين، والتي عاشت مع رجلها خمسين عاما، فقد تزوجها وهي في العشرين.. وكان هو في الثامنة والعشرين. لم تندم على يوم عاشته معه، فقد عاملها بحب ولطف واحترام، ولم يسيء لها يوما، ولا تطلعت عينه إلى غيرها...
انحنيا على والدهما، والبنتان ناحتا متفجعتين.
حضر الطبيب، ورغم تيقنه بأن الرجل فارق الحياة إلاّ أنه جس نبض يده، وأبدى أسفه وترحم عليه وأغلق جفونه وربت على صدره وكأنه يقول له: هذه نومتك الأخيرة الطويلة...
قال أكبرهم:
- إكرام الميت دفنه، لذا سندفن أبي يا أمي...
ظلت صامتة ورأسها بين يديها.
تم غسله ثم حمل في سيارة الإسعاف، وخلفها سارت خمس سيارات حملت الأقارب والجيران وبعض المعارف. ووري المرحوم الثرى في قبر حفر سلفا، وقبلت التعازي لثلاث ليال، ثم تفرّق المعزون.
بدا الابنان والبنتان منهكين، فالنوم جافى عيونهم، وهم عجزوا عن سماع كلمة من أمهما، فهي لا تقول شيئا، وجميعهم يلحون عليها بأن تطلب منهم ما تريد، ولكنها سادرة في صمتها.
في صبيحة اليوم الرابع تنبهت إلى أن الرؤوس متقاربة وأن همسا يفّح بين الشقيقين والشقيقتين وبأن على الوجوه توتر.
انحنى الأكبر على رأس والدته وسألها:
- يا أمي: إذا شئت يمكن أن نبيع البيت، وأن ندخر لك مبلغا، وندخلك مأوى المسنين، وهو أكرم لك وأليق..وسنطمئن عليك دائما عندما نحضر في الصيف!
رفعت رأسها ومررت نظرها على وجوههم:
- يمكنكم أن تبيعوا البيت بعد موتي. أنتم تظنون أنني سأعيش في هذا البيت وحدي، أليس كذلك؟! لقد عشت مع والدكم قرابة الخمسين عاما، وهنا سأكمل معه، فهو مات بالنسبة لكم، ولكنه حي معي. بيعوا البيت وتقاسموا ثمنه بعد موتي، فهذا البيت بنيناه قبل أن ننجبكم..وأنتم لن تحافظوا عليه..مع السلامة، ارحلوا..عودوا من حيث جئتم.
نهضت ومضت صامتة بين أشجار الحديقة المحيطة بالمنزل وأخذت تتحسس الأغصان، وتنحني عليها وتهمس لها:
- زارعك مات، ولكنني سأعتني بك، فقد أوصاني أن لا أهملك حتى تبقي خضراء...
تأملوا والدتهم، الأخوان والأختان، ثم غادروا حاملين حقائب صغيرة فيها غياراتهم القليلة، فهم حضروا في إجازة طارئة سريعة لإلقاء النظرة الأخيرة على الوالد ولبيع البيت وتقاسم الحصص بينهم، ووضع الوالدة في مأوى للعجزة..لكنهم يرحلون مسرعين وهم يتهامسون بأسف على الخسارة : أمنا عنيدة كوالدنا...
www.deyaralnagab.com
|