logo
نار الجاحظ ولهيب قراءته!!
بقلم : ناجي ظاهر ... 02.08.2025

عُرف عن الجاحظ، اديب العربية ومثقفها الكبير، انه فُطر على الميل الى القراءة والكتابة، وان الكتاب ملك عليه كلّ اهتمامه، حتى انه لم يكن يكتفي بقراءة ما يقع تحت يده من كتب وانما كان يكتري/ يستأجر، دكان احد الوراقين/ نساخي الكتب، ليقرأ فيها ما لذّ وطاب من الكتب، وقد احبّ الجاحظ الكتاب وتعلّق به، ما دفع الكاتب المُعجمى العربي الكبير ياقوت الرومي الحموي صاحب معجم الادباء وهو من معاصري الجاحظ ان يقول عنه:” لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها. والحقُّ أنَّه كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ يقرأه إلا ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آمادًا متطاولة.”
أَبُو عُثْمَان عَمْرُو بْن بَحْر بْن مَحْبُوب بْن فَزَارَة اَللَّيْثِي اَلْكِنَانِي اَلْبَصْرِي المعروف بِالْجَاحِظ 159) هـ-255 هـ( لجحوظ وبروز في عينيه، أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي. ولد في البصرة وتوفي فيها، وقد ولد في عائلة فقيرة متواضعة الحال، ويبدو ان محبته التي وصلت حدّ التتيم بالكتاب، قد حولته الى اسطورة لقارئ جاد أولا وكاتب مفلّق ثانيًا، وقد رُويت عنه قصص وحكايات تُشبه الكذب لما ضمته من مبالغات، لا ريب في انها احتوت في داخلها شيئا من الحقيقة، كما حدث مع شخصيات أخرى عرفها ادبنا العربي القديم مثل الحسن ابن هاني ابي نواس، ونصر الدين جوخة الملقب بجحا، فقد الصق الناس ماضيا وما زالوا يفعلون حاضرًا، كلّ ما تعلق بالمجون بالأول وكل ما تعلق بالفكاهة والضحك بالثاني.
بالعودة الى الجاحظ، يُروي عنه انه تعلّق بالكتاب وهوى قراءته له، منذ بدايات تفتح وعيه الأول وفكّه المبكّر للحرف، حتى أنه عادة ما كان ينزوي بكلّ ورقة وكتاب منكبًّا على غرام عمره، قراءة وتأملا، وفي حين كان ميله هذا للقراءة يثير اهتمام البعض، فقد كان يدفع البعض الآخر لاستفزازه فلعله يستيقظ من غفلته مع الكتاب، كما كانوا يرون، وفي هذا السياق يروي عنه الدكتور أحمد كمال زكي في كتاب له طريف عنه، حكاية مُفادها انه عندما كان في نحو العاشرة من عمره طلب من والدته ان تأتي اليه بالطعام، فما كان منها إلا أن أتت إليه بوعاء ملأته بالأوراق والكتب، وذلك ضمن محاولة استفزازية منها إلى لفته انه ليس بالكتب وحدها يحيا الانسان، فماذا فعل الجاحظ؟.. أرسل نظرة الى الفضاء البعيد، وغضّ الطرف عن امه، تناول واحدًا من الكتب المُقدّمة إليه، وراح يقرأ فيه منعزلًا عّما حوله وغائصًا في بحور كلمات ذلك الكتاب وفضاءاتها الرحيبة.
لم يكن الكتاب، كما تذكر مصادر عديدة، يفارق يديّ الجاحظ الا ليعود اليها، بلهفة مشتاق ومحبّة عاشق، فكان يُقبل على قراءته إقبال العاشق المُدنف على محبوبته وحليلة قلبه وروحه. وهكذا امضى الجاحظ سحابة عُمره متنقلًا بين كتاب آخر، ما ان ينتهي من قراءة كتاب حتى يتناول آخر ليواصل القراءة، وكأنما العالم كلّه تحوّل الى كتاب لا بُدّ له من قراءته، قبل ان تأتي اللحظات الأخيرة، لحظات الفراق والابتعاد عن ذلك المحبوب العزيز الغالي.. الكتاب.
أمضي الجاحظ جُلّ اوقاته بين أمرين شغلا حياته وملآها بكل ما هو مُسلٍّ ومُفيد، أحدهما القراءة والآخر الكتابة ويُخيّل لي أنه كان يعتبر نفسه قارئًا أولًا وكاتبًا ثانيًا، وذلك للعيد من الأسباب، التي يمكن لكلّ منا، ان يتكهّن بها وان يعرفها بالمُعاينة والحدس، منها معرفته أنه يوجد في داخل كل قارئ جادّ، كما يشهد تاريخ الادب عبر العصور، كاتب جاد، ومنها أيضًا انه لا يمكن للإنسان الكاتب ان يكتب في فراغ، وأنه بالتالي استمرار الى أفكار وثقافات لا بُدّ له من معرفتها عبر الاطلاع عليها كي يتمكن من ان يكون جزءا خلاقا ومبدعا فيها.
رفع الجاحظ لواء الكتاب قارئًا وكاتبًا، طوال أيامه، ومما يُقال عنه انه خرج من بيته ذات صباح مُشرق ومضى في طريقه متكئا على عصاه وجارًّا قدميه بصعوبة، ساعيًا الى دكان أحد اصدقائه الورّاقين، وعندما دخل الدكان رحبّ به صاحبه، وهيأ له كل ما تتطلّبه القراءة من راحة في المجلس وهدوء في الجو، وأغلق عليه باب دكانه، مودّعًا إياه وقائلًا له إنه سيعود في ساعة متأخرة من النهار لانشغال لا بُدّ له من تنفيذه. ما إن مضى ذلك الوراق غائبا في طريقه، حتى انكبّ الجاحظ، على الكتب يَعُبّ مِن مناهلها كلّ ما لذ وطاب من أفكار ومعلومات، متفكّرًا متمعّنًا ومتأملًا، ومسجلا ملاحظاته على قُصاصة ورق مُختصرا أكبر الأفكار وأكثر المعلومات غرابة واثارة فيها، ومضى الوقت في تنقّله بين كتاب وآخر وورقة واختها، إلى أن أخذ منه النعاس مأخذًا شديدًا، متكئًا على مجموعة من الكتب، واسلم عينيه للنوم، وكانت تلك نومته الأخيرة..
عندما عاد صاحب الدكان في المساء، فتح بابها بيدين حانيتين ومُقدّرتين لضيفه القارئ الأسطوري، وعندما دخل فوجئ بمشهد ستتحدث عنه الأجيال فيما بعد، لقد وجد ضيفه وقد غمرته الكتب ولم تظهر منه الا يداه وقد اطبقتا على كتاب يتحدّث عن تاريخ العرب وامجادهم العظيمة. أزال الرجل/ الورّاق الكتب من على جسد قارئه ومحبوبه الكاتب المبدع في كل المجالات الذي بات معروفا في اقاصي الدنا وادانيها، ازالها بكلّ رقة ومحبّة لضيفه الكريم، وعندما اتي اليه بكوب ملئ بالماء ومدّ يده إليه به. فوجئ بأن ضيفه لا يستجيب له، عندها فهم انه غرق في بجور الاسرار النهائية، وأنه لن يرى ضيفه بعد اليوم، الا عبر صفحات مؤلفاته الرائعة، مثل كتبه البيان والتبيين، الحيوان، والبخلاء.
هكذا انتهت حياة الجاحظ بالضبط كما ابتدأت برفقة الكتب، وفي دكاكين الوراقين، لتواصل صفحات حياته ومؤلفاته، أمام كلّ مُحبّي الادب الثقافة والعلوم في مختلف العصور التالية، وليتحوّل الجاحظ بعد ذلك وربّما قبله الى اسطورة تُروى ضمنها القصص وتُنسج الحكايات. صحيح ان ما رُوي عن جاحظنا، فيما يتعلّق بمحبته الغامرة للكتاب، قد شابه الكثير من المبالغات، وربّما كانت شطحاتنا المتخيّلة في حديثنا عنه فيما سبق، واحدة من هذه الشطحات، ونحن لا نشك فيما تعلق بهذه الشخصية الخالدة قد شابه شيء كثير من الخيال والتنسيب، غير اننا نؤكد مع هذا كلّه ان التجارب علّمتنا انه لا يوجد دخان بدون نار، وان ما رُوي عن كرامات الجاحظ في مجالي القراءة أولًا والكتابة ثانيًا، قد يكون كذبًا، لكنه كذب اصدق من الواقع، شانه في هذا شان الإنتاج الادبي العظيم في مختلف العصور وفي شتى اصقاع العالم.


www.deyaralnagab.com