حبوب الاستشراق للتخلص من صداع «البريكست»… متلازمة «المسلم – العدو» توّحد بريطانيا المنقسمة!!
بقلم : ندى حطيط ... 05.10.2018 مما لا يترك مجالاً للشك أن الشعبيّة الجارفة في مجتمعات الغرب لمنتجات تحمل رسائل ثقافيّة مسمومة تكشف عن – وتكرس في الوقت ذاته – خطورة الأوهام التي تستمر الطبقات الحاكمة في تسويقها لمواطنيها بهدف صرف أنظارهم عن مصاعب حياتهم نحو حروب رموز ثقافيّة متخيّلة في مواجهة مع الفقراء الملونين.
تلك هي تماماً مهمة معظم منابرهم البصرية، وتلك أيضاً كانت مهمة «الحارس الشخصي» هذي المرّة، هذا المولود التلفزيوني، الذي أنفق عدد قياسي من البريطانيين سهرة نهاية الأسبوع خلال شهر ونصف على مشاهدة حلقاته الست – والتي عرضتها القناة الأولي على فضاء ال (بي بي سي)- إلى حد أن وصفته الصحافة بأنه أنسى البريطانيين أوجاع «البريكست» ولو لفترة مؤقتة، وبدا كأنّه استعاد للتلفزيون في المملكة المتحدة أيّاما ذهبيّة كانت تخلو فيها شوارع الجزيرة الرماديّة من السيارات، قبل أن تتبدد تلك الأيّام على يد «نيتفليكس» وأخواتها اللواتي أعدن صياغة طريقة تلقي المشاهدين للأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة بالكليّة.
هذا المنتج التلفزيوني، الذي يتمحور حول علاقة حميمة تتطور بين شخصيّة وزيرة داخليّة المملكة المتحدة جوليا مونتاج (لعبت دورها كيلي هاوز) وحارسها الأمني الشخصي ديفيد بَد (لعب دوره الأسكتلندي ريتشارد مادن) نجح من خلال بناء جرعات تشويق درامي متصاعد في استدراج حشود المشاهدين إلى العودة للمزيد، مستخدماً خليطاً من أدوات المؤامرة، والجنس والغياب المفاجىء وتقلّب المزاجات الحاد ومناقضة التنميط يبدو كلا منها منعزلاً أقرب للسذاجة البريطانيّة المعهودة في الدراما بينما تفاعلها معاً أنتج خليطاً مؤثراً لا يُقاوم.
طرح سياسي جريء بمقاييس «بي بي سي»
يحاكم «الحارس الشخصي» في أحد محاوره الأساسيّة مسألة تورط الحكومة البريطانيّة في حروب واشنطن في الشرق الأوسط بين أفغانستان والعراق.
هذا الطّرح مع ذلك لا يمسّ تأثير آلة القتل البريطانيّة على الضحايا في البلدين، بل يبقى حصريّاً داخل دائرة انعكاسات تجربة الحرب صحيّاً وسايكولوجياً على جنود جلالة الملكة العائدين من جولاتهم الدمويّة هناك، ويظهر كمّ التشوهات النفسية والسلوكيّة – والجسديّة أحياناً – التي جلبها معهم هؤلاء وتمنعهم من العودة إلى حياتهم الاعتياديّة مرّة أخرى.
بالنسبة لـ«بي بي سي»، وهي لسان حال السلطة البريطانيّة فإن هذا الطرح، رغم أنه يستهدف بناء التعاطف مع القتلة دون المقتولين، فإنه يعدّ بمثابة نقاش مجتمعي واسع حول مسألة المشاركة في حروب استعماريّة، وهي المسألة التي طالما استهدفت السلطات التعتيم عليها وإبعادها عن النطاق العام والاكتفاء بمعالجتها كحالات فرديّة معزولة لجنود أصيبوا بصدمات سايكولوجيّة وعصبيّة أثناء أدائهم للواجبّ!
الجندي السابق ديفيد بَدْ، والعائد من أفغانستان عاش – وفق الأحداث – تلك التجربة التي منحته القدرة على مراقبة الأشياء من حوله واعتبار كل شخص يراه بمثابة تهديد إرهابي محتمل، وهو ما سمح له بتجنب كارثة محاولة تفجير انتحاري على قطار متجه إلى لندن كان يستقله حاولت تنفيذها سيّدة مسلمة محجبة. منجزه البطولي هذا فتح له الأبواب لتولي وظيفة ضابط الحماية الشخصيّة لوزيرة الداخليّة.
سيناريو جبان يقصر المؤامرة على صراعات الأجهزة الأمنيّة
الوزيرة مونتاج، التي يبدو من سياق الأحداث أن ولاءاتها السياسيّة يمينيّة محافظة اعتبرت الهجوم الإرهابي فرصة لفرض قانون جديد صارم من شأنه إعطاء سلطات الأمن صلاحيّات أوسع في الرقابة على المواطنين – داخل بلد تخضع فيه كافة الإتصالات والمراسلات الإليكترونيّة لرقابة الأجهزة الأمنيّة ويتمتع فيه كل مواطن بفرصة التقاط ما معدله 300 صورة يومياً على كاميرات المراقبة لدى تنقله الاعتيادي -. وهو ما يتسبب في معارضة واسعة لها من قبل المجموعات المعنيّة بالحفاظ على خصوصيّة المواطنين. لكن كاتب العمل لا يبدو معنياً بالسياسة بقدر ما يرى العالم كساحة لتقاطعات الأجهزة الأمنيّة وتنافسها على النفوذ ومواقع التأثير من وراء الكواليس في المجتمع المعاصر، وهي رؤية قاصرة تتخاذل عن مواجهة الدولة العميقة التي تمسك بزمام المجتمع البريطاني وتجرأت أعمال دراميّة بريطانيّة سابقة على تجسيدها وتجريمها.
مخالفة التنميطات الجندريّة
أدت النساء أدوراً أساسيّة بكل مراحل العمل سواء في مواقع القيادة وزيرة صارمة ورئيسة أجهزة أمنية ومحققة وشرطية كما زوجة وأماً وحتى في دور العقل المدبّر للأعمال الإرهابيّة.
كل هذه الشخصيات كانت معقّدة متعددة الأبعاد وقادرة على أن لا تكون مثاليّة دائماً، وقدمت مواقف ضعف وقوّة إنسانيّة في المجريات المختلفة جعلتها قريبة للواقع وأكسبت المُنتَج مزاجاً مختلفاً بالكليّة عن صيغة جيمس بوند المبتذلة والغارقة في الذكوريّة المسطحة.
لكن جزءا هاماً من متانة العمل جاء عبر مخالفة سلوك شخصيات رئيسة فيه لتنميطات وكليشهات معهودة عن أدوار النساء والرجال في المجتمع البريطاني. فصورت ناديا – الفتاة المسلمة المحجبة التي حاولت تنفيذ هجوم انتحاري داخل القطار وأقنعها ديفيد بَدْ بالامتناع عنه على عتبة اللحظات الأولى من المسلسل – صوّرت كما توقعناها جميعاً: إمرأة ضعيفة وخاضعة لأهواء الرّجال الذين أرسلوها للتضحية بحياتها من أجل ارتكاب جريمة قتل جماعيّة، واعتبرها الجميع ضحيّة بلهاء تتلعثم في الإجابة على أسئلة المحققين وتستجيب لتوددات ديفييد بَدْ بتقديم المعلومات للسلطات.
هذه الصورة النمطيّة للمرأة غير البيضاء البشرة – لا سيّما المسلمة المحجبة – شائعة جداً في المجتمع الغربي عموماً، وهي صورة تجعلها وكأنها غير قادرة على التفكير المستقل أو التحكم في آرائها أو سلوكها أو حتى مظهرها الخارجيّ. لكن المسلسل يكسر كل هذا الشعور الزائف بأمان التنميط عندما يكشف عن أن لناديا وجه مغاير مناقض للتصورات.
كسر التنميط لم يكن نسوياً فحسب في «الحارس الشخصي» بل امتد أيضاً إلى الدور الرئيس لشخصية الذكر الأبيض الذي يلعب البطل الفرد الخارق في مواجهة المؤسسة.
إذ أن ديفيد بَدْ العائد بأحمال سايكولوجيّة ثقيلة من جولاته الأفغانيّة يلجأ إلى تجاهل صراعاته النفسيّة ويخفي آلامه ويمتنع عن تلقى المساعدة المحترفة حتى بعد محاولته الانتحار وهو ما كاد يتسبب له بخسران كل شيء بما فيه حياته ذاتها. وبذلك يطرح العمل قضيّة هامة في مجتمع يتربع الانتحار على رأس قائمة أسباب الموت لمن هم دون الـ 40 عاماً، وربما يلهم الشبان البريطانيين لتقبل فكرة الحاجة للمساعدة والتعبير عن عواطفهم وإعادة تقييم كيفيّة تعاملهم مع صحتهم العقليّة.
«الموت القادم من الشرق»
محور «الحارس الشخصي» الأهم يبدو في قدرته على إظهار مجتمع بريطاني متعدد الأصول والمنابت موحداً لا يعاني من انشطارات داخليّة، تتنافس فيه الأطراف المختلفة تنافساً صحيّاً على ضمان أمن البلاد ورفاهيتها، وهي حالة لا تشبه أبداً واقع الاستقطاب الطبقي والقومي والسياسي بين فرقائه لا سيّما بعد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي «البريكست».
ويحقق العمل ذلك التوحيد المُنافي للحقيقة من خلال تكريس الوهم المتجدد عن الآخر العدو – المسلم ذي البشرة الملونة الذي لا يريد ببريطانيا البيضاء خيراً ويمارس كل أشكال العنف والتآمر والفساد الممكنة لإرهابها. إذ تبدو خطوط التآمر المتشابكة على مختلف المستويات وكأنها تلتقي لخدمة مشروع مبهم أبطاله رجال ملتحون ونساء محجبات.
هذا الفخ التنميطي – الاستشراقيّ – الكبير الذي سقط فيه العمل منح البريطانيين مساحة للراحة النفسيّة يهربون فيها من واقعهم الكابوسي وأجواء جرف الهاوية إلى واحة انسجام مجتمعي كاذب في مواجهة العدو المتخيل – الأزلي -: «الموت القادم من الشرق» المسلم! *إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية..المصدر: القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|