logo
الموال ونكبة البرامكة: فن عربي من رثاء قديم!!
بقلم : مروة صلاح متولي ... 16.09.2025

الموال أو المواليا فن من فنون الغناء العربي، نجده لدى أغلب البلدان العربية على اختلاف لهجاتها وأنغامها وإيقاعاتها الموسيقية، والموال كلام يغنى منغماً دون موسيقى، أو بمصاحبة لحنية خفيفة، هذا الكلام سواء كان عامياً أو فصيحاً يتطلب نظماً شعرياً خاصاً بأوزان معينة، وينفتح فن الموال بشكل عام على مختلف المواضيع الشعرية والغنائية، كالمواضيع العاطفية والوطنية والدرامية وما إلى هنالك. قد يسبق الموال الأغنية أو يتوسطها كفاصل من السماع العميق المتأني، وقد يغنى الموال منفرداً، وهناك من المواويل ما هو قصير ومتوسط الطول، وهناك ما يمتد لأكثر من ساعة كعمل فني متكامل يروي قصة ما، ويكون الموال في هذه الحالة أشبه بمسرحية غنائية، أو أوبريت أو أوبرا قصيرة، خصوصاً تلك المواويل التي تروي الحكايات الشعبية الشهيرة في مصر على سبيل المثال. نشأ فن الموال في أرض العراق وارتبط اسمه ببلدة واسط على وجه الخصوص، ثم حملته رياح الشرق إلى بقية البلدان العربية، فازدهر في ربوع الشام، وتنوعت ألوانه في سوريا وفلسطين ولبنان، ثم انتقل إلى مصر ليتم تمصيره وربطه بالوجدان الشعبي، وقوله بلهجات المناطق المختلفة في الوجه البحري والوجه القبلي، وليصبح هناك الموال الصعيدي والموال الفلاحي، والموال القاهري أيضاً، حيث اللهجة العامة الشاملة. ولا يزال فن الموال قائماً في العراق حيث كانت جذوره، وهو فن كبير في بلاد الرافدين تتعدد أسماؤه وأنواعه، وله رواده وأساطينه في الغناء وأصوله وتقاليده الفنية الراسخة.
يعتمد الموال على التطريب وتمديد الكلمات واستعراض القدرات الصوتية والنفس الطويل، ويكون الغناء فيه أبطأ من إيقاع الغناء العادي، وفيه يبوح المغني بالشجون والأحزان، فيشكو آلام الحب وتقلب الدهر وظلم البشر وغيرها من المواضيع، ويتميز بعض المواويل بترديد كلمة معينة في ختام كل جملة، واستخدام الكلمة ذاتها لتصنع معنى جديداً في كل مرة.
*هارون الرشيد والقضاء على البرامكة
من أكثر الروايات شيوعاً حول نشأة فن الموال، تلك الرواية التي تربطه بحادثة دموية لا تخلو من القتل الشنيع والتنكيل العنيف والدراما الرهيبة. هي تلك الحادثة المشهورة المعروفة في التاريخ باسم نكبة البرامكة، وهكذا يأخذنا فن الموال إلى ماض بعيد، حيث زمن هارون الرشيد، الخليفة العباسي الذي تحيط به هالة من الخيال وتنتثر حوله القصص والحكايات، وكل ما يضاف إلى الوقائع التاريخية المثبتة، التي توثق فترة حكمه وخلافته. يرتبط اسم هارون الرشيد بالمجد والنعيم والثراء والبذخ، والقوة والسلطة والنفوذ على أراض وبلدان وأمم بأكملها، وبالتقدم العلمي والثقافي الذي كان يبهر الغرب حينذاك بما ليس لديهم وما لم يعرفوه ويروه من قبل، وكذلك يذكر الفن مع سيرة هارون الرشيد حيث مجالس الشعر والغناء والموسيقى في قصوره، كما يرتبط اسمه بالنساء والجواري، وشدة التعلق بمتع الحياة، حتى صار مثلاً ولقباً يطلق على الرجل الذي يقترن بأكثر من امرأة، أو الذي يرى نفسه أنه يستحق أن يكون معبود النساء.
نكبة البرامكة حدث هائل صنعه هارون الرشيد، عندما قام بقتل جعفر البرمكي وزيره القوي وعضد حكمه وصفيّه المقرب، وقضى على البرامكة جميعاً بأسلوب وحشي هو أقرب إلى الإبادة الجماعية، فقتل رجالهم وشيوخهم وأطفالهم ونساءهم، وصادر أموالهم وممتلكاتهم وثرواتهم الطائلة، ومن بقي منهم على قيد الحياة رمى به في أعماق السجون ليلقى أشد صنوف العذاب وأقسى ألوان الهوان. البرامكة جماعة أو عائلة كبيرة فارسية شيعية الأصل، وربما كانت من الطائفة العلوية، حسبما يقال، أو كانت موالية لها، جاء الجد الأكبر واسمه خالد من خراسان، واستعانت بهم الدولة العباسية في مواجهة أعدائها، وصار للبرامكة نفوذ كبير وسطوة عظيمة وثروة هائلة، وظلت الأجيال من هذه العائلة شديدة القرب من أولي السلطة، ومركز الحكم والخلافة. وجعفر بن يحيى البرمكي حفيد خالد، من أشهر البرامكة وأقواهم وألمعهم في ميدان السياسة، ولنا أن نتخيل مكانته في ذلك الزمن القديم، وهو من كان وزير هارون الرشيد وجليسه والرجل المقرب منه بدرجة كبيرة، ويقال إن جعفر كان صاحب الرأي والمشورة إلى حد جعل من البرامكة دولة داخل الدولة.
كان تخلص هارون الرشيد من وزيره القوي ورجله المقرب حدثاً جللاً، لا يزال دويه يتردد في أروقة التاريخ، يثير البحث والتساؤل ويطرح الرؤى والتحليلات المختلفة للحدث، ويحرك مخيلة المبدعين الذين اتخذوا من هذه الحادثة المأساوية مادة لأعمالهم. وتتعدد التفسيرات لأسباب وقوع نكبة البرامكة، فهناك من يرجعها إلى خلاف سياسي بحت، وخشية هارون الرشيد من نفوذ البرامكة، وعلى رأسهم جعفر البرمكي، وخوفه من أن يسلب منه الحكم والخلافة، وهناك من يصورها كجريمة طائفية ضد الشيعة، أو من يوالونهم، وغضب هارون الرشيد من مساندة البرامكة للعلويين. لكن كلاً من هذين السببين لا ينفصل بالضرورة عن السبب الرئيسي والأكبر في هذه المأساة الدامية، وهو العباسة أخت هارون الرشيد، تلك الشخصية التاريخية ذات الشهرة الكبيرة أيضاً، والتي تحولت إلى موضوع فني للعديد من الأعمال المسرحية والشعرية والروائية، كمسرحية العباسة للأديب الشاعر عزيز أباظة، وكانت هذه المسرحية سبباً في حصوله على لقب الباشوية، فعندما ذهب الملك فاروق لمشاهدة المسرحية ونالت إعجابه منح مؤلفها لقب باشا، وكان عزيز أباظة أول من يحصل على هذا اللقب تكريما له على إبداعه لعمل معين، واعترافاً بقيمة وأهمية الفنون والآداب، وتقديراً لمسرحية تاريخية تثقف الشعب وترتقي به، صحيح أن الكثير من نخبة مصر الذهبية وكبار أعلامها قبل 1952 كانوا يحملون ألقاب الباشوية والبكوية، لكن حصول عزيز أباظة على اللقب كان سابقة فريدة حيث أنه كان كالجائزة التي منحت إليه مقابل عمل أتقن إبداعه. ولنا أن نتخيل الأجواء التحفيزية التي أشاعها قيام الملك فاروق بمنح كاتب لقب الباشوية، لأنه أبدع عملاً رائعاً، وكيف شجع ذلك على المزيد من الإبداع، ولم يكن الملك فاروق وحده الذي يهتم بالفنون والآداب في مصر، فنقرأ مثلا في مجلة «الرسالة» أن الملك فؤاد ذهب يوماً ليشاهد مسرحية «محمد علي الكبير»، وبمجرد ظهور الممثل عبد العزيز خليل، الذي كان يجسد شخصية محمد علي باشا، وقف الملك فؤاد احتراماً وفوجئ الحضور وتبعه في الوقوف، ثم ارتبك الممثل ولم يدر ماذا يفعل لعدة ثوان، ثم اهتدى إلى أن يقول اجلسوا يا أولادي.
*العباسة وجعفر البرمكي
تنطوي قصة العباسة وجعفر البرمكي على قدر كبير من الغرابة، فقد قام هارون الرشيد بتزويج العباسة لجعفر، واشترط عليه ألا يدخل بها وأن يظل زواجهما صورياً، ويفسر البعض هذا الفعل الغريب بأن الرشيد أراد أن يحول جعفر إلى محرم من محارم العباسة، لأنه كان يحب أن تكون أخته حاضرة دائماً في مجلسه، وفي الوقت نفسه كان يحب أن يكون جعفر كذلك حاضراً في مجلسه طوال الوقت، ما يدل إن صحت هذه الرواية الغريبة أيضاً أن العباسة وجعفر كانا من أقرب المقربين لهارون الرشيد. لكن لماذا لم يرد الرشيد أن يتم زواجهما وتكتمل أركانه؟ ربما لأنه كان يخاف جعفر بقدر ما يحبه ويخشى أن يكون له ذرية من الأميرة العباسة. لكن العباسة اجتمعت بجعفر في غياب الرشيد وحملت منه سراً، ويقال إنها أنجبت أيضاً، لهذا ثار الرشيد ثورة عارمة عندما علم بوقوع هذا الأمر، وأطلق سيوفه تفصل الرؤوس عن الأجساد وفي مقدمتهم رأس جعفر، وانتقم انتقاماً شديداً من كل برمكي. وفي ليلة واحدة اختفى البرامكة وانتهى مجدهم وتبدد نفوذهم، وضاع سلطانهم وسطوتهم وكل ما اكتسبوه عبر سنوات طويلة منذ مجيئهم من خراسان، وذهبت ثرواتهم الطائلة وكنوزهم إلى خزائن هارون الرشيد العامرة.
يقال إن هارون الرشيد لم يقتل العباسة، وإنما قتل ذريتها من جعفر، وهكذا يمكن تناول هذه النكبة من منظور رومانسي، يجعل منها دراما عاطفية بلغ الحب فيها منتهاه حتى وقعت المذابح وسالت الدماء، ويمكن أن نرى جعفر البرمكي عاشقاً بذل النفس والروح في سبيل المعشوقة، وربما كان ماكبث آخر صاحب طموح سياسي هائل، لكنه قتل قبل يقتل. ويبدو أن هذا العاشق كان غارقاً في حب آخر مع جارية من جواريه، ظلت تلك الجارية مجهولة الاسم، لكن خلدتها أبياتها الحزينة التي أخذت ترثي بها سيدها ومولاها جعفر، وتردد في نهاية كل شطر كلمة مواليا أو يا مواليا، ومن هنا جاءت تسمية الموال، ويبدو أن هذه الجارية كانت وفية مخلصة، لأن رثاء البرامكة كان محرماً ويستوجب أشد العقاب، ولم يكن مسموحاً حتى إبداء الحزن عليهم، وذكر ما وقع لهم، لكن هذه الجارية ظلت ترثي البرامكة وتم تداول أبياتها حتى وصل بعضها إلينا كقولها: «يا دار أين ملوك الأرض.. يا مواليا.. أين الفرس.. يا مواليا.. أين الذين حموك بالقنا والترس.. يا مواليا.. تراهم رمما تحت الأراضي الدرس.. يا مواليا.. سكوت بعد الفصاحة أسنتهم خرس.. يا مواليا.


www.deyaralnagab.com