نريد وقتاً للفلسفة!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.01.2025
غريزة حبِّ البقاء والتّمسك بالحياة دفعت الإنسان إلى التأمل إلى ما وراء الموت، بحثًا عن استمرارية بعد حتمية فنائه الجسدي، وذلك أنّه لا يتقبّل فكرة الفناء المطلق جسدًا وروحًا وعاطفة وذكريات ومتعة وألمًا وعلاقات إنسانية، نادرًا ما نجد من يتقبّل فكرة النهاية المطلقة التي تعني في التالي أن حضورنا من أساسه بلا سبب ولا هدف وأنّه محض صدفة قد تكون جميلة ولكن نهايتها موحشة ومؤلمة. وأعتقد أن الفكر الفلسفي في تفسير الكون والوجود يزدهر في شباب المرء، أو شباب الدول، ويخفت كلما اقترب الإنسان من نهايته، سواء بسبب مرض أو حادث أو شيخوخة، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الدُّول والمجتمعات ككل.
عبّر رامبو عن الحياة بثلاث مفردات “الحياة جرح العدم”. ويعتقد نيتشه أنّه “لا يمكن تبرير الوجود من دون ضرب من ضروب الفن كالدّين والعلم، وهذا يعني أنّ جميع أشكال الإنتاج العقلي هي فنٌ، لأنها تضفي شكلًا على ما لا يمكن تشكيله”. ويرى الفيلسوف جاكوبي أنّ “الإيمان بالإله طريقة للفرار من مسألة السببية، التي تعني أن لكلّ سبب مسببًا، وهي سلسلة من الأسباب والمسببات اللانهائية”.
منذ القِدَم بحثَ الإنسانُ عن مبرّرٍ لوجوده ومآله، لماذا وإلى أين! وما الذي عليه أن يفعله في هذه الفُسحة التي أتيحت له! وما الذي يجب عليه الامتناع عن فعله! وما هو خيرٌ وما هو شرٌ! وهل هو مسيّر في ما يفعله أم أنّه مخيّر، وهل تسقط عنه مسؤولية أفعاله وأقواله، لأنّه لم يختَرْ ولم يُستشر في وجوده أصلًا! الظواهر الطبيعية بما فيها ما نسميها كوارث، هي عبارة عن لفتة نظر للإنسان الغارق في نفسه في هذه الفسحة الزّمنية، تقول له استيقظ واستخلص العِبَر.
تستفز الكوارث الكبيرة تفكير الإنسان ووعيه، ليس خلال وقوعها بل بعد أن تهدأ الأمور وينجلي دخان الكوارث وغبارها، وتجفُّ دماؤها. تدفعه إما للفلسفة والشّك واللايقين، أو أنّها تفعل العكس؛ فتدفعه إلى التّمسك بيقينه والاستسلام له. هل تغيّر المحرقة التي تدور رحاها في قطاع غزة قناعات لدى من يعيشون هذه الحالة غير المسبوقة في تاريخ البشر!
الهتاف السّائد الذي نسمعه هو “الله أكبر”، هكذا عندما يرى أهل قطاع غزّة مسجداً تتهاوى مئذنته، وعمارة تتشظى وتتحوّل إلى عمود دخان أسود، يختنق ويتقطّع كلُّ ما فيها، الله أكبر، كذلك عندما يرون خياماً تشتعل بمن فيها، الله أكبر، الله أكبر، ثم بعد الكارثة بدقائق تسمعهم يردّدون “الحمد لله على كل حال”، “حسبُنا الله ونعم الوكيل”. أحدُ صُنّاع المحتوى وهم كُثرٌ في قطاع غزّة، يَسأل سيّدة عن حالِها، فتردّ “الحمد لله على كل حال”، تعيدها وتكرّرها وهي مبتسمةٌ راضية.
حتى تظنّ أنَّ هذه السّيدة لم تُصبْ رغم كلِّ ما يجري من حولها، ولكنها لا تلبث أن تقول “زوجي استشهد قبل ثمانية أيام، الحمد لله على كل حال، حسبنا الله ونعم الوكيل”.
في قطاع غزّة تتكرّر عبارات “نلتقي في الجنّة” أو “نصيبُك في الجنّة إن شاء الله”. بمعنى أنّ ما حُرم منه الشهيد في الأرض سيلقاه في السَّماء. أليست العقيدة الدينية شكلاً من أشكال الفلسفة! بل وفنّاً من الفنون، كما يقول نيتشة!
قد يقول قائل بأنّه لم يبق لهؤلاء الناس سوى هذا العزاء، الأمل في الجنّة، لكن اليقين الذي ينطقون به وحتى الرّغبة باللقاء وبسرعة “يا رب اجمعنا بهم”، و”يا رب اشتقنا لأحبابنا فاجمعنا بهم” وغيرها، يثير العَجب حتى لدى المسلمين أنفسِهِم، صحيح أنَّ هذا معروف في العقيدة ولكن المؤمنين ودرجات إيمانهم ليست سواءً.
فالّلون نفسه يتراوح بين الفاتح جداً بالكاد تراه، إلى الغامق والواضِح والحادّ جداً.
اليقين لدى أغلبهم راسخٌ، وكما يبدو أنّه يزداد مع تفاقم الكوارث، بل ويؤمن أكثر هؤلاء بأنَّ ما يجري هو ابتلاء وامتحان من الله لصبرهم، ليكون ردّهم بالاستسلام التام لمشيئة الله “يا ربّ، خذ منّا حتى ترضى”.
وكلما انقطع الرّجاء من البشر، ازداد التقرّب والالتصاق بالعقيدة وتعزيزها، فلا شقيقُ القوميّة ولا أخُ الدّين ولا الجار الجَنْب ولا الشّريكُ في الكوكب فعل ما يوقف هذا التغوّل في الانحطاط الإجرامي. أقصى ما يمكن أن يسجّل هو ما فعله أولئك الأحرار الأنقياء الذين ذهبوا إلى محكمة الجنايات الدولية وجمعوا الأدلّة لإدانة السّفاحين، وأولئك الذين يطاردون المجرمين لاعتقالهم، أما دون هذا فهو إما صمتُ الجبناء أو مساعدات ملتبسة للتغطية على قذارة النوايا، وإدانات جبانة للضحيّة لتبرير الخذلان، أو الشّراكة الفعليّة مع المجرمين، مثل من يقف خارج السِّياج حارساً للقاتل.
من يدُه في الماء ليس كمن يده في النار، ومن يكتب في غرفة مكيّفة ليس كمن يعيش تحت الأرض ويخوض في حفر الموت، ومن لديه طعامه وشرابه في ثلاجته ليس كمن يقف في طابور طويل للحصول على طبق حساء.
ما يبدو على أرض الواقع هو أن الاحتلال رغم كل مجازره، وبالذّات بسبب إيغاله في الدّم، أدّى إلى ردّة فعل لا تسرُّه ولن تتيح له نصرًا، فالمعادلة التي فرضها على أهالي القطاع هي الموت المجاني أو الموت خلال المقاومة.
هذه الحرب أظهرت أقصى ما لدى الإنسان من وحشية وانحطاط، أظهرت الكمّ الهائل من الخساسَة الكامنة في البشر، وفي الوقت ذاته أظهرت السُّمو اللامتناهي الذي قد يبلغه الإنسان. صرَختْ امرأةٌ من سكّان الخيام التي غمرتها مياه الأمطار، أنا لا أريد طعاماً، لا نريد شيئاً، فقط أريد أن ينام أولادي على أرضٍ جافّة. ونحن لا نريد شيئاً سوى أن تتوقّف المَحرقة. كي يتاح لنا ولغيرنا وقت للتأمّل والفلسفة، فالفلسفة ابنة السّلام والرّخاء والوفرة، ابنة الطمأنينة على النّفس والروح والأملاك، الفلسفة ابنة الفائض من الوقت، ابنة سماء خالية من الزّنانات وهدير الطائرات وأعمدة النار، وأرضٍ خالية من الجثث التي تنوشها الجرافات والكلاب المتوحّشة.
في الشدائد تنزاح الفلسفات جانباً، لتقفَ العقيدة الراسخة وتتصدّى، فهي المُسعف حيثُ يُقتلُ المسعفون، وهي المغيثُ حيثُ لا مغيثون، وهي الصديق والأخ حيث لا أخوة ولا أشقاء ولا أصدقاء.
نجتْ أمٌ ولم تنجُ أسرتُها.
نجا ربُّ الأسرةِ ولم ينجُ غيرُه.
نجا شابٌ بثلثي جسدِه.
نجت دميةٌ وفقدتْ طفلتَها.
نجا طفلٌ ولم يبق من يعرفُه.
نجا الجدُّ ليحتسي حسرة أبنائه وأحفاده.
نجت الجدّةُ والجدُّ ولم يبق من يعينهما في العراء.
نجت الجدّةُ ولم يبق سوى الخراب من حولها.
نجت العمّة، ولم يبق غيرها من العمّات.
نجتْ الخالةُ، ولم يبق غيرُها من الخالات.
نجا رجل غريبٌ، لا يعرفُ أحداً ولا يعرفه أحدٌ.
نجت قطّةٌ من كلِّ سكان العمارة.
لم تنجُ حتى القطّة التي كانت هناك.
www.deyaralnagab.com
|