|
حتى نصف الصفحة الأخيرة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 20.11.2025
يقول فرانسوا ريكارد، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة ميغيل، المتخصص في أعمال ميلان كونديرا: «إن أعماله أشدّ الأعمال تطلُّباً»، واستعمل كلمة «تطلُّب» بمعناها الجذري المطلق، موضّحاً أن هذه الأعمال «تقدم للعقل والقلب تحديًا يصعب تقويمه إلى حدّ بعيد، ويُحتّم البحث علينا مجددًا، عن أنفسنا أن نستسلم ونوافق، حقًا».
ربما يكون هذا المدخل مفتاحًا لقراءة رواية كونديرا: «الهوية»، التي ترجمها إلى العربية بصورة بارعة الدكتور أنطون حمصي، وأصدرتها دار الآداب.
تستند الرواية إلى أحداث بسيطة، يومية، وعابرة في منطق الحياة الرتيبة، لكنها كاشفة، محورية، وتشكل بؤرة اختبار حاسمة للشخصيتين الرئيستين: شانتال، وجان مارك- امرأة تنتظر حبيبها في نُـزل ما قرب البحر، حيث من المقرر أن يتبعها. وحتى لحظة قدومه، يكون الرّاوي قد سرد لنا بتفصيل مكثّف وغنيٍّ ومحموم هواجس هذه المرأة، شانتال، تجاه حبيبها الذي يصغرها عمرًا بأربع سنوات، وتفاصيل اللحظة التي جمعتْهما، وأحاسيسها تجاه طفلها الذي اختطفه الموت، وتجاه ذاتها والإحساس بهذه الذات.
يبرع كونديرا في التكثيف وهو يصف الدّاخل الإنساني قبل لحظات انهياره، مستغلاً الطاقة الشعرية القصوى للغة، وهو يذهب مباشرة إلى الدّاخل المصطرع، داخل شانتال، التي اكتشفت فجأة: «لم يعد الرّجال يديرون وجوههم نحوي»، متذكرة في آن، أن حبيبها يصغرها بسنوات، وهذا الهاجس الصّاعق الذي حطّم يقينها بذاتها هو المفتاح الأساس لقراءة هذه الرواية، حين يشكك الرّاوي في حقيقة ما حدث وهو يقول: «وأنا أتساءل: من الذي حلم بهذه القصة؟ مَن تخيّلها؟ هي؟ أم هو؟ أم كلاهما؟ كلّ واحد عن الآخر؟ وانطلاقًا من أية لحظة تحوّلت حياتهما الواقعية إلى هذا الخيال الماكر»؟
لكن المسألة في كتابة الرواية لا تتعلّق بكون الرواية واقعًا أو حلمًا، بقدر ما يتعلق الأمر بذلك الذي يمكن أن نقوله عبر هذا الحلم، أو عبر هذا الواقع، لأن الفرق بينهما يختفي عند الوصول إلى الحقيقة الفنية.
من هذه الزاوية بالذات، يمكن أيضاً الدخول إلى العمل، كتصوّر ما، فني، لماهية الشخصيتين، بعد أن قدّم لنا كونديرا المفتاح المتمثل في: «لم يعد الرجال يديرون وجوههم نحوي»، تلك العبارة التي تطلقها من صدرها، ليسمعها جان مارك، وتقوده بالتالي إلى لعبة ابتداع مُعجب وهميٍّ لحبيبته، يكتب لها الرسائل، فترقُّ، لما فيها من إنسانية، وتخبئها كسرٍّ أثير، ويُخرجها بذلك من دائرة يأسها، لتتفجّر في داخلها امرأة جديدة، جديدة تماماً، تُـبْعَثُ بكل هذا الاندفاع مع جان، إلّا أنها في الحقيقة تتصوّر الرجل الآخر الرّهيف، كاتب الرسائل المجهول.
هنا، واحدة من مهارات كونديرا اللافتة في أعماله التي قرأناها، حيث ثمة خدعة يمارسها الشخص، ويتورّط فيها، ليصعب عليه بعد ذلك العودة إلى نفسه من جديد: شانتال في مرحلة ما بعد الرسائل، هي امرأة أخرى، وجان هو رجل آخر، كما لو أن الوهم هو الذي يرسم خطّ الحياة، لا الحياة نفسها، وليكتشف كلّ منهما، هما اللذان كانا يظنان أنهما يمتلكان وجهين واضحين، أن الواحد منهما لا يعرف الآخر.
«لا تنس أنّ لي وجهين»، تقول شانتال، «ولكن امتلاك المرء لوجهين ليس سهلا».
ويرد جان: «أنتِ عبقرية!»
وترد: «أستطيع أن أمتلك وجهين، لكنني لا أستطيع امتلاكهما في الوقت نفسه».
لكن المدهش في رواية كونديرا هذه، حين يرينا كيف راح جان يركض نحو الشاطئ قبل ذلك محاولاً أن يُحذِّر شانتال من عربة على وشك أن تسحقها، وحين يصل يكتشف أنه يركض نحو امرأة أخرى. ومع هذا، ينتاب جان ذلك الحسّ المفاجئ: «هل الفرق بينها وبين الأخريات إذن بهذه الضآلة»؟
هل كانت تلك الحادثة رؤياه التي مهّدت الطريق لكل شيء فيما بعد؟ ربما، لكن ما يحدث في داخل شانتال يصبح أكثر ضراوة لفرط صراحته: «على ضفة البحر، تذكَّرتْ فجأة ابنها الميت، وغمرتْها موجة من السعادة. قد يخيفها هذا الشعور بعد قليل، ولكن أحدًا لا يستطيع شيئاً ضد هذه المشاعر، فهي موجودة هنا، وتفلت من كل رقابة. يمكن للمرء أن يلوم نفسه على عمل، على كلمة تلفّظ بها، ولكنه لا يستطيع أن يلوم نفسه على شعور، لأنه بكل بساطة لا يملك أية سلطة عليه. كانت ذكرى ابنها الميت تملؤها سعادة.. وذلك يعني أن وجودها إلى جانب مارك مُطلَق، وقد استطاع أن يكون مُطلقًا بسبب غياب ابنها».
يلعب كونديرا هنا في المناطق الوعرة، الأكثر قتامة، بفعل سريَّتها ووحشيتها الصادمة، ويعود إلى شانتال مرة تلو أخرى ليؤكد هذا الإحساس، الذي لا يمكن أن يعذبها بقدر ما يعذب قارئًا يصدمه بهذه القدرة على البوح. بمعنى أن المسألة هنا لا تقوم على حقيقة أنها موجودة ويمكن الإحساس بها أم لا، بل في القدرة على الجهْر بها.
لذا، تبدو الرواية رغم حجمها الصغير، محتشدة رغم أحداثها البسيطة، مسرحاً للنفس وهواجسها؛ فشانتال التي تحسّ بسعادة فقدان ابنها لأن ذلك منحها مُطلق الحرية ومطلق الحبّ، حسب قولها، ومنحها الخصوصية حين مكّنها الموت من أن تحصل على هذه الخصوصية، وهي تنفصل عن زوجها فيما بعد، وتنفرد بشقة خاصة أيضًا، وحبيب- تطوِّح بكل شيء إلى الشارع ما إن تُمسَّ هذه الخصوصية، في ذلك الموقف المتفجّر، حين تزورها شقيقة زوجها فجأة مع أطفالها، ويبدأ الأطفال بالعبث بأشيائها، بما في ذلك ألبستها الداخلية وما تخفيه من رسائل، بحيث يدفعها الأمر لطردهم من البيت، رافضة أن يمضي أحد الأطفال حتى بتلك التفاحة التي تناولها من على الطاولة، إذ تصرخ: «من سمح له بذلك»؟
إنها رواية مكرسة لحاجة الإنسان إلى العزلة، مهما كان الثمن؟
وبعد:
كان يمكن أن تُقرأ الرواية في هذا المسار، وكان يمكن لكونديرا أن يحقق الجزء الثاني من قول ريكارد، ومعه نقاد آخرون وهم يصنّفون أعماله بأنها مُخرِّبة، لكن نهاية الرواية لا تنبئ بذلك، ولا تحمل جوهره، حيث تبدو توفيقيّة، ونحن نرى الحبيبين معًا، وحسب وصف الرّاوي: «أرى رأسين، من زاوية جانبية، يضيئهما نور مصباح سرير صغير».. وهي تقول: «لن تفلتَ بعد اليوم من نظري، سأنظر إليك دون انقطاع».
ربما تكون هذه النهاية هي معضلة «الهوية» بشكل أو بآخر، لأنها طوَّحت بعيدًا بمقدماتها غير التقليدية، وقادتها مرغمة نحو نهاية بالغة التقليد، وجرّدتها من سطوتها الصاعقة التي ظلّت قابضة عليها كالجمرة، حتى نصف الصفحة الأخيرة!
www.deyaralnagab.com
|