|
في وداع جيمي كليف: حين تتحول الأغنية إلى مقاومة ونداء للسلام!!
بقلم : مروة صلاح متولي ... 02.12.2025
رحل مؤخراً عن عالمنا الفنان الجامايكي جيمي كليف رائد موسيقى الريغي في العالم، أول من أطلق شرارة هذا الفن من جزيرة جامايكا في منطقة البحر الكاريبي، لتسري حرارته عبر القارات والبلدان، ويجذب أسماع الجماهير الواسعة من مختلف الثقافات بما يقدمه من موسيقى مختلفة ذات طابع متميز، وكلمات تخاطب الإنسانية بأسرها وتعلن عن مواقف أخلاقية تجاه الحروب ومظاهر الظلم والقهر والتهميش كافة. اتخذت موسيقى الريغي مكانتها وسط موسيقى العالم، وحققت تأثيراً هائلاً في فترة من الفترات لا يزال ممتداً إلى اليوم، وتحول نجومها إلى أيقونات خالدة مثل بوب مارلي، الذي انقضت مسيرته الفنية بموته المبكر في مطلع الثمانينيات.
ولد جيمي كليف عام 1944 في جامايكا باسم جيمس تشامبرز، وعندما اعتنق الإسلام في السبعينيات سمى نفسه الحاج نعيم البشير، لكن اسمه الفني ظل جيمي كليف. تعلم الموسيقى والغناء منذ طفولته في الكنيسة، وبدأ تلحين وكتابة كلمات أغنياته الخاصة الأولية، عندما كان لا يزال طالباً في المدرسة، وتواصلت محاولات الظهور والوصول إلى الجمهور إلى أن تم الانطلاق في بداية الستينيات، وتزامنت مسيرته الفنية مع حصول بلاده التي كانت مستعمرة بريطانية على استقلالها. شارك كليف تمثيلاً وغناء في الفيلم الجامايكي The Harder They Come عام 1972، حقق الفيلم نجاحاً عالمياً هائلاً بما ضمه من أغنيات تعد من أبرز أعمال جيمي كليف وعلى رأسها أغنية Many Rivers to Cross، وبذلك انفتح الباب أمام موسيقى الريغي نحو ذروة انتشارها في العالم.
من جامايكا إلى العالم
الريغي كما هو معروف، لون موسيقي محلي نشأ في جامايكا، تطوراً عن أنواع موسيقية أخرى ضاربة في عمق ثقافة الجزيرة، تتميز موسيقى الريغي بإيقاع بطيء منتظم، إيقاع يفرض حضوره ويطغى كسمة أساسية بارزة تميز هذا اللون، وعلى السامع أن يستجيب لهذا الإيقاع وأن يتبعه من أجل أن يلتمس روح الريغي، وينفذ إلى بعض أسراره. عبر موسيقى الريغي صار جيمي كليف سفيراً لبلاده، ناشراً ثقافتها وفنونها في كل مكان، وقدّرته بلاده بأعلى تقدير يمكن الحصول عليه في جامايكا، وهو وسام الاستحقاق، كما نال تقديراً عالمياً من خلال بعض الجوائز الموسيقية الدولية، وإلى جانب هذا الاعتراف الرسمي والنقدي، نال كليف تقديراً جماهيرياً واسعاً وحقق شعبية كبيرة، كما أعاد غناء أعماله بعض نجوم العالم والفرق الغنائية الشهيرة، كما أعاد كليف أيضاً غناء بعض أعمال غيره من الفنانين، كأدائه لأغنية كات ستيفنز Wild World بأسلوب رائع حقق نجاحاً باهراً.
امتلك جيمي كليف صوتاً جميلاً قوياً على درجة كبيرة من النقاء، جعله في مصاف الكبار من المطربين في العالم مثل، سام كوك وفريدي ميركوري على سبيل المثال. هذا الصوت الذهبي ذو النبرة المشرقة يستطيع أن يصل إلى السامع مباشرة، كما لو كان يخاطبه بشكل فردي، ويتميز بإحساسه العميق وقوة الإلقاء، بالإضافة إلى المدى الواسع والوصول إلى الطبقات المرتفعة بسهولة دون حدة كبيرة، ولا يخلو هذا الصوت من اللمسة الواقعية التي تمكنه من التعبير عن المواضيع الثائرة والنضالية، ويمكن ملاحظة التدفق والسلاسة والإنسيابية التي تمزج صوته بشكل طبيعي مع موسيقى الريغي. كان كليف يعزف على آلة الغيتار ويلحن أغانيه ويكتب كلماتها بنفسه، ما يجعل أعماله تجربة فنية متكاملة ذات أسلوب قد يبدو بسيطاً للوهلة الأولى، لكنه ينطوي على حس إنساني عميق وعناصر جمالية دقيقة.
فيتنام وعبور الأنهار
تأخذنا كل أغنية من أغنيات كليف إلى عالمها الخاص وتجربتها الشعورية المتفردة، بكلمات تلامس شيئاً في نفس السامع مهما اختلفت لغته أو ثقافته، وأفكار إنسانية يتمنى الجميع تحققها، وكذلك بموسيقى تنساب بإيقاع وأجواء الريغي المعهودة، وألحان تعتمد على الجمل الموسيقية الطويلة إلى حد ما، التي تتطلب النفس الطويل عند الغناء، وتتسع لإظهار العاطفة المرتبطة بكل كلمة. كان كليف يميل إلى التعبيرات الواضحة التي لا تخلو من الصور الجمالية والخيال أيضاً، لكن بأسلوب لا يسبب تعقيداً أمام المتلقي، وذهب إلى مواضيع الإرادة والصمود والعدالة والأمل، الذي لا يخبو مهما كانت الصعاب، وتحويل الألم إلى قوة، فهو عندما يتناول آلام الضياع والظلم والحرمان والإحباط، يكون حديثه معيناً على بناء الثقة الداخلية والوقوف من جديد.
وذهب كذلك إلى بعض المواضيع السياسية والاجتماعية، التي لامست الظلم الطبقي في بلاده في الستينيات والسبعينيات، وانتقدت الفقر والتمييز والتهميش ودعت لتحقيق المساواة. في أغانيه، كما في حياته. كان كليف يؤمن بالسلام العالمي والمحبة بين جميع البشر، ولا يخفى الطابع الروحاني غير المباشر في الكثير من أعماله، الأمل الدائم والرجاء الذي لا ينقطع والسكينة الداخلية وتمني الخير للبشر أجمعين.
كثيرة هي أغنيات جيمي كليف الرائعة، لكن تظل أغنية Many Rivers to Cross من أجمل وأشهر أغنياته القديمة، التي لا بد من ذكرها عند الحديث عن هذا الفنان كبير، أنهار كثيرة لأعبرها، هكذا كان وصف كليف للعقبات المتتالية التي تعترض طريق المرء في رحلة طويلة منهكة، ولا يمكن نسيان بداية هذه الأغنية الهادئة بجملتها اللحنية الطويلة، التي تعكس الإحساس بالحزن والتعب والضياع، وكذلك الشعور الشديد بالوحدة، إلى درجة أن يقول، إن الوحدة لن تتركه وحيداً، عن كل ذلك يعبر جيمي كليف لكن بتماسك ومقاومة واستمرارية وإصرار على عبور جميع الأنهار.
كذلك تعد أغنية «فيتنام» من أعماله الأيقونية البارزة ونشيداً من أناشيد مجابهة الحروب، صدرت الأغنية في مطلع السبعينيات احتجاجاً على حرب فيتنام المريرة، وغناها كليف بعد ذلك احتجاجاً على حروب أخرى كثيرة قائلاً: لا نريد فيتنام أخرى. من خلال هذه الأغنية يحكي كليف حكاية قصيرة مؤسية، تقف وراءها مأساة كبرى هي مأساة الحروب وضحاياها في كل زمان ومكان، سواء كان هؤلاء الضحايا، ممن وقعت عليهم الحرب، أو من جنود الجيش المعتدي، الذين يجلبون قسراً كوقود لإشعال نيران القوة والجبروت والطغيان. يتردد اسم فيتنام كثيراً في الأغنية، ويروي لنا كليف عن رسالة تلقاها من صديق له يحارب في فيتنام، يطمئنه أن مهمته قاربت على الانتهاء وأنه سوف يعود قريباً إلى أمريكا، ويطلب منه أن يوصل عبارة غزل رقيقة إلى محبوبته ماري، لكن في اليوم التالي تتسلم أم صديقه برقية تخبرها بموت ابنها في فيتنام، ويرتفع الصوت: أوقفوا هذه الحرب الآن.
*القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|