|
كاتيوشا الروسية: بين الغناء والصواريخ!!
بقلم : مروة صلاح متولي ... 04.11.2025
أغنية «كاتيوشا» من أشهر الأغنيات الروسية ذات الطابع الشعبي، وربما يشعر المرء للوهلة الأولى بأنها من الفولكلور الروسي، ومن أغنيات الشعب المتوارثة التي لا تنسب إلى فنان بعينه، وإنما تنسب إلى الإبداع الجمعي، لكنها في حقيقة الأمر أغنية صدرت عام 1938، كتب كلماتها ميخائيل إيزاكوفسكي ولحنها ماتفي بلانتر. تعد هذه الأغنية من أغنيات العهد السوفييتي، ومن أهم الألحان الوطنية الروسية في زمن الحرب العالمية الثانية، لا تتخذ الأغنية الشكل المباشر الصريح للأغاني الوطنية الحربية، لكنها ذات موضوع رومانسي، وفي القلب من هذا الموضوع يكمن الجوهر والفكرة الرئيسية، التي هي الحرب من أجل الدفاع عن الوطن.
نالت هذه الأغنية شهرة واسعة في الاتحاد السوفييتي، وحققت انتشاراً هائلاً وتغلغلت في وجدان الشعب الروسي، حتى باتت أيقونة موسيقية وطنية ترتبط بالأمجاد الحربية، وتذكي روح الدفاع عن الوطن حتى في غير أوقات الحروب.
صيغت الأغنية على غرار الألحان الشعبية في روسيا، والمعروف أن الموسيقى الشعبية الروسية تعد من أغنى الفنون العالمية المندرجة تحت هذا اللون الفني، وأنها تمثل جوهر الثقافة الروسية وروح الشعب الروسي، وتعد انعكاساً للحياة العامة في القرى الصغيرة والحقول، وغناء الفلاحين والفلاحات في أعمالهم اليومية، وكذلك في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات المختلفة في مواسم الحصاد والزواج، بالإضافة إلى المناسبات والأعياد الدينية، وهي في أغلبها ألحان ممتعة جاذبة لمختلف الأذواق والثقافات، تستطيع أن تصل إلى المتلقي في كل مكان متجاوزة حاجز اللغة، وتتسم بالبساطة والميلودية الجميلة والإيقاع اللطيف. تعتمد أغنية كاتيوشا على بعض العناصر الشعبية من الموسيقى الروسية، كالآلات الموسيقية التقليدية في روسيا مثل آلة البلالايكا الشهيرة، وهي الآلة التي تشبه العود لكن بصندوق مثلث الشكل وأوتار ثلاثة، عندما نستمع إلى صوت آلة البلالايكا يكون ذلك إعلاناً صريحاً عن روسية العمل الذي نصغي إليه، بأنغامها المشرقة المتميزة ورنينها الساطع الحاد قليلاً، وما تخلقه من أجواء شعبية فولكلورية. كما أن اللحن بتكوينه البسيط المتكرر يسمح بأن يشترك الجميع في هذا العمل الفني الذي يهدف إلى تجييش المشاعر الوطنية وتقوية الإيمان بالحرب، فيمكن للشعب أن يغني بشكل جماعي، وأن يصفق مواكباً إيقاع الأغنية الرشيق بما يؤكد شعور الانتماء والاتحاد.
قاذفة الصواريخ وإلهام الأغنية
ألهمت هذه الأغنية أصحاب القرار في روسيا بأن يطلقوا اسم كاتيوشا، على الصواريخ الروسية الشهيرة، أو ذلك النظام الصاروخي المتعدد الذي طوره الاتحاد السوفييتي في الثلاثينيات من القرن الماضي، ثم بات جاهزاً للاستخدام عام 1941، وهو كما يقال نظام يتكون من أنواع ومقاييس مختلفة من الصواريخ، تثبّت على شاحنات سهلة التنقل، ويقال أيضاً إن أول استخدام لهذه الصواريخ كان في النصف الثاني من عام 1941 ضد الألمان. وكان الاسم الرسمي الأول للصواريخ يتكون من عدة حروف وأرقام، لكنهم بعد ذلك ونظراً لأهمية الأغنية ذات الشهرة الواسعة والتأثير القوي في الشعب، أطلقوا اسم كاتيوشا على الإنجاز الصاروخي، الذي كانت تفتخر به روسيا، ويقال إن ستالين كان يأمر بتدمير النوع الذي يقع في يد الألمان، للحفاظ على سرية هذا السلاح الذي كان متطوراً في ذلك الوقت، وكما كانت الأغنية تتردد في كل الأرجاء، كانت الصواريخ أيضاً تنطلق في أماكن عدة. ترسم الأغنية صورة شاعرية لفتاة جميلة تجلس وحيدة على ضفة النهر، ترعى عهد الحب والغرام وذكرى الحبيب الغائب، هذه الفتاة اسمها كاتيوشا، ويقال إن هذا الاسم هو تصغير لاسم ايكاترينا الروسي. أما الحبيب فهو جندي سافر بعيداً ليحارب من أجل الوطن، فهو في نظرها بطل يدافع عن الوطن ويحمي الشعب، وهو يقوم بمهمته على أكمل وجه، بينما تكون مهمتها هي أن ترعى ذلك الحب بإخلاص شديد، كما لو كان الحبيب لا يزال إلى جوارها. على الرغم من صدور أغنية كاتيوشا قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت ملائمة جداً لتلك الفترة، التي ذهب فيها آلاف أو عشرات الآلاف من الجنود إلى أماكن متفرقة، وتركوا زوجاتهم وعشيقاتهم يعانون الوحدة والقلق والانتظار، ويقال إن هذه الأغنية كانت الأكثر ترديداً وانتشاراً في تلك الفترة.
تجمع الأغنية بين وصف مظاهر الطبيعة حيث تجلس الفتاة العاشقة، ومشاعر الحب للجندي المحارب، ومشاعر حب الوطن والالتزام بما هو واجب تجاهه. وتصف الفتاة حبيبها بالنسر الرمادي، الذي يحلق في السماء ويحرس أرض الوطن بشجاعة، فهي تنظر عالياً إلى حبيبها وتراه في مكانة مرتفعة، وتشعر بحمايته لها ولوطنها رغم بعده عنها، وفي هذا رمز لقوة وشجاعة الجندي الروسي أيضاً، وإضفاء مسحة أسطورية عليه بما يرفع الروح المعنوية للجيش والشعب في آن واحد.
تتكون الأغنية من مقاطع فردية ومقاطع يؤديها الكورال الذي يرسل كلمات كاتيوشا للحبيب، ويطلب من الجندي الغائب أن يتذكر حبيبته ويسمع غناءها حتى وهو يقاتل في الحرب، فهي تحمي حبهما كما يقوم هو بحماية الوطن. تبدأ الأغنية بأنغام آلة البلالايكا الجميلة، وهناك حضور أيضاً لآلة الأكورديون، ثم ينساب لحنها البسيط المتكرر الذي يجعلها سهلة التذكر وأكثر التصاقاً بالذهن. هناك العديد من النسخ من هذه الأغنية، فقد غناها الكثير من الفنانين الروس وغير الروس أيضاً، كالتينور الفرنسي فنسنت نيكلو، ومن أشهر الأداءات الروسية أداء أو مجموعة الأداءات التي قام بها كورال الجيش الأحمر الروسي، والمعروف أنها من أقوى الفرق الغنائية في العالم، وعلى الرغم من أنها فرقة عسكرية تماماً، وتتكون من عسكريين حقيقيين، إلا أنها استطاعت أن تحقق شهرة وجماهيرية عالمية كبيرة. ويلاحظ في أغنية كاتيوشا رغم موضوعها الرومانسي ولحنها اللطيف وتناولها للجانب الحربي بشكل غير حاد، أن إيقاعها يمكن أن يكون قريباً بعض ، الذي يناسب السياق العسكري وأداء كورال الجيش الأحمر الروسي، والغناء الجماعي القوي بحماس يثير الشعور الوطني عند الروس.
www.deyaralnagab.com
|