قصة قصيرة.. لي فيها أكثر من ناقة وجمل!!
بقلم : سفيان الجنيدي ... 06.01.2022
“كلكم راعٍ و كلكم مسوؤل عن رعيته” لطالما استوقفني هذا الحديث و كان له الأثر البالغ في محطات عدة في حياتي، و أظن أنه احد الأسباب التي جعلتني أتأخر إلى سن الاربعين في خوض تجربة الحياة الزوجية و الاسرية، تلك التي اختزلها بكلمة واحدة: القرارات.
قراراتك قبل الحياة الاسرية،محدودة النتائج و التأثير، صوابها و خطأها ينعكسان فقط على عالمك الشخصي، و لكن بعد الولوج في مغامرة الحياة الاسرية، إما أن تغدو قرارتك بوصلة الهداية او مفازة تلتهمك و جميع افراد سفينتك الشخصية.
لست بالإنسان الانفعالي، و ربما يحق لي القول أنني ذو خبرة طويلة في الحياة، اذ انني شارفت على الرابعة و الخمسين، و هذا ما جعلني أحزم أمري، و أسارع في بتر اقامتي في ارض الاحلام مثلما يبتر الطبيب العضو المتعفن. لم و لن اتردد، تماماً مثلما يفعل الطبيب عندما يتأكد أن الحل الأمثل يكمن في بتر عضو بقائه سيؤدي إلى انهيار المنظومة بأكملها.
لنحزم الامتعه، و لنعود أدراجنا و نغرس اشجارنا في أرضٍ تحبنا و نحبها، حسبنا ما وجدناه في اقامتنا في هذه البلاد الغريبة.
أعلم أن هذا القرار قد لا يروق في الوهلة الأولى، لاولئك الذين ما زالوا يعيشون تحت عبائتي، قد يتفاجئون، و لا شك ان لديهم الميل للمجادلة، و لكن أعتقد أن هذا كله مبعثه أحكامهم المشوبة بالعاطفة لقصر نظرهم جراء قلة الخبرة أو جراء تغليب الذاتي على الجمعي.
نعم بعد إقامة أقل من ثلاثة اشهر قررت طلاق ارض الاحلام و العودة إلى الوطن العربي العائم على بحرٍ من العلل و المآسي، ماذا أصابكم! كأني أرى الوجوم على وجوهكم! بصراحة، ما زلت لا أعلم علة ذلك! أتعتقدون ان امرء طحنته الحوادث و السنون يتخذ قرارته المصيرية إعتباطاً.
صدقوني الامر ليس كذلك البتة. فالقرارات المصيرية وقودها الارق و الهم، يتخذها المرء بعد تمحيص و تفكير و دراسة مستفيضة يوازن فيها بين إيجابيات و سلبيات الامر الذي هو بصدد البث فيه استناداً على معارفه و خبراته المتراكمة، و قد يجري دولاب الروليت فيخالف توقعاته، و عندئذ يجد نفسه بين خيارات عدة، فإما المُضي قُدماً بالطريق التي اختارها و الاستعداد للمآلات التي ستتمخض عنها أو اتخاذ قرارات تصحيحية لذلك القرار أو أن يعمد إلى فلسفة الاحلال، اذ يجد نفسه مجبر لاتخاذ قرار يلغي به القرار السابق لتبدأ مرحلة جديدة في حياته، مرحلة تقبل النتائج قانعاً او رفضها متمرداً في البداية، راضخاً في النهاية أو قبولها على مضض و العيش في متاهة عوالمها المغلّفة غالباً بالندم و الحسرات.
نظرت إليه و لم تتفوه بكلمة، تعلم في قرارة نفسها أن قراره أقرب إلى الصواب، ولكن النتائج، آه من النتائج! أمواج من الأفكار بدأت تتقاذفها و ترسيها كل مرة على ارض مليئة بالاشواك و مصير مجهول، و تُسعّر جذوات القلق الكامنه فيها، و تساؤلات مجرد التفكير فيها يعطل دماغها عن العمل مثل المحول عندما تنقطع عنه الكهرباء، كيف سنعود و قد استنفذنا كل ما نملك، كيف سنعود و نحن لا نملك بيتاً او جحراً يستر عظاماً ما زالت ندية، و كيف ……. و الف كيف لا جواب لها.
أستطيع قراءة ما يدور في خلدك، لا عليك، ستكون الأمور على ما يرام.
لا اريد ان اكدر صفوك، الوقت ما زال باكراً، لكنني بالامس رأيت الكراهة في وجهك من احاديث أخي فارس.
بالعكس، بل كانت ليلة مثمرة، أطلعني فارس على معلومات ستجعلني انعطف انعطافة حادة في تفكيري، و لكن لا ضير من الاستماع أكثر له. هل ما زال نائماً؟! أيقظيه و أعدوا لنا الإفطار.
سأوقظه و أوقظ الأولاد و أعد الإفطار.
سأكون ممتناً لو أخبرتيه أن يرحمنا من نصائحه و مواعظه و أن يحتفظ بها لنفسه و أن يمتثل لرجائنا السابق، الاقتصار فقط على الإجابة على اسئلتي.
لا تبالغ، إنما يريد مصلحتنا.
أعلم ذلك. على كل حال، سأذهب لشراء علبة سجائر ريثما توقظيه و تعدي الإفطار.
مستيقظ! كنت أهم بايقاظك.
أين عقيل؟
ذهب لشراء علبة سجائر.
هل ما زال مصمم على رأيه!
تعرف عقيل جيداً، لقد كان صاحبك قبل أن اتزوجه.
أعرفه جيداً، و لكن ساحاول إقناعه في العدول عن رأيه، أعلم انك تريدين ذلك، و أنا كذلك.
لا يهم ما اريد، فذلك لن يقدم و لن يؤخر، على كل حال، تستطيع أخذ حمام ريثما أعد لكم الإفطار.
أتمنى أن يقنعه، هذه فرصه يتمناها ملايين الناس حول العالم، و لكن آهٍ من عقيل إذا ازمع رأيه حول موضوع ما، لاعمار الصحراء أسهل من أن يغير عقيل رأيه.
فارس، الإفطار جاهز، و عقيل في انتظارك.
هل ما زلت مصمماً على رأيك، أم لعله بتأثير……
على رسلك، لا داعي للخوض في هذا الامر، يبدو أننا على طرفي نقيض، و الحق أنني أميل إلى رأيه: هو أعلم من غيره بما يلائمه، و أنا اشاطره نفس النهج الذي يتبعه في حياته: ليس معيباً تراجع المرء عن أمر درسه سابقاً و عندما شرع فيه وجده يخبأ في احشائه الهلاك و الفناء.
و لكن أكمل لي، ماذا حدث بعد ذلك؟!
كفاية! لقد وصلنا إلى حدٍ لن تفلح معه فلسفة التغافل. لا استطيع أن اكذّب هذا الشعور الذي تملكني، لا أجد في بلاد العجائب هذه إلا رائحة موت، تيه، و عائلة مصيرها التفسخ و الضياع مثل قلادة انفرط عقدها و تناثرت حباتها، فمنها من انخدشت و تغيرت ملامحها و ضاع بريقها، و اخريات تكسرن و لم يبقَ لهن اثرا.
ثلاثة أشهر مضت على سقوطنا في أرض العجائب هذه، و منذ اللحظة الاولى و أنا أفكر في سؤال واحد لطالما شاغلني و أرقني: كم من الوقت يتوجب علينا التغافل عما يجري حولنا و التظاهر أننا أتخذنا القرار السليم في قدومنا إلى هذه البلاد؟!
يا لهذه البلاد ما أغرب طباعها و تقاليدها ! في بداية لقاؤكما، لا تحفل بك و لا تقدم لك وفادة الضيوف لبضعة أيام، ثم تطلعك بعد ذلك على اسواط عذابها التي تخفيها لك، صدقني لا تفعل ذلك البتة. مجرد ان تهبط على ارض المطار، تبدأ تجربتك الأولى المريرة، أتذكر تلك اللحظات جيداً، حينما هبطنا في مطار” هيرو” و فصلونا عن بعضنا البعض مثلما تفصل القاطرة عن المقطورة، و ساقونا مثل أي خارج عن القانون إلى غرفة التحقيق، لماذا؟! لأننا قادمين من أراضٍ تعج بالارهابين؟! و من سواكم استلبها أمنها و استقرارها و أنبت فيها كل مجرمي التاريخ؟!
اكثر من ثمان ساعات متواصلة في غرفة بيضاء خالية من أي اثاث يبعث على الونس او أي نوع من حياة، يتركونك وحدك ردحاً من الوقت حتى تزداد وحشتك و تستسلم للهواجس مثلما يستسلم النهار لهجوم الليل الشرس عليه. تطالع هذا الجحر الذي اقتادوك إليه، أول ما يتبادر إلى ذهنك، تجربة القبر الموحشة. و يبدأ هذا الشعور بالتنامي و يصل ذروته عندما يبدأ التحقيق معك. تتخيل انك في يوم القيامة و قد بدأ حسابك، مع فارق بسيط، أن الذين يستجوبونك ليسوا ملائكة محايدين، بل هم ملائكة العذاب.
ماذا سيفعلون بنا؟! هل سيرجعوننا من حيث هربنا؟! يأتي المحقق و تبدأ لعبة عض الأصابع، يحاول بشتى الطرق استفزازك، يعيد السؤال نفسه بعدة صيغ، يتركك و تعود مرة أخرى وحدك في هذه الحفرة، تعلم أنهم يراقبوك، تعطي الحركات اللإرادية إجازة و تتمنى عليها أن تمتثل لاوامرك، تحاول السيطرة على هدوئك، لا أعلم وقع هذه التجربة على الاخرين، و لكني للأسف نجحت في ذلك.
يرجعون مرة تلو الأخرى، و بعد الوقت المعلوم يفرجوا عنك و يتركونك للمجهول الذي ينتظرك على أحر من جمر.
تخرج من عالم الحساب و الاستجواب، هلليلويا، لقد انتهى الفصل الأصعب من الامتحان، تنظر يمنةً و يساراً، أين مارد الفانوس الذي سيريني مقعدي في الجنة؟! لا اعرف، أتراه ضل الطريق! على كل حال، لكل بلد قوانينه و تقاليده، ربما الفانوس السحري سيكون في المرحلة المقبلة!
تخرج من المطار، و تقسو على نفسك، و توبخها و تقمعها. هيه …. حذاري من تهويل الامر، لقد كان اجراءً شكلياً، و كل إنسان معرض له، المهم أنني الآن على ارض الاحلام و بشكل قانوني. استعدوا الآن للحرية و لمغامرات الف أمريكا و امريكا، و ما أن تسير السيارة حتى يتملكك شعور غريب، المدينة تعج بالحياة و لكن ثمة رائحة غريبة في الهواء توقظ مجسات الرعب في نفسك، أعرف هذه الرائحة جيداً و لكن أين كان لقائي الأول معها، أين….! نعم تذكرتها. أنها رائحة الموت.
أتأمل وجوه زوجتى و أطفالي، منتشين، يكتسون الحياة فرحين، ولكن لماذا يتناقض احساسي معهم؟! لماذا لا استطيع ان افرح مثلهم؟! هل أصاب دماغي تماس كهربائي فلم أعد استطيع التمييز بين شبق الحياة و رائحة الموت! هل التبس عليّ الامر؟! أتمنى ذلك.
أبي، أنظر إلى يافطات المحلات، مكتوبة باللغة العربية! ألم تخبرنا أننا سنذهب إلى أمريكا!
نحن في أمريكا يا بني، و هذه المنطقة العربية في هارلم.
وصلنا أخيراً للبيت! أود الاستحمام بعد هذه الرحلة الشاقة، أتمنى أن استطيع إزالة الاوساخ و ما علق في مخيلتي من تجربة التحقيق و رائحة الموت تلك المتناثرة في الهواء.
لم ننتظر كثيراً حتى نبدأ في التعرف على هذا الحيز الجغرافي الذي سيأوينا في قادم الأيام، منذ اليوم الأول آثرنا قضاء معظم أوقاتنا خارج البيت في محاولة كسر الجليد و انشاء علاقة تآلف بأسرع ما يمكن مع هذا المكان، أعلم ان خلق حالة من التآلف و المؤانسة مع مكان ما ليس بالامر السهل، و قد يمضي المرء جل عمره و لا يوفق إلى ذلك، لكن الّا يألف المرء السنن الكونية في مكان ما، فهذا ما لم يكن في الحسبان!
الظواهر الطبيعية هي نفسها و لا تختلف من صقع إلى آخر، الاختلاف فقط في درجة وطأتها، فالشمس في بلادنا هي نفسها التي تمدنا باشعة الحياة في امريكا، و القمر هو نفسه الذي يعبس أو يبتسم لنا من كبد السماء، و لكن منذ أن وطأت هذه البلاد أحس أنني و سنن الكون و نواميسه غرباء عن بعضنا البعض! و كأننا في بداية التعارف! لا أعرف ما سر تجاهل الواحد فينا للآخر؟! أسبوع و ما زلنا لم نألف بعضنا البعض، حقاً لا أعلم ما سر ذلك؟! هل ابالغ؟! أم أن الأمور اختلطت عليّ؟! لا أعرف، و لكني ما زلت مصراً، إحساس غريب ما زال يغتصب هدوئي و يشعل افران القلق في داخلي.
أنقضى الأسبوع الاول و تعرفنا على حيز جغرافي، نسبيا، كبير في المدينة، زرنا بعض المناطق الحافلة بالمياه و الأشجار الوارفة الظلال، بدأت زوجتي و أطفالي ينغمسون بجمال الطبيعة و سحرها، أما أنا، فما زال ذلك الإحساس الغريب يضيّق علي انفاسي، حتى فرحتهم تلك لم تستطيع إزاحة ذلك الإحساس المزعج الذي يجثم بين الحين و الاخر على صدري! لا أعرف لماذا! ما سر هذا الإحساس ؟!؟ قلبت الامر في رأسي مراراً، لم أجد مسوغًا آخر غير التوجس من المجهول.
غداً أول يوم لك في العمل، أعلم أن هذا العمل لا يناسب مؤهلاتك ، و لكن كما أخبرك أخي أبو الياسين، هذا عمل مؤقت، تعلم أن خبرته طويلة في هذه البلاد، و هو على اطلاع بخفايا قوانينها، أخبرني أن الأمور ستأخذ منحنى مغاير عندما نقدم طلب اللجوء و نحصل على رقم التأمين الاجتماعي و الذي يخولك العمل في أي قطاع تريده، أعلم ان البدايات صعبة للغاية و لكن علينا أن نضحي من أجل غدٍ اكثر اشراق.
صدقت، لا بد من التضحية.
بما أننا شرعنا في الحديث عن اللجوء و العمل، متى تنوي تقديم طلبات اللجوء؟ الا تعتقد أن الأفضل أن نسارع في انجاز هذا الامر؟
في التأني السلامة، ما زال لدينا متسع من الوقت، نستطيع تقديم الطلب في أي وقت ما دمنا لم نتخطى فترة ستة أشهر.
لم تخبرني عن زيارتك لمحطة الوقود اليوم، هل ارتحت لمكان العمل؟
اليوم قابلت مالك الكازية، يبدو انه لطيف، فلسطيني أصله من الضفة الغربية، اتفقنا على كل شيء، سأعمل في وردية الصباح، باستثناء الأسبوع الأول، أخبرني انني بحاجة للتدريب و ان العامل في الوردية المسائية سيتولى أمر ذلك.
على كل حال، مدة العمل ١٢ ساعة يومياً، و العمل متوفر على مدار الأسبوع. أتفقنا على ستة أيام عمل في الأسبوع و يوم الجمعة إجازة، الراتب سيكون ١٣ دولار بالساعة و يدفع اسبوعياً.
بالرغم من وجود بعض التحفظات، و لكن مجبراً أخاك.
الله يفتح عليك و يجبر خاطرك بعمل على قد قيمتك.
صباح الخير، الله يعطيك العافية، كيف كانت ليلتك ؟! ان شاء الله ما تعبت؟
دعيني انام، ايقيظيني الساعة الرابعة عصراً، سأخبرك لاحقاً.
استيقظت! سأعد لك الطعام.
لا، أطهِ لي فنجان من القهوة ريثما أصلي.
أخبرني، كيف كانت ليلتك؟
الحمدلله، مضت الليلة الثانية أيضا على خير، كنت بصحبة الشاب اليمني العشريني، سعيد ، شاب لطيف و مؤدب و يخفف عني وطأة العمل و اغتيال الذات.
إغتيال الذات؟! ماذا تعني؟!
لا عليك، لا أود بدأ كلامي بالشكوى و لا انوي تعكير صفوك. هل حدث مكروه في العمل؟! أراك مهموماً؟!
سأخبرك و لكن لا تقاطعيني.
الوردية الليلية نوعاً ما غير مكتظة بالزبائن، لكن شريحة الزبائن الذين نتعامل معهم: معظهم متسولين و بائعي المخدرات و متعاطيها، إضافة إلى نسبة قليلة ،لا تذكر، من الزبائن المضطرين للخروج ليلاً لشراء بعض المواد التي تنقصهم.
المحطة تقع في حي معظم قاطنيه من الامريكين ذوي الأصول الأفريقية . لا اخفيك أنني ما زلت مذهولاً من هول ما عايشت. تفاجئت من لغتهم المليئة بالاجرام والعنف و الملغومة بسيل من الشتائم اغزر من ماء منسكب في ليلة مطيرة جداً، عنيفين و لا يأبهون بحياة الاخرين، يحاولون الجنوح إلى العنف تعبيراً عن احساسهم الدائم بالمظلومية التاريخية، و عن رفضهم واقعهم الاجتماعي الأليم الرافض لوجودهم و يحتجون على ذلك بعدم تكافؤ الانفاق الحكومي و الذي يقتر عليهم مع بذخه المفرط في مناطق الامريكان الاوروبين و يصرون على أن عدم تكافؤ الفرص في حياة كريمة هو أمر مقصود و مدروس بعناية من أصحاب القرار، أستسلموا لواقعهم المأساوي الملئ بالظلم و الجهل و الضياع و الفقر، و لم يعد لديهم النية و الطاقة في التغير.
في الخامسة صباحاً، ارتاد المحطة رجل اسود سبعيني، أخبرني سعيد أنه كان مدرساً لمادة التاريخ للمرحلة الثانوية، حالياً هو متقاعد و يعيش لوحده. رجل لطيف للغاية و لغته الإنجليزية مهذبة. جالسته قرابة الساعة و أكد لي ما أختمر في رأسي من رأي حول الامريكين الافارقة.
لم اكتفِ بذلك، بل أنني تحدثت لموظف الوردية الصباحية و الذي أيد تقريباً جميع ملاحظاتي حول شريحة الزبائن الذين نتعامل معهم.
قبل الخروج من المحطة أضاف قليلاً من الملح و البهارات على الجرح الذي هشّم روحي: عمي، اوافقك الرأي و أعتقد أن معظم ملاحظاتك في مكانها ولكن، الصورة اسوء و اقتم من ذلك بكثير.
رجعت للبيت و دماغي يسترجع رغماً عني، المرة تلو الأخرى ، الصورة اسوء و اقتم من ذلك بكثير، الصورة اسوء وأقتم من ذلك بكثير.
اذا شعرت ان العمل غير مناسب، فلا تذهب، تستطيع إيجاد عمل اخر.
اسمعي، أود أن اشدد على نقطة قد تكون غائبة عن ذهنك، أو أنك كنت شاردة الذهن عندما شرح اخوك أبو الياسين سير الاحداث التي سيعيشها أي مغترب في أول سنينه في أرض الاحلام، و خصوصًا طالبي اللجوء.
يحتاج المرء من ستة أشهر إلى سنة حتى يحصل على رقم التأمين الاجتماعي، و لغاية ذلك التاريخ، خيار العمل الوحيد امام الوافد الجديد بائع في محطة وقود او سوبرماركت و في المناطق المحفوفة بالمخاطر.
لقد فكرت في الموضوع طويلا، حياتنا المهنية في أول سنين اقامتنا في بلدٍ الإنكل سام ستكون مع شريحة العرب الذين يعمدون الى الكنز بسرعة الضوء، أولئك الذين لا يتأتى لهم ذلك إلا بالطرق الملتوية، و كما تعلمين أن درجة الخطورة في الاعمال تتناسب طردياً مع الأرباح، لذلك يعمدون إلى تدشين أعمالهم في مناطق السود و الهسبنك” الناطقين بالاسبانية، تلك الطبقات الجاهلة و الخطرة و التي تصطدم بالقانون على مدار الساعة،
يعني بلغة عربية لا يكتنفها أي غموض : تذكري دائما أن حياة الطبقة العربية المثقفة الامنة تبعد عنك على أقل تقدير خمس سنوات، و حتى ذلك الحين سنضطر إلى قبول العيش وفق هذا السيناريو المرعب.
يا ابن الحلال والله متذكرة كل هذا الكلام، بعين الله، ما في بايدينا إلا الصبر.
صحيح، ما في بايدينا الا الصبر، و على هذا الاساس، ما تقترحي عليّ ترك العمل، لانه لا يوجد امامنا خيار آخر الا العمل ضمن هذه الظروف المشحونة بدوام التوتر و الخوف و عدم توقع القادم.
الفصل الأول: موت لا قيمة له
غداً سأبدأ العمل لوحدي في الوردية الصباحية. العمل شاق للغاية و مضغوط، بالكاد يستطيع المرء قضاء حاجته او تناول الطعام او الصلاة. أصعب الأوقات على الاطلاق، عندما يهم المرء بالصلاة، عليه اغلاق المحطة، و عندئذ عليه تجهيز نفسه لمضايقات غير محدودة و غير متوقعة من الزبائن، يبدأون بالصراخ و الطرق على الباب بصخب حتى ليخيل للمرء أنهم سيقتلعون الباب و سيقتحمون المكان.
يؤدي المرء الصلاة دون خشوع او طمأنينة و لا يشعر بتلك اللذة و التي كانت من المفترض أن تكتنف جميع كينونته بل على العكس تماما يتملكه شعور القلق و الضيق و عدم الراحة و الخوف، شعور يحتلك جراء خطر ما ينتظرك في الخارج و قد يفتك بك في أي لحظة مثل شعور غزالة حالمة خرجت للتنزه، و ضربت بتعاليم ذويها عرض الحائط، و تفاجئت باقدار مزلزلة مليئة بآلام الصدمة الأولى و تجربة الاندثار.
هليلويا، غيب أسفر عن واقع لم نكن لنحلم أن نراه حتى في أفلام الخيال العلمي. ساقتنا أقدارنا إلى المكان الأمثل للعمل! شريان اقتصادي كل ما فيه فاسد، نظام غير قانوني و لا أخلاقي جميع أركانه مجرمون. كل ما يخطر على البال من مخالفة القانون تجده في هذا القطاع: تلاعب بالأسعار، متاجرة بالدخان المهرب، بضاعة منتهية المدة و الصلاحية، بضاعة مسروقة يتم شراؤها من لصوص المتاجر، مقايضة بطاقة دعم الحكومة للأسر الفقيرة بمبالغ نقدية، و في معظم الأحيان تكون النسبة ٦٠ إلى مئة، زبائن عنيفون يريدون الحصول على المال بأي ثمن لشراء المخدرات، لذلك تجد غالبيتهم يقايضون برنامج دعم الاسر الفقيرة بالاموال، يتملكهم إحساس دائم أننا نسرقهم أو نغبنهم، لذلك لا يتوانَ أيا منهم في سرقة أي شيء إذا اتيحت له الفرصة، و هم دائماً على أهبة الاستعداد لافتعال أي مشكلة لكي يقوموا باتلاف او تخريب أي شيء يجدونه في طريقهم، و كل يوم لنا مغامرة جديدة، بطلها احد الزبائن المتعبين من الحياة و ضحاياها موجودات المحطة العينية و أعصابك و في بعض الأحيان حياتك.
ثلاثة أسابيع، نفس الروتين الممل، تقضي معظم وقتك في محطة الاطياف المتعبة من الحياة، تودع كل يوم زوجتك و اطفالك إذ ربما يكون اللقاء الأخير، أستلم العمل من سعيد، يجالسني نصف ساعة، يحدثني و يطلعني على مخططاته و امنياته في قادم الأيام.
و الله يا عم أبو العبد، إني أحبك في الله، شيء ما يجذبني إليك، و يجعلني اتوق لسرد تفاصيل كثيرة من حياتي لك، آه يا عم، لا تفصلني سوى أربعة أشهر لاحقق احلى امنياتي، الزواج من حياة. أربع سنوات و القدر يحول بيننا، قدمت إلى هنا للحصول على بطاقة الإقامة الدائمة، و منذ ذلك الوقت لم يتسنى لي العودة و رؤية الحياة. الحمدلله، اكرمني الله عز وجل بالاقامة الدائمة و سددت جميع ديون والدي، و الان استطيع الزواج و ان أكون مسؤولا عن عائلة، و لعل الله أن يكرمني و أستطيع الاستمرار في مساعدة والدي في تغطية نفقات اخواني الثلاثة و أمي. المهم في الامر، أننا حددنا موعد حفلة الزفاف.
أربعة أشهر لا غير يا عم ابي العبد، و تلتقي الروح مع الجسد، بعد انفصال لا ارادي أجبر أرواحنا على العيش في عالم الاحلام و الامنيات هروباً من وطأة واقع مرير حرمّ لقاء الاحبة و لم يمنحهما حقهما في إطفاء جذوات العشق و الجوى المعشعشة في نفسيهما.
بعد مضي شهر، وذات صباح، كئيب، نكد بات ليلته منزعجاً، استلب هدوئنا و زلزلنا بخبر أثقل على صدري أكثر من غيري لتوطد علاقتي مع سعيد. قالت الاقدار كلمتها الفصل،و أصابت ارواحنا المشحونة بآلام و شقاء و عذابات الزمان بسهم غادرٍ أجهز على ما تبقَ فيها من ذلك السراب التي كانت تظنه أملاً و أغتالت احلام سعيد و حياة، سهم أردى سعيداً جسداً ممزقاً لا أحلام فيه و لا حياة.
آه، كم يتلوع قلبي و ينفطر كلما تذكرت سعيدا، قتلوه بلا جريرة، قتلوه بثمن بخس، و باعصاب هادئة، و في مجتمع صامت، لا يكشر عن انيابه و ينتفض لمقتل شاب في بداية مغامرته مع الحياة، فهذا الامر ينظر إليه بعين المألوف في الحياة اليومية في شيكاغو. قتلوه بكيس شيبس، هل يمكن لكائن من يكون التخيل مجرد التخيل، إغتيال المستقبل من أجل كيس شيبس!
آه كم ينفطر قلبي على واقع شبابنا العربي! أحاور نفسي و ما زلت لا أجد جواباً لذلك النداء الخفي المقموع في عقلي: هل أغتاله قدره أم قرارتنا الاعتباطية! كم أنا مشفق على نفسي لأنها أُجبرت على عيش مأساتك يا سعيد! لن أشغل نفسي بعد اليوم بماهية المسوغ وراء ذلك الاغتيال، فالمسوغ ليس بأهمية الواقع المرير: لقد أُغتيل المستقبل بثمن بخس، حقاً هذا موت لا قيمة له.
الفصل الثاني : حياة السود مهمة و كذلك نقودهم
إلى متى علينا التغافل عن جهنم التي سقطنا فيها؟!
ما يزال هذا السؤال يطفو للسطح، يغافلني المرة تلو الأخرى، يطرق مستودع اعصابي، يفقدني هدوئي بعض الوقت و لكن سرعان ما أقمعه و أركنه بعيداً في دهاليز ذاكرتي.
تكلمت مع أشخاص كثر من أبناء الجاليات العربية حول هذا الموضوع، جلهم يفندون الموضوع من منطق مثقوب، يصرون على مخادعة أنفسهم، يحتجون أنه لا يوجد أمامهم خيار آخر، إما الموت في بلادنا من الفقر و قلة الحياة، أو المخاطرة بارواحهم في هذه البلاد، و يفضلون المخاطرة في هذه البلاد بالرغم من علمهم المسبق باقدار الحسرات و الندم و التي قد تهبط عليهم قبل أن يرتد طرف الواحد فيهم، و يحتجون انه بالرغم من ذلك كله، إلا أنه توجد فرصة للنجاة و الحياة.
احب الاستئناس باراء الاخرين، كما اخبرت سابقاً، دون الانزلاق الى مجادلة عبثية معهم، و حيث أنني لست انسان انفعالي و أتأنى في اتخاذ قرارتي المصيرية، و مسألة بقائي في ارض الاحلام أو العودة الى الوطن العربي لم تكن استثنائاً، لذلك آثرت اعطاء نفسي مزيداً من الوقت حتى تصبح الصورة أكثر وضوحاً و لكي لا اشعر بتأنيب الضمير أياً كان القرار.
بعد حادثة مقتل سعيد المروعة، تركت العمل في المحطة، و
بقيت في البيت ، و بعد ثلاثة أيام من العزلة وجد لي أبو الياسين فرصة عمل في سوبرماركت عربي قريب من تقاطع ماديسون مع سيسرو، في حي قاطنيه من الامريكين الافارقة، و لكنهم اشرس و أعنف من أولئك القاطنين في مكان العمل السابق. أتفقت مع المالك، شاب يدعى عبدالله، في منتصف الثلاثينات، أصله من الأراضي المحتلة، على الراتب و عدد ساعات العمل اما بالنسبة لوقت العمل فاتفقنا على العمل في الوردية الصباحية برفقة خالد، اخو المالك، شاب في نهاية العشرينات، مادي جداً لدرجة انه قد يصلي ركعتين لله و ركعتين للدولارات. توالت الأيام بروتينها المقيت و بين الحين و الاخر كانت تفلت شذرات من ما تخبيه اقدارنا من عنصر المفاجأة و العنف. استطعت بعد فترة وجيزة بناء بعض العلاقات الجيدة مع الزبائن داكني البشرة، كنت أغض النظر في كثير من الأحيان عن حمقاتهم و كذلك اذا كانت اثمان المشتريات ناقصة بعض الشئ ، خضت معهم نقاشات مطولة حول أوضاعهم المأسوية و إمكانية العمل على تغيرها للافضل، و اليوم خضت نقاشاً مع شاب منهم، اخبرته اننا نحس بمأساتهم لأننا و إياهم على صعيد واحد، نعايش ظلماً من نوع آخر على يد المحتل الصهيوني الذي نكب شعباً كاملا بين ليلة و ضحاها.
رد علي: هل تعتقد ان جميع الفلسطينين يحسون بمأساتنا مثلك؟! لا أعتقد ذلك، أنظر إلى أصحاب المحلات التجارية كيف يسرقون نقودنا! يبيعوننا المواد المنتهية الصلاحية، يعاملوننا باستخفاف و لا يأبهون لحياتنا، كل شيء مباح في عرفهم اذا كان الزبون زنجي و كأننا مكب نفايات.
صديقي، لن أبرر إذ ان التبرير باب من أبواب ابليس، و لكن أود طرح سؤال عليك و فيه الجواب على سؤالك: هل تعتقد ان كل الامريكين الافارقة جيدين؟!
أنا على ثقة تامة انك تعلم أن كل العرب القاطنين في الولايات المتحدة الامريكية لا يشكلوا واحد بالمائة من الشعب العربي، حتى القاطنين هنا في أمريكا، انت لم تتعرف الا على النسبة القليلة جداً منهم، أليس كذلك!
صافحني و قال لي: وجهة نظر تستحق الاحترام و لكن مع ذلك لا يوجد مبرر للمتاجرة في ارواحنا و سرقة اموالنا، على كل حال، ستعرف يوما ما من أكون.
الله يعطيك العافية.
الله يعافيك، كيفك و كيف الأولاد؟
الحمدلله، كلنا بخير.
كيف كان الشغل اليوم؟
كالعادة لا شيء جديد، إلا أنني اليوم تعرفت على “الفات بوي fat boy” زعيم الحي، تعاملت معه سابقاً و لكنه لم يفصح عن هويته سوى اليوم، شاب طويل في منتصف العقد الثالث، تقاسيم وجهه تخفي خلفها كائن مشوب بالعنف و الاجرام،
اعور وعينه اليمنى ممسوحة، شعره اجعد، وجسده مصبوب مثل قطعة حديد، لطيف للغاية في تعامله، قليل الكلام و محاط في معظم الأحيان برتل من صبيانه . أخبروني انه قبل صيف كان قد أوسع خالد اخو المالك ضرباً مبرحاً، كاد ابن زوجته ان يفقد حياته جراء تناوله بعض المواد الغذائية المنتهية الصلاحية.
توطدت علاقتي معه و لم اكن أعرف سابقاً انه فتوة الحي،
ذات يوم كان محتاجًا لشراء حليب أطفال، و كان يعوزه بعض الدولارات، أعطيته علبة الحليب من منطلق انساني بحت، و اخبرته ان يتأكد من تاريخ الصلاحية، و كان ذلك نهجي مع جميع الزبائن، غاب ثلاثة أيام، ثم احضر المبلغ و شكرني.
اليوم جاء و عرف بنفسه، انا زعيم الحي، أخبرتك سابقاً انك ستتعرف يوما ما على هويتي.
سألته : الست ذلك الشاب الذي تكلم معي قبل يومين عن سلوكيات العرب السلبية ضد الامريكين الافارقة؟!
هز رأسه بالإيجاب، بصراحة جميع افراد الحي يتكلمون عنك بطريقة طيبة و يؤكدون أنك تختلف عن المالك و الموظفين الاخرين، مدحوا فيك كثيرا و قالوا أنك تعاملهم بلطف و بطريقة إنسانية ملفتة للنظر، و ليّن في احاديثك معهم،و صادق في تعاملاتك التجارية.
لا تخاف من أي شيء، انت في حمايتنا.
آلو، اهلا ام العبد، كيفك؟ خير شو في؟!
هل سمعت ماذا حصل قبل ساعة في مينابوليس؟!
أفاق العالم أجمع على حادثة مقتل المواطن الأمريكي من الأصول الافريقية جورج فلويد، شاهد العالم أجمع مدى الحقد المدفون من الطبقة الحاكمة و طبقة الامريكين البيض على المواطن الأمريكي الافريقي، هاج المكون الأمريكي ذي الأصول الافريقية و كادت امريكا ان تنزلق إلى حرب أهلية، اجتاحت المظاهرات جميع الولايات الامريكية. وثقت كاميرات المحطات بعض من مشاهد العنف و الانفلات الأمني و لكن ما لم يشاهده العالم، الخبرات الفردية المريرة التي أجبر على معايشتها أولئك الذين يعملون في تماس مباشر مع الزنوج” كما يسميهم المجتمع الأمريكي.
لم تنتظر الحشود الغفيرة طويلاً حتى تحتل المرافق العامة و تنتشر سريعاً في الشوارع مثل جذوة نار أُلقيت على كومة قش. مثل بركان هامد، ألقت جموع المتظاهرين حمم حقدهم و بغضهم لمجتمع تفنن باذاقتهم جميع انواع الذل و المهانة و قمع ذواتهم و سحقها، ملايين البشر انتظروا هذه اللحظة التاريخية ليعبرواعن عذابات قرون خلت، تلك التي تركت اثاراً الزمان ليس كفيلاً بتطبيبها.
هاجت الجموع مثل جمل مكلوم بعد ان انفلت عقاله، و بدأت في التعبير العنيف عن سخطها و الامها المتراكمة منذ اقتيادهم جبراً على بواخر العار إلى عمليات القتل و التمييز و الاحتقار و الضياع و التي ما زالت ملازمة لحيواتهم.
مناظر مرعبة موغلة بالعنف، السنة نار تلتهم المحلات التجارية، عمليات سطو للملكيات التجارية و الخاصة، شوارع مغلقة باطارات محترقة، اطلاق كثيف و عشوائي للاعيرة النارية في كل أحياء المدينة مثل سحابة ضاقت ذرعاً بحمولتها و سكبتها مرة واحدة.
غاب صوت العقل مثل جميع الإجراءات الاحترازية و القانونية والتي تلاشت امام غضب جموع المحتجين الهادرة، و في عجز الأجهزة الأمنية و تراجعها، وجد معظم الامريكين، من الأصول الأخرى، أنفسهم مجبرين على حماية ممتلكاتهم الخاصة بأنفسهم، جيوش بشرية مدججة باسلحتها تركض في كل اتجاه مع اختلاف الدافع و الغاية، قسم خرج للقصاص و التخريب، و الاخر خرج حفاظاً على ممتلكاته، و ثالث كان يترقب و ينتظر ان تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة حتى يعيد امجاد اباءه الاولين.
في ذلك اليوم دخل “الفات بوي” زعيم الحي الى السوبرماركت،و خاطبني بلغة حازمة، أخبرني ان أبناء الحي يتجمعون و يتهيأون للسطو على المحلات و حرقها، طلب مني الهرب، قال لي اذهب بسرعة قبل أن يصلوا اليك و عندئذ لن استطيع حمايتك .
أخبرت خالد شقيق المالك بالامر، همّ باغلاق المحل و الهروب على جناح سحابة، ولكن تجاربه السابقة السيئة مع أبناء الحي حالت دون ذلك، اوقفه زعيم الحي و قال ساخراً، أنت، و أشار إلي، تستطيع الذهاب، أما أنت ، و أشار إلى خالد، فلا بد من مؤانستنا لبعض الوقت، أخبروك سابقاً أن حياة السود مهمة، لكنك كنت تفرق بين حياة الزنوج و نقودهم، أليس ذلك؟!
حاولت التدخل و التوسط، زجرني بصوت معنف، اذهب قبل ان أغير رأيي! و ما ان ركبت بالسيارة، هجم على خالد و هو يردد: حياة السود مهمة و كذلك نقودهم، حياة السود مهمة و كذلك نقودهم، ضربه بقعر المسدس على اسنانه و التي تساقطت مثل أوراق التوت، أغمي على خالد، هابني ما رأيت و بالكاد استطعت تشغيل السيارة و الهروب من الاطياف و الاشباح البشرية و التي بدأت في التخريب و التدمير و الحرق و السطو و القتل.
يوم ملئ بالرعب و التوجس والموت، نيران تلتهم المدينة، أعيرة نارية عشوائية من كل حدب و صوب، معظم طرق المدينة مغلقة بالاطارات المشتعلة، أو بفعل الاسراب البشرية التي احتلت الشوارع و كأنها عاصفة ثلجية قطعت احياء المدينة عن بعضها البعض و حالت دون متابعة الحياة دورتها الطبيعية، و من استطاع الوصول الى بيته كأنما حيزت له الدنيا و ما فيها، اكثر من اربع ساعات دامت محاولاتي للوصول الى البيت، مع أن الوقت الاعتيادي لرحلتي من مكان العمل الى البيت تستغرق في اسوء الأحوال ساعة واحدة، وصلت منهكاً، مذهولاً، واجماً، و ظلت حالة الوجوم تلك مهيمنة على جوارحي إلى ان ايقظني صوت ابنائي و هم يقولون: بابا، شاهدنا الحرب على التلفاز، الماما مو راضية تخلينا نطلع نتفرج.
الوقت متأخر هلأ، بكرة بخليكم تتفرجوا.
يا لهول ما عايشته في ذلك اليوم، تذكرت سعيد، و لهج لساني: كنت على وشك الموت بثمن بخس، كنت على وشك الموت بلا ثمن.
هاتفني عبدالله مالك المتجر في وقت متأخر و أخبرني ان الأمريكين الافارقة قد سطو على المحل، سرقوا ما يمكنهم سرقته ثم اضرموا النار فيه.
كان ذلك آخر عهدي بعبدالله و أخيه خالد، و اللذان آثرا الاستمرار في مغامراتهما مع الامريكين الافارقة، و دشنا بعد أقل من ثلاثة أسابيع سوبرماركت جديد في جنوب شيكاغو.
الفصل الثالث: أنفذ بجلدك
نتحامق، نتوه حيارى في عوالم تئن من شقاوة ذلك الكائن الدعيّ، المدعو الانسان. نتخذ قرارات خاطئة، محطمة، بائسة، و لكن السعيد ذلك الذي يُغاث ،بسؤال أو دون سؤال، بشعاع من ذلك البهاء النوراني الرباني المقدس، يرجعه إلى جادة الطريق في موعد لا يخلّف وراءه ندوباً عصيّة على النسيان أو المصاحبة.
ينتشله من الشتات و التيه و الحيرة، يشعل فيه جذوة الحياة من جديد و التي كادت أن تنطفئ ، و يهديه جادة الصواب و حياة جديدة تذكره كل لحظة، ينعم بها، بسرمدية مديونية الحمد و الدعاء لاله جليل لم يتخل عنه قط، و هذا ما حدث معي تماماً.
انقضى الان شهرين على اقامتي في ارض الاحلام، من المؤكد أن قراري بالاستمرار او العودة لن يبنى فقط على الخبرات السيئة التي عايشتها، لانها كما قد يزعم الكثيرون، سوء طالع، أو خبرات على فظاعاتها إلا انها قليلة نسبياً أو كما تقول زوجتي، الصبر مفتاح الفرج، و في احشاء كل محنه تنمو منحة ولكن لا بد من انقضاء الاجل حتى تدركها.
الصورة تغدو يوماً بعد يوم أكثر وضوحاً، قد يحقق المرء في ارض الاحلام بعضا من الرفاه الاجتماعي ولكن ليس بمعزل عن اقدار تحمل في احشائها منغصات تجعل المرء يموت كل يوم الف مرة كمداً وحسرةً. أصبحت أجنح تدريجياً نحو العودة إلى الوطن العربي، ولكن ما زلت في انتظار القشة التي قصمت ظهر البعير، و كنت محطوظاً جدا، إذ أن أرض الاحلام سرعان ما جادت بها.
بعد أسبوع من حالة الانفلات التي صاحبت موت جورج فلويد، تعرفت في المقهى العربي في هارلم على الحاج أبو العز، والذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير. سبعيني من نابلس، قصير بعض الشئ، كثير السرحان، قليل الكلام، حزن يحتل عينيه، حسرات و تنهيدات تخالط صوته المبحوح، سريع التآلف، يحاول التبسم في وجه الاخرين لكن سرعان ما يقع فريسة الشرود.
كان المقهى مكتظاً إلا طاولة يجلس عليها كهل،استأذنته في الجلوس على طاولته، دقق النظر في وجهي، الأستاذ جديد في المنطقة؟! تحادثنا طويلاً، أخبرني شذرا عن بدايات اقامته في أمريكا، وعلمت فيما بعد أنه مالك لما يزيد عن عشرين محطة وقود، عرض علي العمل، و دفع راتباً مجدياً عشرون دولارا في الساعة، و أخبرني انني ساعمل في محطة الوقود الرئيسية التي يوجد فيها مكتبه.
وافقت على العمل و كنت لم أزل لم اقطع رأيي في الامرين اللذان كانا يشغلان فكري، البقاء ام العودة، مع انني كنت اكثر ميلاً للعودة.
انتظمت في وردية الصباح، و كان العمل من الثامنه صباحاً و لغاية السادسة مساءً. بعد وصولي بنصف ساعة، يأتي الحاج أبو العز، نحتسي القهوة سوياً، نتكلم قليلاً في مواضيع شتى، و لا يخلو الحديث عن محاسن و مساوئ الحياة في أمريكا، يتكلم قليلاً في هذا الموضوع دون الغوص كثيراً فيه و كأنه يريد التمهيد لشئ ما ثم ينتقل إلى موضوع آخر. دقيق جداً في مواعيده، كل يوم في تمام الساعة الحادية عشر يغادر المحطة و لا يعود إلا في صبيحة اليوم القادم.
بعد أسبوع، جاء صباحاً و أحضر معه إفطارا أعدته الحاجة أم فايز. بصراحة حبيت اليوم اني افطر معك. هذا الإفطار أعدته خالتك ام العز و توصت فيه. أغلق عمي المحطة و دعنا نفطر على راحتنا.
بدأنا في تناول الإفطار، حدّق في وجهي و استطرد:
عمي أبو العبد، عندي زوج كلام حاب احكيهم معك، والله من وراء القصد.
لكن في البداية، حاب عمك أبو العز يحكيلك قصته مع أمريكا، أتمنى اني ما ازعجك بقصصي!
بل على الرحب و السعة، هذا ما انا بحاجة اليه الان يا حاج.
قبل ثلاثين عاماً قدمت إلى هذه البلاد الملعونة، عندي ثلاث بنات و العز الله يرحمه و يحسن اليه، لم اترحم على ابنه حتى لا اقاطعه، رأيته بكل كلمة يتفوه بها، ينزل عن صدره جبلاً من الحسرات و الالام، تركته في خلوته مع نفسه، و لم اشأء افساد تلك اللحظات الجياشة، لذلك آثرت الا اشعره بوجودي و كنت كأنني كرسي ساقه مكسورة و لا يستطيع احداث أي شيء.
أنجبت جميع بناتي في أمريكا ما عدا العز الله يرحمه، ولد في نابلس في وقت راحة البال و الرضا و السعادة بالمقسوم، الله يرحم تلك الأيام، يا ليتني ما تركت نابلس، ولكن كان لا بد ان ينفذ امر الله، و كان امر الله أن آتي إلى هذه البلاد الخادعة.
كان يروي قصته بشجن متأصل في روحه، يزفر بعضاً منه ليزيد الصورة كآبة و تيهً، و يسعر في داخلي جذوات القلق و الاهات و الحسرات المقموعة و المركونة في أبعد دهاليز ذاكرتي.
تبهدلت و اهينت كرامتي و عشت أسير تقريع الذات و لومها و جلدها. ثلاثون عاماً و انا اخادع نفسي، ثلاثون عاماً و انا لا استمع الى ذلك النداء الخفي في داخلي:
إلى متى علينا التغافل عن جهنم التي سقطنا فيها؟! كلنا يعلم في قرارة نفسه ان اقامته في هذه البلاد و الخسران وجهان لعملة واحدة، نكابر إلى أن يصيبنا سهم القدر، ذلك الذي كنا على يقين انه حاصل لا محالة، و لكنه مجرد مسألة وقت ليس إلا.
كاذب من يدعي أنه لم يخسر في هذه البلاد، و أول الخسارة ازدواجية المعايير التي تشطر الذات و تزيدها غربة: مع الجالية العربية يتم التعامل وفق الاخلاق و التربية العربية، لكن في عالم البزنس و علاقتنا بالآخر، وحوش على هيئة بشر، وحوش ضارية لا تشبع أبداً و كل شيء في عالم البزنس و في علاقتنا
مع الآخر مباح.
أسوة بكل المهاجرين، برمجت نفسي على الكنز السريع، و استطعت بعد أقل من سنتين تدشين مشروعي الأول، محل لبيع المشروبات الروحية، و كما تعلم، أعمالنا دائماً مرتبطة بالمخاطرة العالية يعني أعمالنا في مناطق الزنوج او الهيسبنك” الناطقين بالاسبانية”، لأننا اردنا الغنى بأسرع وقت وبأي طريقة كانت. الحمدلله ، استطعت بعد ثلاث سنوات من العمل المضني شراء بيت و محطة وقود. لن أطيل عليك، تركت بيع الكحول، و ازدهرت تجارتي و أصبحت مالكاً لما يزيد عن
عشرين محطة وقود و أطيان و أموال لا تأكلها النار و أصبح التراب ،كما يقولون، في يدي ذهباً.
توالت الأيام، شب ابنائي و نضجوا و بدأت مرحلة العمل لآخرتي، صدقات و صلاة وعمرة و حج و بناء مساجد و كفالة ايتام الى ما شاء الله من اعمال الخير و التقرب إلى الله. زوجت بناتي الأربعة و كانت امنيتي أن أفرح بالعز. قبل خمس سنوات كان العز يبلغ آنذاك خمس و عشرون عاماً، خطبت له فتاة من نابلس و اتفقنا على الزواج بعد اربع أشهر، إلا أن القدر حال دون ذلك.
ذات يوم، خرج العز ليعبأ الات الصراف الالي الموجودة في المحطات، أربعة من الزنوج كانوا يترصدون تحركاته، خرجوا عليه باسلحتهم، سرقوا الأموال التي كانت بحوزته، و اردوه قتيلاً.
نظرت إليه مصعوقاً و تخيلت ان القتيل أبني العبد، بدأت صور سعيد، و خالد، و اعمال التخريب و الحرق و القتل التي رافقت المظاهرات المنددة بمقتل جورج فلويد، تعرض امام ناظري. احسست بالاختناق، بالكاد استطعت لملمة نفسي، احتضنت الحاج و انا اترحم على العز.
بدأت دموع الحسرات و الندم تنهمر على وجنتيه، و احسست ان حشرجة تحكمت منه و كادت ان تودي به. استعاد رباطة جأشه و أطرق: ” لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب” و انت يا أستاذ أبو العبد من أولي الالباب، أنظر حولك، قصص تشيب لها الولدان، فلان ابنه شاذ، و فلان زوجته تركت البيت و صاحبت زنجي، و آخر ابنه استحوذ على كل املاكه و طرده، و عرب غرباء عن ثقافتهم و تاريخهم و تقاليدهم و ليس لهم من العروبة إلا الاسم، والقصص كثيرة و انا متأكد انك أصبحت على دراية بكثير من حكايات العرب المخجلة!
و الله يا عمي، مذ أخبرتني في لقائنا الأول أنك متعلم و جديد في هذه البلاد الملعونة، و عن المآسي التي عايشتها،حبيت أن أتقرب الى الله بنصحي لك في ان تترك هذه البلاد الملعونة.
أنفذ بجلدك يا عمي، هذه بلاد كلها مآسي و ما حدا راح يطلع منها كسبان، لا تستمع لاولئك الذين يسيقون الحجج الخرقاء، الوطن العربي مرتع للجوع و الفقر والافق السياسي الضيق، هذا كلام لا غبار عليه و لكن و بالرغم من جميع هذه السلبيات، إلا انه لا يمكن مقارنة الشرق المؤمن الاصيل بالغرب الجاحد بايات الله، الغارق في التفكك الأخلاقي و العائم على بحر من الاجرام.
و كأنك كنت تقرأ افكاري مثل امرء امعن القراءة في كتاب أحبه، مذ وطأت قدماي ارض الكوابيس هذه، و أنا اشتم رائحة الموت، أُغتيل سعيد، و كدت أن أموت، و شاهدت في شهرين من المآسي و اعمال التخريب و الحرق و القتل ما يعجز المرء عن وصفه أو حتى استدعائه للذاكرة.
و الله يا حاج، كنت قد أزمعت رأيي في مغادرة هذه البلاد، ولكن، لا أخفيك كنت أفكر في توفير نفس المبلغ الذي أحضرته معي حتى أتمكن من تدشين مشروع صغير في البلاد يفي بمصاريفنا.
لا عليك، ما تهكل هم الفلوس، توكل على الله.
كما أخبرتكم سابقاً ، هانذا بعد إقامة أقل من ثلاثة اشهر أوشكت على طلاق ارض الاحلام و العودة إلى الوطن العربي.
الحمدلله، أكملت الشهر عند الحاج أبو العز، ذلك الرجل الطيب الذي أراد أن يحيي ابنه العز باحيائي انا و عائلتي.
اشترى لنا تذاكر السفر و اعطانا هدية خمسة الاف دولار، و الان لم يعد يوجد أي مبرر للبقاء في ارض الكوابيس هذه. حزمنا أمتعتنا و بعد غدٍ نعود إلى جذورنا، إلى ارض نحبها و تحبنا، لا نشعر أننا غرباء فيها، و لا نخش على انفسنا الموت فيها بثمن بخس.
عقيل، فارس، الغداء جاهز.
يا رجل وحد الله، بعد كل هذا العناء، والان تحجم عن السفر، لعلك قد تأثرت بقصة أبي العبد؟!
فارس، انا لم اتأثر بقصة أبي العبد أو غيره، ولكني احتج بقول الحق: ” لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب”.
و النعم بالله، و لكن ماذا تريد ان تفعل هنا؟! أفق، انظر حولك، البلد تعوم على مشاكل و مآسي لا يعلمها إلا الله، الطوفان قادم، أنفذ بجلدك، هذه بلد لا ناقة لك فيها و لا جمل.
نظر إلى زوجته و ابناءه و اطرق: بل لي فيها اكثر من ناقة و جمل، بل لي فيها أكثر من ناقة و جمل.
www.deyaralnagab.com
|