حين يتقاطع رحيل الفصول مع رحيل المغتربين!!
بقلم : أيمن يوسف أبولبن ... 23.09.2025
حسب التوقيت الفلكي، ينتهي فصل الصيف بعد أيام قليلة من شهر أيلول، ويبدأ فصل الخريف أو «السقوط» بالمعنى الحرفي لاسم الشهر بالإنكليزية بالكناية عن سقوط أوراق الشجر الذابلة، وبدء دورة «التجديد» السنوي.
أما إذا اعتبرنا التوقيت المحلي للمغتربين، فمع شهر أيلول/سبتمبر تنتهي الإجازة الصيفية، وتُشرع الأبواب للرحيل، يغادر المغتربون أرض محبيهم، حاملين معهم حقائب مليئة بالذكريات والضحكات والمواقف العاطفية المميزة.
يغادر المغتربون وفي قلبهم وجعٌ وآثار فقدان تشبه إلى حد بعيد، آثار خوض تحدٍ جديد من الحمية الغذائية، مشاعر أقل، وأحاسيس مكبوتة، ونظرات حبيسة، وعواطف “لايت”، حمية عاطفية إلزامية، يعاني منها المغتربون كل عام في هذا التوقيت!
في المطارات، تتكرر مشاهد العناق الأخير، والدموع المخبأة خلف ابتسامات متكلّفة. يعود المغترب إلى عمله وحياته البعيدة، في انتظار العام المقبل. وبينما يظن البعض أن الغربة مجرد انتقال جغرافي، يعرف المغترب جيدًا أنها حالة وجدانية، يتضاعف ثقلها مع تساقط كل ورقة خريفية، كأنها ورقة جديدة من عُمر اللقاءات المؤجَّلة.
الخريف بهذا المعنى ليس مجرد فصل في السنة، بل هو مرآة للغربة، ورسالة متجددة بأن كل لقاء يحمل في داخله بذرة الفراق.
وبينما تحصي الطبيعة أوراقها الساقطة، يحصي المغترب مواعيد العودة المؤجلة، ويمضي في عام جديد من الحنين!
في أيلول، لا تتساقط الأوراق وحدها، بل تتساقط معها القلوب المثقلة بالفقد والغياب. فكما يخلع الشجر ثوبه الأخضر استعدادًا للشتاء، يخلع المغتربون دفء الإجازة الصيفية ليعودوا إلى غربتهم، تاركين خلفهم وجوهًا تزداد شوقًا مع كل ورقة تلامس الأرض. أيلول، إذن، ليس مجرد فصل في الروزنامة، بل إعلان متكرر عن أن اللقاء قصير، وأن الفراق أطول عمرًا!
عندما يتحدث المغتربون أمام أقرانهم عما قبل أيلول، فإنهم لا شعورياً يشيرون إلى «العام الفائت»؛ لقد تم تحديث إعدادات الروزنامة الخاصة بهم على وضع «عام جديد»، فبوصلة هذه الروزنامة هو إجازة الصيف، ولقاء الأحبة، إن وجدانهم لا يعترف بمدار القمر ولا مدار الشمس، وإنما بمدار قلوبهم، متى تحط في عشها، ومتى تقلع منه!
مع نهاية شهر أيلول، يصادف اكتمال القمر السنوي، وهو ما يعرف بقمر الحصّادين، حيث يصل القمر إلى طور التمام، ويبلغ سطوعه حده الأعلى خلال العام، بحيث يتشابه الليل في تلك الليلة مع النهار، من شدة سطوع ضوء القمر.
ولعل قلوب المغتربين تسطع في تلك الليلة أيضاً لتصل مداها، معلنة بدء رحلة الخفوت، فما بعد الكمال سوى القصور وما بعد السطوع سوى الذبول!
كما يخلع الشجر ثوبه الأخضر استعدادًا للشتاء، يخلع المغتربون دفء الإجازة الصيفية ليعودوا إلى غربتهم
في روايته «موتٌ صغير» ينقل محمد حسن علوان عن الشيخ الأكبر «ابن عربي» وصفه الشهير للحب بأنه موتٌ صغير، فمع كل حب جديد، وانبثاقٍ لفجر عهدٍ جديد بين عاشقين، يتم بالتوازي معه، ولكن في بُعدٍ ميتافيزيقي آخر، ولادةٌ جديدة لأرواح هذين العاشقين.
هذا الحب والعشق الذي يجمع بين قلبين دون سبب علمي ولا يمكن الاستدلال عليه بناءً على أي دليل مادي، ولا نقضه كذلك بأي أسلوب منطقي أو برهان عقلي.
ولكن ما بعد الحياة إلا الموت، وما بعد اللقاء سوى الفراق، وكل ولادةٍ للحب هي في جوهرها موتٌ آخر، صغير الحجم عظيم الأثر، يهيئ القلب للموت الأكبر الذي ينتظرنا جميعًا!
وكما أن الحب موتٌ صغير، فإن الفصول أيضًا تعلن موتها على مهل. فأيلولُ، وهو يخلع عن الشجر أخضرَه، لا يأتي إلا ليذكّرنا بأن الفقد مكتوب في قلب كل ولادة، وبأن كل لقاءٍ يحمل في طياته موعد الفراق.
هكذا يغدو أيلول موتًا صغيرًا على الطريق ذاته الذي نسير فيه جميعًا، نحو الموت الكبير!
المغتربون -ومن هم على شاكلتهم- يعانون في فصل الخريف من «مرض الحنين» وهو كما يقول الشاعر محمود درويش مرضٌ صحيٌ لأنه يذكّرنا بأننا مرضى بالأمل وعاطفيون!
وللمفارقة فإن هذا الحنين يولد مع كل ضحكة ولقاء دافئ وأغنية جميلة تغزونا من راديو السيارة، أو تحطّ علينا من نوافذ الجيران.
الحنين يعيش معنا ويوجعنا مع كل ذكرى جميلة تمر بنا، ومع كل اتصال هاتفي مع أعالي البحار، أو مع كل خبر قادم من هناك.
أنه الطفل الذي في جوفنا، يناوشنا بين الحين والآخر بركلاته التي توجع قلوبنا!
مع كل هذا الحنين والشعور بالغربة، يتحوّل يومنا إلى مشاهد من ذكريات الماضي، ويمتلئ القلب بكل أسباب الرحيل إلى الماضي القريب، وهكذا تتشكل أحلامنا وتتبلور حول الماضي بدل الخيال!
نكتشف كل يوم أن الوحدة ليست جدرانًا تحاصرنا، ولا مقاعد فارغة نتحاشى الجلوس عليها، بل هي غياب الذين حملوا ملامح حياتنا. فالأمكنة لا تصير موحشة إلا حين تنقصها أصواتهم، ولا يصبح الصمت ثقيلاً إلا حين نفتقد وقع خطواتهم.
والقلب، حين يمتلئ بالذاكرة يتجاوز قدرته على الاحتمال، فيتحول إلى مخزن يفيض بالوجوه والضحكات والخيبات، مزدحمًا أكثر من كمبيوتر عملاق أنهكته الملفات الثقيلة. عندها تتعطل وظائفه الحيوية، فيعجز عن الفرح السريع، ويتباطأ في النسيان، وتصير السعادةُ فيه عملية معقدة، تحتاج إلى إعادة تشغيل لا يعرفها أحد سوى الغائبين الذين يملكون كلمة السر!
وهكذا، يصبح أيلول موعدًا للفقدان المتكرر؛ فكما تفقد الأشجار أوراقها، نفقد نحن دفء من نحب في المطارات والصالات والحدود. غير أن ما يتساقط لا يضيع، بل يتحول إلى حنين حيّ يربط بين الغائبين والحاضرين، يمدّ الجسور بين قلوب متباعدة.
يعلّمنا الخريف أن الفراق ليس نهاية، بل محطة أخرى في دورة اللقاء والانتظار.
*كاتب ومُدوّن من الأردن
www.deyaralnagab.com
|